القرن العشرون تاريخ أفكار. بعضها ولى وأدبر، وبعضها نما وتقدّم، والبعض الآخر وُلد حديثاً وأخذ يشب على دروب الحياة. كان القرن العشرون شاهداً لحروب ضارية ولعقائد متوارية ولأفكار تنعش الإنسان وأخرى تسهم في اختناقه عمداً أو من غير عمد. وعلى رغم الأحداث الجسيمة التي سجلت أثراً في القرن العشرين والتي ساهمت في صنع التاريخ غير ان بعض الأفكار التي تشكلت في ذاكرة القرن دخلت بدورها، والى جانب الحدث، في صناعة تاريخ موازٍ رسم المعالم الرئيسية والسمات الكبرى لصورة العصر وخصائصه. من هنا كانت هذه المحاولة لرسم بعض الخطوط الحادة التي توضح صورة القرن العشرين لا من حيث أحداثه بل من خلال أفكاره. علّنا بذلك نقترب من روح العصر الذي نشأنا على التحدث عنه بصيغة الحاضر، وفجأة دخل الأمس فبدأنا نتحدث عنه بصيغة الماضي. من المعاني التي حملتها العربية في مطلع القرن محاولات قطع الطريق على استعمار جديد يتبع الاستعمار الأوروبي، وبخاصة البريطاني في الخليج والفرنسي في لبنان وسورية، تمكن من استيعاب حركات التحرر العربي بتوزيع مناطق النفوذ بين الدولتين المنتصرتين في الحرب العالمية الأولى. وجاءت اتفاقية سايكس - بيكو تكريساً لتوزيع هذا النفوذ تحت قناع الانتداب. والثورة العربية محاولة لنزع الخلافة الإسلامية من يد العثمانيين الأتراك واعادتها الى العرب. غير أن الخلافة سقطت من يد الامبراطورية المنهارة وضاعت في خضم ثورة طمحت الى الكثير وما جنت سوى ضم الحجاز الى سلطنة نجد. والثورة العربية محاولة معاصرة لتوحيد العرب لكنها أخفقت في سعيها حتى وصول السلطان عبدالعزيز وتمكنه من توحيد أجزاء من شبه الجزيرة واعلانه عن تأسيس المملكة العربية السعودية. وعلى رغم وجوه الفشل للثورة العربية على المستويات السياسية والعسكرية والقومية والدينية غير انها تبقى علامة إرهاص عربي راسخ للوقوف بوجه تجديد النفوذ الأوروبي على المشرق العربي بصيغ وأشكال جديدة، آخرها وأشرسها النفوذ الصهيوني وقيام الدولة العبرية. ماذا بقي من "الثورة العربية"؟ حتى روح الاستنهاض، استنهاض العرب ضربها الخمول والتقهقر بل الشرخ العربي الذي كرسته حرب الخليج. وكأن الصحراء العربية شاهد أبدي على القحط السياسي العربي خصوصاً على مستوى القيادات العربية التي تضرب عرض الحائط كل محاولات التغيير والحرية والعمل الديموقراطي وكسر دوامة السلطة الثابتة سواء في ملكيات معلنة أم في جمهوريات الملكية غير المعلنة. هذه الخلفية السياسية في المجتمعات العربية كانت واحدة من أسباب تكريس فكرة "الزعيم الأوحد" الذي لا تزحزحه الملمات بل لا تزحزحه الحروب والمقاطعات السياسية والاقتصادية. تجاه هذه الأمراض التي نخرت وما تزال تنخر الجسم العربي اطلت "الدولة العظمى" اليتيمة لتفصل كما تشاء سيناريوات عاصفة الصحراء وثعلب الصحراء ورعود الصحراء وزوابعها ونحن كرماء في مدها بالحجج والذرائع التي لا تنتهي. والنتيجة شعب شريد طريد ومحاولات فاشلة للظهور بمظهر الثورية ومقاومة الاحتلال. وبالمقارنة مع بداية القرن تتحول العربية من الحقيقة العاجزة الى وهم وسراب يسهمان بصورة مباشرة، أو غير مباشرة، في مزيد من الشرخ العربي والتفتت الذي يتجاوز الخلاف بين الدول العربية الى انقسامات طائفية ومذهبية