لا انفراج بادياً في أفق الحرب ضد الإرهاب ولا في ثورة الشعوب الخاضعة لهيمنة قوة أجنبية. كان العالم في زمن غير بعيد يعتبر النضال العسكري ضد الاستعمار والاحتلال عملاً مشروعاً ويستدعي التأييد. وتغير العالم في اتجاه انحداري فصار يعتبر الثورات وحركات التمرد المشروع أعمالاً إرهابية. ولم يتوقف التدهور الأخلاقي عند هذا الحد، بل انتزعت بعض القوى المهيمنة أو الظالمة لنفسها الحق في أن تشن حروباً استباقية ضد جماعات متمردة وحركات مقاومة ودول عاصية. صارت التغذية متبادلة بين تطرف الحركات الانفصالية والاستقلالية والمناهضة للاحتلال وتطرف القوى المهيمنة التي تسعى إلى إخماد كل صوت يعارض هيمنتها. كل من الطرفين يغذي الآخر. وكل منهما يضيف إلى الآخر طاقة تدميرية أشد تطرفاً وأشد عنفاً. حدث هذا التطور حين قررت الولاياتالمتحدة تطوير عقيدتها الاستراتيجية التي كانت تركز على الصراعات الدولية العظمى لتركز على دول صغرى وحركات تمرد في العالم الثالث . كان واضحاً بعد نهاية الحرب الباردة أن الجماعات والدول التي كانت تعتمد على تأييد الاتحاد السوفياتي في صد الهيمنة الأميركية ومقاومة التوسع الإسرائيلي في الشرق الأوسط بدأت تبحث عن بديل للاتحاد السوفياتي والصين ودول شرق أوروبا الشيوعية بين جماعات وتيارات تعوض بأيديولوجيتها وإمكاناتها البشرية والتعبوية النقص في التأييد الذي كانت تحصل عليه من اللاعبين الدوليين في نظام الدول. وتأتي مذبحة أوسيتيا الشمالية لتؤكد أن الأبواب كافة سدّت في وجه الحركات الاستقلالية والمقاومة المشروعة إلا باب العنف. حتى الولاياتالمتحدة التي كانت تطالب دول العالم وحكوماتها كافة باللجوء إلى المفاوضات لتسوية المشاكل فيما بينها لم تعد تلجأ هي نفسها إلى هذه الوسائل في عديد من صراعاتها الدولية. كانت الولاياتالمتحدة تدعو العرب في الشرق الأوسط، والفلسطينيين تحديداً، إلى تسويات سلمية في صراعهم مع إسرائيل، في الوقت الذي كانت تدعم فيه إسرائيل بكافة أنواع الأسلحة حتى بعد أن توقفت الإمدادات للعرب من روسيا والصين بعد انتهاء الحرب الباردة. يمكن فهم حجة الولاياتالمتحدة أنها الآن صارت تتعامل مع قوى غير حكومية وغير مسؤولة في العالم لا تفهم معنى التفاوض ولا توجد لديها أجهزة تفاوض وغير ساعية للحل السلمي وبالتالي يجب مواجهتها بالعنف. ولكن ما لا نستطيع فهمه هو أنها صارت تتعامل مع دول كإيران وسورية والعراق وكوريا الشمالية والسودان كما تتعامل مع جماعات الإرهاب أو التمرد. وازداد الأمر تعقيداً وخطورة حين اتضح أن هذا الأسلوب في التعامل مع القضايا الدولية صار أكثر تداولاً، فعلى المستوى الداخلي تقلد الحكومات الأسلوب الأميركي في مطاردة العناصر والجماعات التي تعارض النظام لسبب أو لآخر، وكذلك على المستوى الإقليمي كما يحدث من جانب إسرائيل في فلسطين وتهديداتها للبنان وسورية وإيران، وكما يحدث من جانب الهند مع حركة المقاومة الكشميرية. وأما روسيا فلم تكن في حاجة إلى درس أميركي في التعامل مع الخصوم. فقد أجادت فنون القسوة واللا رحمة في التعامل مع المتمردين أو الانفصاليين في جمهوريات الحكم الذاتي كافة التي تخضع لهيمنة الاتحاد الروسي. تعاملت بهذا الأسلوب الحكومات القيصرية ومن بعدها السوفياتية وتتعامل به الآن حكومة الرئيس فلاديمير بوتين. لا جديد. فالمنطق الذي يستخدمه الرئيس بوتين هو المنطق الإمبراطوري السائد في الإمبراطوريات كافة والذي يقضي باستخدام أقصى درجات العنف لإخضاع الأقاليم الانفصالية. هذا العنف التاريخي الشديد هو الذي جعل القوى المتمردة في الجمهوريات الروسية تلجأ إلى استخدام وسائل عنف بالغة القسوة والوحشية، فقد تعلمت من التجارب الدموية السابقة على أيدي أجهزة أمن القياصرة والسوفيات أن هذه الأجهزة ستستخدم أقصى درجات العنف في التعامل معها إن وقعت في الأسر أو دخلت في مواجهة معها. أضف إلى هذا، أن هذه الشعوب، وخصوصاً شعوب القوقاز، فقدت منذ عقود عديدة أي