لا يتوقع أحد من قرية ضيعة صغيرة مترامية بين جبال وأودية وغابات وينابيع، أن تنتج واحداً من أهم مهرجانات الشعر العربي والفنون البصرية والسمعية. لكن هذا ما تفعله قرية الشاعر محمد عمران "الملاجة" منذ ما قبل رحيله حتى اليوم، أعني مهرجان "السنديان" الذي أسس عمران دورته الأولى قبيل رحيله بشهر أو شهرين، ثم جاءت ابنته الشاعرة رشا المشرفة على المهرجان ومعها مجموعة من أصدقائه وأهالي قريته وواصلوا إقامة فعالياته بنجاح وتألق نادرين، على رغم الإمكانات المالية المتواضعة، والقليل من الدعم الذي يأتي من جهات أهلية غالباً. المسألة هنا لا تتعلق فقط بقدرة المنظمين على استقطاب أبرز الأسماء الشعرية العربية على مدى يومين. بل هي تبدأ من التحضيرات الأولى التي ترى أثرها في المكان وتهيئته بأيدي سكانه لاحتضان الفعاليات الشعرية والفنية على نحو شديد التحضر والأناقة والجمال. فمنذ اللحظة الأولى للوصول إلى الملاجة يلمس القادم الآثار الباهرة لجهد خلاق يعرف كيف يتعامل مع الطبيعة البكر برقة وحنان بالغين.. هذا الجهد الخلاق الذي لا تبدو فيه آثار آلات وماكينات، بل هو صنيع الأيدي البشرية التي تعي علاقتها بالمكان: الأرض والشجر والماء والهواء. هذا هو الانطباع الأول الذي يلمسه القادم وهو يرى التعاون بين أهل قرية يعشقون قريتهم ويمتلئون بها ويعيدون صوغها على شكل أرواحهم، بعيداً من القوانين الرسمية الجافة التي تقيد فعل الإبداع. فالإبداع في الفن لا يختلف عن الإبداع في التعامل مع المكان، كلاهما ينفر من القوانين الصارمة، ولكل منهما قانونه المنفتح والمنطلق نحو آفاق الحرية والجدل مع عالمه، ولعل هذا ما يبدو أيضاً في شعار مهرجان السنديان: هدفنا المساهمة في إنتاج عالم أفضل، إنسانه بلا قيود في عقله وقلبه وأحاسيسه، و... الانطلاق نحو حرية الروح والفكر لإنتاج حوار ديموقراطي يكرس القيمة الأولى في الحياة: الجمال". وبهذا الحوار بين الإنسان الفرد والطبيعة يتخلق حوار ثقافي واجتماعي يقدر على خلق الجمال الحقيقي... حيث لا ينفصل الإبداع الفني عن إبداع الحياة والعلاقات الإنسانية، بل ينتج كل منهما الآخر بقدر من الانفتاح والتحرر من القيود التي نلمسها في معظم المهرجانات العربية. فهنا يفاجأ القادم بمقدار من التعاون بين البشر لا يجده في الكثير من أماكن العالم المتبلدة والمتصارعة. وهذه ليست مجرد مسألة اجتماعية إلا بقدر ما هي ثقافية أيضاً. الدورة التاسعة هذه من مهرجان "السنديان"، شهدت لقاء شعراء عرب قادمين من أقطار عدة مع هذا العالم المدهش بأناسه وطبيعته، كما شهدت عدداً من الأنشطة الفنية البصرية التشكيلية والنحتية والسمعية الموسيقى. لكن المفارق في هذا اللقاء هو الحشود التي كانت تلتئم على مدى يومين فتكتظ بها مقاعد قدر عددها بما يقارب ثلاثة آلاف، وبدا معظم الحضور من الجيل الشاب، وظهر الحضور المتميز لعدد من شعراء سورية وكتابها ونقادها وفنانيها. حضر دورة هذا العام وشارك في أمسياتها الشعراء العرب: محمد بنيس المغرب، عبده وازن لبنان، سيف الرحبي عمان، محمد حلمي الريشة فلسطين، حسين جلعاد الأردن. ومن سورية: منذر المصري، هالا محمد، لينا الطيبي، ندى منزلجي، بندر عبدالحميد حضر ولم يقرأ. وتغيبت عنها الشاعرة الإماراتية ميسون صقر القاسمي. ومن الفنانين شارك العازف الشاب سامي ميهوب بالعزف على الكمان في ليلة الافتتاح، فيما شارك العراقي نصير شمة بعزف على العود اختتم به المهرجان، وقدم مجموعة من أعماله القديمة والجديدة، وختمها ب"حدث في العامرية" التي ألفها بعد مجزرة ملجأ العامرية الشهيرة. وقامت الشاعرة رشا عمران بتقديم الأمسيات كلها. اللافت في الأمسيات الشعرية التي أقيمت على منصة في الهواء الطلق في واد تحتضنه الجبال، هذه الأمسيات التي طغت عليها تجارب قصيدة النثر طغياناً شبه كامل، هو التفاعل والإصغاء من الجمهور الذي بدا متعطشاً لسماع الجديد، على رغم ما بدا من حاجة هذا الجمهور للاستماع إلى ما يمس اللحظة الراهنة عربياً كما عبّر البعض. فغالبية القصائد التي ألقيت على مدى اليومين كانت تذهب باتجاه ما هو فردي وذاتي وإنساني، مبتعدة عن الهم الجمعي، ومتوغلة في عوالم ذاتية بأبعاد وجودية أو صوفية. قصائد حسين جلعاد لمست الجرح العربي في فلسطين وبغداد، وعزفت على مفردات هذا الجرح المفتوح والدامي بلغة حارة ومفردات استعادت الماضي البعيد والقريب. وفي قصيدة قصيرة للشاعر الفلسطيني محمد حلمي الريشة رسم الشاعر صورة من صور الانتفاضة الفلسطينية متمثلة في العصافير التي تذهب إلى المدرسة وتصعد إلى السماء. قصائد بقية الشعراء المشاركين ذهبت في اتجاه البحث عن الذات وعلاقتها بالعالم، كل على نحو يحاول فيه التجريب لرسم تفاصيل تلك العلاقة. ففي حين قرأ بنيس قصائد من عالم ينتمي إلى بلاغة الصمت والعناصر المصمتة، وأوغل في عزلته وذهنيته اللتين تستمدان مفرداتهما من تجربة ثقافية أكثر منها حياتية، تميزت قصائد عبده وازن التي استلها من مجموعته الجديدة "نار العودة" بالحفر في وجود الكائن وعلاقته بالأشياء من حوله، والسعي إلى ما يخرج الإنسان من جحيمه في رحلة البحث عن فردوسه المفقود ولو عبر وردة أو نافذة أو شجرة أو كائن على شفير العالم. بينما نهلت قصائد سيف الرحبي من عوالمه الطفولية والجبلية، حيث طفولة الكائن والجبل تستدعي وحشية العالم وقبحه. وباختلاف التجارب الثلاث، تفاوتت المناخات التي تحركت فيها لغة قصائدهم. واتجه منذر المصري، وساعدته في القراءة الفنانة - الممثلة حلا عمران، الى قراءة قصائده وقصائد الشاعر السوري الراحل محمد سيدة. وفي مناخ آخر تحركت قصائد الشاعرات الثلاث المشاركات في المهرجان، على قدر من التباين بين تجربة كل منهن ولغتها وعوالمها. لكن الغالب كان هو عوالم المرأة وهمومها. وعلى رغم أن لينا الطيبي كانت الأقدر على مفارقة عالم الأنثى باتجاه عالم الإنسان الأوسع، فقد ظلت هموم الأنثى الخاصة حاضرة في نصوصها. لكن هذه الهموم كانت أشد حضوراً في نصوص هالا محمد وندى منزلجي.