وعرقية تهدد العديد من هذه الدول بمستقبل قاتم. من الأفكار السياسية التي كانت سائدة في مطلع القرن وفي ظل الامبراطورية العثمانية تلك التي تشير الى طبيعة النُظُم السياسية السائدة آنذاك في لبنان والعالم العربي وسائر أطراف الامبراطورية. ومنها فكرة الولاية التي قد يكبر حجمها الى حدود مصر أو يصغر ليستقر على قياس بيروت أو عكا وضواحيهما أو ملحقاتهما. والولاية من الولاء، والولاء ضرورة لا بد منها لكل نظام سياسي خصوصاً اذا كبر حجمه وامتدت رقعته لتشمل أطراف الامبراطورية من قبل أوروبا حتى بلاد الفرس. وجاءت فكرة المتصرفية في ستينات القرن التاسع عشر لتجد حلاً، ولو موقتاً، للمسألة اللبنانية. والمتصرفية مشتقة لفظاً من التصرف والمتصرف. وغني عن البيان ان التصرف يتمتع بشيء من الاستقلال فحين يُطلب من فلان ان يتصرف يعني ان تتوقع منه ان يتخذ قراراً وينفذه، وان يتخذ القرار بمعزل عن سواه من الذين يحاولون التأثير عليه في شكل أو بآخر. صحيح أن أفكار الولاية والمتصرفية سبقت القرن العشرين لكنها تركت بصماتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية على العقدين الأولين من هذا القرن أي حتى بعيد الحرب العالمية الأولى حيث بدأ القاموس السياسي في لبنان ودنيا العرب يفتح الأبواب للغة جديدة ولأفكار سياسية تدل على نُظم لم تكن مألوفة من قبل في هذه المنطقة من العالم. ويبدو ان الملكيات المتبقية في نهاية القرن وجدت نفسها مرغمة على حصر النظام الملكي في رمز سلطة الدولة ووحدتها وسيادتها والإفساح في المجال أمام السلطتين التنفيذية والتشريعية لتتحمل مسؤولياتها السياسية بعد ان يشترك الناس في انتخاب ممثليهم في المجالس النيابية. أما النظام الجمهوري الذي باتت تتسع رقعته بين الدول النامية فهو يعاني من عسر هضم المفهوم الديموقراطي لجهة التمثيل الشعبي الصحيح والمشاركة في اتخاذ القرار وخوض العمل السياسي المشترك النابع من صحة التمثيل وصحة المشاركة. ومن المؤسف ان تشهد نهاية القرن العشرين بعض الأنظمة التي تدعي نظاماً سياسياً معيناً وتمارس نظاماً آخر كثيراً ما يكون مناقضاً للنظام المعلن. فالعديد من جمهوريات الدول النامية ما تزال في حقيقة أمرها أنظمة عسكرية ديكتاتورية وعمليات الانتخاب فيها ليست سوى تغطية أو قناع لممارسات معاكسة ومناهضة لما تدعيه من حريات ديموقراطية. حتى أن القوة العظمى التي تدعي حماية الديموقراطيات في العالم تسمح لنفسها بممارسات تعتمد القوة العسكرية المغلفة بشعارات الحرية والديموقراطية وحق تقرير المصير. أخذت كل من الديموقراطية والشيوعية في مطلع القرن تدعي ايديولوجية تبتعد بالسلطة عن النخبة لتقترب بها من الجماهير. وباتت الديموقراطية تعتبر تدريجياً، بين الحربين العالميتين وخلال الحرب الباردة، نقيضاً للشيوعية والاشتراكية والفاشية. في هذا النقيض كانت مساوئ الديموقراطية متأتية عن ممارسات تكرس سلطة رأس المال والطبقة الثرية باسم النظام الاقتصادي الحر وباسم حرية المعتقد السياسي وحرية القول والعمل. وكثيراً ما كانت هذه الشعارات تواجه بممارسات معاكسة تناقض المبادئ التي انطلقت منها ثم تحاول ان تجد لنفسها كل المبررات التي قليلاً ما تستند الى قوة المحاجة والاقناع. والصحيح أيضاً ان الديموقراطية في الولاياتالمتحدة مثلاً "لم تنشأ من أحلام المنظرين بل ولدت في الغابات الأميركية واكتسبت قوة جديدة كلما اخذت تلامس آفاقاً جديدة". أما الديموقراطية في أوروبا فقد كانت متقدمة عن سواها في كل من فرنسا وبريطانيا حيث كان يتمتع مجلس النواب بسلطة إقالة الحكومة. في حين عانت الديموقراطية في سائر البلدان الأوروبية من استغلال السلطة ومن الاستئثار بها على حساب الآخرين. ويلاحظ الدارس ان الديموقراطية المعاصرة راحت تدعو في نهاية القرن العشرين لا الى تحرر الافراد والشعوب وبحسب بل الى صون حقوق هؤلاء في العيش العادل الكريم. فشرعة حقوق الإنسان التي ولدت قبيل منتصف القرن قد تحولت تدريجياً من شرعة سياسية الى شرعة اجتماعية واقتصادية وثقافية، كما تحولت من وثيقة تشريعية، من وثائق الأممالمتحدة، الى سلسلة من المبادئ التي تحاول اعداد الفرد اعداداً سياسياً واجتماعياً لمستوى القدرة الانتاجية التنافسية مع فجر القرن الواحد والعشرين. على رغم أن المفهوم السياسي للقومية هو من نتاج القرن التاسع عشر غير انه اتخذ اشكالاً مختلفة في الصراع العسكري الذي شهدته أوروبا في الحربين العالميتين في النصف الأول من القرن العشرين. وعلى نقيض ما ادعته القومية من تحقيق الصلاح والقوة لأبناء الأمة الواحدة فإن العصبية التي عصفت في أبناء القوميات المختلفة قد أدت الى شبه دمار لتلك الشعوب فدفعت ثمناً باهظاً لعصبياتها القومية. والملاحظ ان التيارات القومية قد انتقلت في الزمان أو المكان من طور الى آخر. فبعد ان كانت سبباً اقتصادياً وسياسياً للقوميات الأوروبية في نشأة الاستعمار خلال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، قد تحولت مع منتصف القرن، وفي كل من آسيا وافريقيا، الى سبب مباشر لتقويض الاستعمار والدعوة الى استقلال الدول الصغيرة والكبيرة التي عانت من ويلات الاستعباد والاستغلال وقمع الحريات. في المقابل نجد ان العولمة هي محاولة لتجاوز مبدأ استيعاب الاختلافات وصولاً الى مبدأ التأهيل الدولي أو القدرة التنافسية. من هنا إن ادارة الأعمال ضمن الثقافة الكونية قد حلت محل "ادارة" الحوار بين الثقافات. لذا أصبحنا امام التحدي: الى أية درجة نحن قادرون على المساهمة في تعزيز المجتمعات المتداخلة والمتفاعلة؟ واذا كانت العولمة تسعى لمحو الفروقات الحضارية فإلى أي مدى نحن جاهزون لاستيعاب هذه الفروقات فردياً وجماعياً؟ ثم ان العولمة تطرح سلماً من القيم الجديدة التي يصنفها بعض الباحثين ضمن ما يسمونه "النسبية الثقافية ما بعد الحداثة". والسؤال النقدي المطروح: هل يسمح حوار الثقافات بعمل ابداعي معني بحضارة اخرى أو بنتاج أدبي حول ثقافة مخالفة، أو حتى مغايرة، لثقافتنا؟ ثم ان التعددية الحضارية أو التلاقي بين الحضارات أمر يتنافى مع فكرة القرية الكونية اذا كانت تعني صيغة متقدمة من صيغ وحدة الثقافة الانسانية. كذلك فإن مبدأ "النسبية الثقافية" تجعل من فكرة الانفتاح الحضاري أو الحوار المفترض بين الثقافات أمراً نسبياً أيضاً. وتبدو هذه النسبية معياراً فكرياً يواكب الحداثة من جهة ويخلق ارتجاجاً أساسياً، كي لا نقول شرخاً، في معنى العولمة المعاصرة. قد تكون بذار السلام السياسي الحديث التي انطلقت مع الرئيس ولسون حاملة في طياتها الدعوة الى السلام الاقتصادي ومنها حرية التجارة، وحرية التنقل في البحار، والحد من التسلح. ومن أبرز مرتكزات السلام السياسي في مطلع القرن العشرين: حرية تقرير المصير للشعوب كافة، والدعوة الى "جمعية عمومية للأمم" لمواجهة مشكلاتها المستقبلية. وسرعان ما تحولت فكرة جمعية الأمم الى "عصبة الأمم" كما اعتمدت التسمية لاحقاً. كأن العالم المثخن بجراح أول حرب عالمية في مطلع القرن اعتبر ان احدى وسائل السلام تكمن في البحث عن مبادئ وأفكار مناهضة لتلك التي شكلت سبباً مباشراً لتلك الحرب. والملاحظ لاحقاً أن اتفاقات الغات ونزع السلاح النووي وتعزيز امكانات البنك الدولي وسواها باتت تدريجياً باباً اقتصادياً دولياً، ولا نقول مخرجاً، لمحاولات تكاد تكون يائسة للتوصل الى منظومة اقتصادية تؤمن بعض التوازن الاجتماعي والمعيشي بين دول الشمال ودول الجنوب. وعلى رغم الفشل الذي ما يزال غالباً على معظم المحاولات الساعية لتصغير الهوة بين الفريقين فإن تلك المحاولات باتت تتسم مع نهاية القرن بطابع من الجدية والموضوعية أكثر من الماضي للتوصل الى بعض الحلول الممكنة بهذا الصدد. من نتائج الحرب العالمية الأولى ومن أولى مهام عصبة الأمم وضع حد للاستعمار الأوروبي خصوصاً في افريقيا والشرق الأوسط. والقبول بفكرة الانتداب بصورة مرحلية بحجة اعداد الشعوب التي كانت تحت نير الاستعمار لممارسة السلطة تدريجياً وتأهيلها لنيل الاستقلال. وتفاوتت الصعوبات في تحقيق هذه الهدف السياسي. فبعض الشعوب نالت استقلالها بأسرع فترة خسارة بشرية ومادية ممكنة. وتتحول الثنائيات السياسية تدريجياً. فمن ثنائية المحور/ الحلفاء في مطلع القرن وقبيل منتصفه الى ثنائية المعسكر" الشيوعي بزعامة الاتحاد السوفياتي والمعسكر الغربي بزعامة الولاياتالمتحدة. ويُساق هذا التحول من انهيار جدار برلين، رمز الفصل بين المعسكريين، وانهيار المعسكر السوفياتي من ورائه الى انفراد الولاياتالمتحدة في العقد الأخير من هذا القرن بالسيطرة السياسية والعسكرية والاقتصادية. ومن مساوئ هذا الانفراد الكيل بمكيالين والأخذ بمعيارين خصوصاً في الصراع العربي الاسرائيلي وحرب الخليج. كذلك نجد من تلك المساوئ تسليط الأضواء على بعض الحروب الاقليمية حيث تتداخل فيها المصلحة الأميركية واهمال البعض الآخر البعيد عن أي هدف سياسي أميركي. مع موت نيتشه عام 1900 ودخول برغسون الى الكوليج دو فرانس استاذاً للفلسفة الحديثة اخذت الفلسفة تتحول تدريجياً من التصادمات الإلهية الى مجال التجربة الانسانية في محاولة أخرى لاكتشاف سر الديمومة. قد تكمن أهمية برغسون في كونه قطع بالفلسفة مسافة بعيدة انتقلت معها من مدماك العلوم الطبيعية المتقهقر يومذاك الى ركيزة رئيسة من ركائز الاختبار. وقد تكون فكرة "الدوام" حجر الزاوية لفلسفة برغسون. والدوام في المنطق البرغسوني منحنيات مستمرة مسترسلة بدلاً من ان تكون خطوطاً منكسرة منقفلة الى نهاية. وربما يكمن تفسير ذلك في أساس نزعته الصوفية ونظرته الى اللغة. فقد جعل برغسون من اللغة المنحى الأدبي الأرحب نحو الفلسفة والتواصل المستمر والمسترسل بين اللغة الأدبية التي تميز بها برغسون واللغة الفلسفية التي اعطاها بعداً ذهنياً وجمالياً في آن. وقد عول في هذا المجال على أهمية اختراق المعنى العام للألفاظ ذهنياً وجمالياً في آن. وقد عول في هذا المجال على أهمية اختراق المعنى العام للألفاظ الى المعنى الخاص الذي يلامسه الأدباء والفلاسفة. والحرية عند برغسون على درجات لأننا كثيراً ما نتنازل عن الحرية في المواقف الحرجة والمواقف الحساسة أو الشديدة الخطورة. ويعتبر برغسون ان محاولات تحديد الحرية بشروط الزمان والمكان والعلة تعود بنا الى ضرب من ضروب الجبرية. تبقى اشكالية التعبير عن الحرية اشكالية قائمة اذا كان هذا التعبير بلغة لا نستطيع الافصاح عنها. واللافت اقدام برغسون، منذ مطلع القرن، على ربط مشكلتي اللغة والحرية بالمفهومين الفلسفيين للدوام والصوفية مما أضفى على اللغة عمقاً ثورياً ممهداً لنظريات لغوية متقدمة لاحقة. منذ النصف الثاني من القرن العشرين وحتى نهاياته ما انكفأ نعوم تشومسكي يطرح مسألة اللغة كأداة ثورية معاصرة قادرة على التعبير عن القدرات الانسانية القابلة للنمو ضمن نظام اجتماعي دينامي متفاعل. وبكونه عالم لسانيات فهو يقيس الأحداث السياسية والتاريخية بمقياس ألسني يقضي بضرورة الترابط العضوي بين الحدث والتعبير البنيوي عن الحدث حيث يتمكن من فضح أسبابه وتعرية ظروفه وملابساته. وتتساقط سلسلة المصطلحات عند تشومسكي كالحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان واقتصاد السوق والنظام العالمي الجديد. وكأن صاحب "اللسانيات الديكارتية" و"النحو التوليدي" ينهال على تلك الأقنعة السياسية كاشفاً التناقضات والمغالطات التي تقع فيها، بل تعاني منها، خصوصاً مع آخر محاولات الهيمنة والصراع الدولي في نهاية القرن. هكذا تستحيل مسألتا الحرية واللغة أدوات ثورية تصادمية على المستوى السياسي مع تشومسكي في نهاية القرن العشرين، بعد أن كانت هاتان المسألتان من الأدوات التأملية المتقدمة على المستوى الفلسفي مع برغسون في مطلع القرن. بدأ القرن العشرون إذاً بفلسفة اللغة والحرية وانتهى بثورية اللغة المتفلسفة وتصادمية الحرية الثائرة. سجل "المانيفست السوريالي"، أو بيان الحركة فوق الواقعية، منعطفاً أدبياً وفنياً في العقدين الثاني والثالث من القرن المنصرم. فإزاء الدعوات السابقة لاعتماد العقل، في مواجهة مرتكزات الروح والعاطفة، قامت هذه الحركة بتحدي التراكيب العقلية والروابط المنطقية المتداولة، كما قامت بتحدي سلم القيم الأخلاقية والمعايير الجمالية المألوفة. ودعت السريالية، من أبولينير الى بروتون وإلويار وأندره جيد، وربما كنتيجة للحرب والواقع المأسوي، الى النقيض الآخر، الى كل ما يشكل صرخة ضد الواقع اعتماداً على اللاشعور واللامعقول والأحلام والحالات النفسية المرضية. جاءت هذه الدعوة من السرياليين اعتقاداً منهم أن القيم المضادة خرجت وحدها سليمة من بؤر الواقع الأليم والمزيف واللاحقيقي الذي انتهى اليه الانسان بعد الحرب العالمية الأولى. هكذا جاءت صدمة السوريالية في الشعر والمسرح والفن التشكيلي تمدح التناقض والجنون والرغبات الجامحة والأحلام العجيبة. انها صرخة مطلع القرن بوجه الجراح المثخنة التي خرج منها الإنسان شاكاً بالواقع والعقل والمنطق، محملاً كلاً منها وزر المآسي التي وصل اليها فدعا الى نقيضها والى تجاوز كل ما يرتبط بها بصلة وصل. ومن التيارات الأدبية الرافضة التي أخذت تبرز مع الحرب العالمية الثانية وخلال النصف الثاني من القرن العشرين حركة "الرواية الجديدة" المناهضة للمفهوم البالزاكي للفن الروائي شكلاً ومضموناً حيث انها أخذت تتحرر من المعايير التقليدية لهذا الفن. خرجت "الرواية الجديدة" عن الحبكة الدرامية والبُنية المتوارثة للسرد والمنطق المتداول لشخصية البطل ومفاهيمه الأخلاقية والنفسية والمعتقدية. وبدأ التيار الروائي الجديد يتحرر، مع كلود سيمون وألان روب غريية، من منظور المعرفة الكلية الشاملة ومعنى الالتزام لأن طبيعة المساءلة قد اختلفت جذرياً. وتحول الأمر من مساءلة الحقيقة الى استدراج الرمز و"معنى المعنى" حيث تحولت المسألة الى مشروع جديد لاستكشاف العالم من طريق البحث في منزلقات الشكل الفني للكتابة وما يواكب ذلك من تعاريج التعبير ومدلولاته. وإيغالاً في التيارات الباحثة عن مواقع أكثر ملامسة لتطورات نهاية القرن تتم مواجهة جديدة مع تيار الايديولوجية الواقعية من طريق طرح نظرية "الكتابية" أو Scripturalism حيث ترى "الجوهر" في قلب اللغة وحيث يستحيل فعل الكتابة مغامرة تأليفية تسعى الى اكتشاف المساحة اللغوية وما تنطوي عليه من رموز واشارات بليغة تساعدنا على فهم العالم. يتمثل القلق الوجودي الذي شهده القرن العشرون بهايدغر أولاً ثم بسارتر وكامو. هذا القلق طرح مسألة الأزمة الروحية التي مهد لها نيتشه باعلان "موت الله" مع نهاية القرن التاسع عشر، وساق هايدغر الى مواجهة حادة مع اعمق الطروحات الفلسفية التي شغلت القرن العشرين. من هذه الطروحات: الغربة، الموت، الشعور بالذنب، التصادم، الفراغ الروحي، الوجود والزمن، الأزمنة الانطولوجية، خواء القيم المطلقة أو المضامين الكونية والمنتهية جميعاً الى تأكيد الحقيقة المأسوية التي يعاني منها انسان القرن العشرين . هكذا بدأت بذار الثورة ضد "الحقيقة التقليدية" تنبت في حقول الفكر الغربي لتعد أوروبا لحربين عالميتين مدمرتين ولثورة عقائدية بلشفية بروليتارية. كانت أوروبا تتأهب لزلزال وجودي أعاد النظر في الأسس الأولية وفي جذور المعتقدات التقليدية التي قام عليها التاريخ البشري ليترك الانسان، من جديد، في مهمة الضياع الفكري والقلق الفلسفي القاتل الذي شكل، مع نهاية القرن العشرين، نواة لجدلية من نوع آخر. أطلت جدلية "ما بعد الحداثة" موجة عارمة بكل تعقيداتها واشكالياتها. وقد آلت تلك الجدلية الى تعددية الحقيقة وبالتالي الى نسبية المعرفة، وسقوط فكرة المطلق في تاريخ العقل وسلم القيم والمعتقدات. هكذا باتت المعرفة ملتزمة التزاماً عضوياً بلغة المعرفة وشكلها ورمزها ودلالتها. ولم يعد العقل ذلك المتأثر سلباً بالعالم الخارجي بل بات فاعلاً ومشاركاً في عملية الخلق والإبداع. هذا الدور الجديد صار جزءاً لا يتجزأ من عملية استيعاب المعرفة المعاصرة مع نهاية القرن العشرين والتعبير عن وجوه المعرفة وتعدديتها ونسبيتها. من هنا ان الحرية، حرية التعاطي مع "الحقيقة المعرفية" باتت في صميم الفعل العقلي المعاصر الذي أفسح في المجال للبدايات الجديدة، إن كان ثمة من بدايات، واقفال الستار على المسلمات الفكرية المتوارثة. ومن نتائج التيار الفكري الموسوم بما بعد الحداثة هجوم مركز على المعاقل الفلسفية الغربية الثابتة من أفلاطون حتى اليوم والدعوة الى اعادة النظر الجذرية في المعايير والقيم الموروثة. بعد قرون من سيطرة العقل المطلق على التفكير البشري، خصوصاً في ما له علاقة بالقيم الروحية والسياسية والاجتماعية، جاء العلم الحديث في القرن العشرين ليدخل العقل في مرحلة جديدة من تاريخ الفكر البشري. مرحلة تتحول بالعقل من سلوك فهم الكون وتحليله واستيعابه الى سلوك اكتشاف الوجود المبني على أسس متحولة لا تعرف ثباتاً علمياً أو استقراراً معرفياً. يتوصل ألبرت أينشتاين الى نظرية النسبية في العلوم الفيزيائية بعد ان يكتشف التناقضات بين التنظير والتجريب، وبعد ان يدفع بالتجريب البنائي، الى حدود الواقعية الماورائية والواقعية العلمية. وعلى رغم الجدل العلمي والفلسفي اللذين احدثتهما هذه النظرية فقد تمكنت من اختراق مفهوم المعنى المطلق الذي ساد مئات السنين الى مفهوم المعنى النسبي وبالتالي التحول التاريخي من منظور الحقيقة المطلقة الى قبول الحقيقة النسبية. والمهم في هذه النظرية انها لم تقتصر على العلوم بل تجاوزتها الى الفلسفة واللغة والدين والأخلاق وسائر ميادين المعرفة. وهذا التحول الجذري في تاريخ العقل ومسار فهمنا للكون والوجود أدى الى تصلب في المواقف بالاتجاهين المتعاكسين مما يفسر النزعات المرتدة الى أقصى التطرف والانغلاق، وتلك الممتدة الى أقصى التساهل والانفتاح. وبرزت نظرية تقول إن المعتقد الأخلاقي أو الترافع الروحي هو، في نهاية المطاف، أمر نسبي لأنه ذاتي وخاص يختلف باختلاف الأفراد وخلفياتهم الثقافية. هكذا غلبت نزعة اعادة النظر في القيم والمعتقدات والهويات والانتماءات وكأن نهاية القرن العشرين باتت نهاية لكل مطلق في المعقول والمقبول وبداية لكل نسبي ذاتي في محاور العقل البشري ومجالات فهمه لذاته وللعالم. مع تفاقم المشكلات الناجمة عن أوضاع عمال المناجم في مطلع القرن العشرين باتت هذه الطبقة العمالية رمزاً للظلم الاجتماعي والاقتصادي في البلدان الصناعية وما يوازنها من ظلم مماثل في البلدان النامية. وقد شكل هذا الرمز حافزاً للمطالبة بالعدالة الاجتماعية في الولاياتالمتحدة كما شكل حافزاً للثورة البلشفية في روسيا القيصرية. أما أوروبا التي اطلقت هذه الطبقة الاجتماعية، أو هذا الصنف البشري، قبل القرن العشرين، فقد أدركت أهمية اعادة النظر في التركيبة الاجتماعية والاقتصادية الداعية الى استيعاب العمال ضمن منظومة سياسية أكثر عدالة. أما "عُمال المعرفة" Knowledge Worker فقد استعمل هذا المصطلح الكاتب Peter Drucker في معرض كلامه عن المجتمع ما بعد الصناعي حيث المعرفة هي مصدر "الطاقة" الأول. فالمعرفة لا تعرف حدوداً اذ ليس ثمة من معرفة محلية ومعرفة دولية. هناك معرفة خالصة وحسب، بكل شروطها العلمية والموضوعية، أو عدم معرفة، ولا وجود لحل وسطي في هذه المسألة. المعرفة الجزئية أو المحلية صنّو لعدم المعرفة أي للجهل. غير ان الثقافة، على نقيض المعرفة، قابلة لأن تتسم بسمة محلية وأخرى دولية. في مستهل القرن العشرين لم تكن الثقافة، في معظم الأحيان، لتتجاوز الخلية المجتمعية المباشرة التي قد تكون القرية، أو المدينة، أو الوطن في أفضل الاحتمالات. فالعلم مثلاً يقف عند حدود مدرسة الجوار، واذا شاء بعض أفراد الطبقة الميسورة أن يتابع أبناؤهم التحصيل العلمي العالي فالجامعات كانت محصورة في العاصمة أو في المدن الكبرى فيكتفي الطالب بالشهادة الجامعية الأولى، أي البكالوريوس أو الليسانس، من أقرب جامعة ممكنة ليشكل ذلك الخلفية الثقافية التي كانت ترتسم على حدودها معالم طموحاتنا. ومع نهايات القرن العشرين دخلت التكنولوجيا الحديثة عالم الاتصال والإعلام والمعلوماتية حتى توجت بعصر الانترنت. ولفظة الانترنت مشتقة من كلمتين أو من مستهل كلمتين مدمجتين: "انتر" وتعني التداخل والتواصل، و"نت" وتعني الشبكة. فحرفية المعنى للانترنت تعني شبكة التواصل. وهذه الشبكة لا يمكن لها ان تقف عند حدود جغرافية معينة سواء كانت المدينة أم الوطن أم القارة. لذا صارت الكرة الأرضية بكاملها المدى الفعلي والعملي لشبكة التواصل التي تشكل نافذة مشرعة على الثقافات العالمية برمتها. ولم تعد الغربة، لسهولة الاتصال، تعني صعوبة الاطلاع بل الجهل الذي لا مبرر له. وتشير بعض الأبحاث الى أن أدب الحداثة وما بعد الحداثة كان العنصر الممهد، بصورة غير مباشرة، لعصر التواصل التكنولوجي. فطروحات ما بعد الحداثة هي التي أثارت أفكاراً جديدة تتعلق بفقدان المعنى وموت الكاتب وغياب الحبكة القصصية أو الروائية. حتى جاءت تجارب السبعينات والثمانينات الأدبية لتبحث عن "المعنى الجديد" و"المؤلف الجديد" و"الحبكة الجديدة". هذه المعاني" الجديدة اتسمت بصفة مشتركة وهي محاولة تخطي حدود الزمان والمكان. واذ بالثقافة تتحول من سماتها المحلية الضيقة الى رحاب الكون حيث تتلقى المعلومة التي تشاء في اللحظة التي تشاء من طرف الكرة الأرضية الى طرفها الآخر، ان كان ثمة من أطراف جغرافية باقية. هذه بعض أفكار مختارة من القرن العشرين. ثمة أفكار أخرى مكملة أو مناقضة أو متداخلة. وليس القصد من هذه المقالة اجراء مسح لتاريخ تلك الأفكار بل اختيار عدد منها والعبور معها من نقيض الى نقيض آخر، أو من مفهوم سابق الى مفهوم لاحق، أو من مرحلة معينة الى مرحلة متوازية أو أخرى متصادمة. ويمكن الاستنتاج ان القرن العشرين شهد حركة قومية فاعلة ما لبث ان خفت وقودها بعد سلسلة من الحروب العالمية والاقليمية والمحلية. كما شهد القرن العشرون أنظمة حكم وعقائد سياسية تدعي، على تضاربها، نزعة ديموقراطية كثيراً ما تكون منها براء. ولم تقتصر النزعة الثورية في القرن العشرين على الشأن السياسي بل تعدته الى الشأن الاجتماعي والأدبي واللغوي حيث صار البحث عن التصادمي المغاير هدفاً بذاته. الحقيقة المحورية التي اتسم بها هذا القرن هي الانتقال من المطلق الى النسبي الأمر الذي انعكس على العلوم والفلسفة والقيم وسائر المفاهيم الحضارية. في رد المعنى المطلق وقبول المعنى النسبي تحول جذري في نمط التفكير وفي منهج التحليل العقلي والتقويم الذهني. هنا تكمن، برأيي، عصارة القرن العشرين. هنا يكمن سر التحول في هذا القرن. فالنسبية تشكل مفتاح فهمنا لمنطق العصر. اذ قلب مفهوم "النسبية" ارثنا العقلي رأساً على عقب. فمن خلال النسبية بتنا نواجه المسلمات، ومن خلال النسبية بتنا نعيد النظر بالسلفيات، ومن خلال النسبية صرنا نقبل التعددية ونناقش العولمة ونعالج حرية المعتقد والعمل ونشدد على مبدأ حقوق الإنسان. * كاتب لبناني.