أمل في تحقيق ما تصبو إليه من استقلال أو رفاهة أو سلام. ولا تعفي التجارب الآليمة هذه الشعوب وقياداتها الثورية أو المتمردة من مسؤولية نشر الخراب والدمار وقتل الأبرياء ولا تبرر لها هذه الأفعال، وكذلك لا تعفي وحشية المتمردين وقسوتهم ودمويتهم الحكومات من مسؤولية دفع الشعوب إلى التمرد والعصيان. يضاف إلى تعقيدات المشكلة في روسيا الأسلوب الشاذ الذي تستخدمه حكومة الرئيس بوتين للتعتيم على الحجم الحقيقي لضحايا أعمال الإرهاب التي تجري على الأراضي الروسية. لم يعد هناك شك كبير لدى أغلبية المراقبين من داخل وخارج روسيا في أن الحكومة الروسية تستخدم هذا الأسلوب لتخفي النية المبيتة للتضحية بالمدنيين الأبرياء لأغراض ليس بينها تحرير الرهائن. ففي أكثر من حادث إرهابي، بدا كما لو كانت أجهزة الأمن الروسية تعمل طبقاً لتوجيهات تقضي بعدم التمييز بين خاطفين ومخطوفين، أي بين مدنيين وإرهابيين. بهذا الأسلوب تساوت لدى حكومة روسيا حياة تلميذ المدرسة في بيسلان وحياة خاطفه المسلح الأنجوشيستي أو الشيشاني. هكذا يتساوى رجل الأمن أو المسؤول السياسي الروسي بالإرهابي، كلاهما عقد النية على اغتيال الرهائن في المدرسة إن استدعى الأمر، ومن قبلها في المسرح في وسط مدينة موسكو. للرئيس فلاديمير بوتين منطق واضح . فالرجل ورث إمبراطورية متهالكة الأمن والمعنويات. استلم الحكم بعد سنوات كانت روسيا خلالها محل سخرية العالم بأسره بسبب الفوضى الضاربة فيها وتفاهة قياداتها السياسية وفسادها . كان لابد له أن يستخدم الأساليب التي كان يستخدمها القياصرة ثم البلاشفة ليضمن عدم انفراط الاتحاد الروسي أسوة بانفراط الاتحاد السوفياتي. كانت حمى الانفراط عند أقصاها، تزيدها حرارة الضغوط الغربية، وخصوصاً الأميركية الساعية لمد حدود الأطلسي لتتطابق مع حدود جديدة لروسيا أشد تقلصاً. نعرف أيضاً أن فلاديمير بوتين وصل إلى قمة السلطة في موسكو كبند من بنود عقد توصلت إليه أجهزة الاستخبارات السوفياتية مع المؤسسة العسكرية وقيادات دينية وسياسية في موسكو وبعض الأقاليم الروسية. كان المطلوب من جانب كل هذه القوى التي جاءت به إلى الحكم أن تساعده وتمنحه التأييد المادي والسياسي اللازم ليحمي ما تبقى من الإمبراطورية من نهش الجوارح، ويستعيد الثقة إلى نفوس المواطنين ويبعث الأمل في أن يكون لروسيا مكانة في مجتمع الدول. إلا أن الأمور في القوقاز، وبخاصة في الشيشان، استمرت تتدهور مستنزفة موارد كبيرة ومتسببة في انحسار مستمر لسمعة القيادات السياسية الروسية في العالم الخارجي. فقد استطاع الشيشان وحدهم أو بمساعدة من خارج الاتحاد الروسي وربما من بعض الجماعات والمنظمات والدول العربية، تفجير أكثر من تمرد في إقليم القوقاز، وأثبتوا قدرتهم الفائقة على الوقوف في وجه أحد أكبر جيوش العالم، الأمر الذي كسب لهم تعاطفاً قوياً في الإقليم وبين الجماعات الإسلامية في العالمين العربي والإسلامي، وبين شعوب تشعر بالغبن والظلم وهي ترى من كانوا حلفاء في مجتمع الدول ينقلبون خصوماً وأعداء، وتتسع ما يعتقدون أنها جبهة دولية تعادي العرب. من ناحية أخرى بدا أن إسرائيل وأميركا تتصرفان كما لو كانتا القوتين الخارجيتين اللتين استفادتا مباشرة من هذه المذبحة. يسعد واشنطن أن تقترب روسيا أكثر وأكثر من معسكر الحرب الأميركية ضد الإرهاب. فروسيا إضافة كبيرة ليست فقط باعتبار قوتها العسكرية وقربها من بؤر للإرهاب خامدة أو مشتعلة، ولكن أيضاً لأنها ستأتي إلى حرب الإرهاب ومعها حركاتها الإرهابية، وأكثرها لم يكن مصنفاً كإرهاب عالمي. ويسعد إسرائيل أن تنحشر القيادات الروسية في سلسلة من العمليات الإرهابية وتعلن للعالم أن كل الإرهاب أصوله إسلامية وعربية، وأن تلجأ لإسرائيل للحصول على معلومات. وربما استطاعت إسرائيل أن تحصل على عفو لكبار رجال الأعمال اليهود الذين تتهمهم حكومة بوتين بالفساد والإضرار بمصالح روسيا. وقد تنتهز أميركا وإسرائيل فرصة أزمة بوتين مع الإرهاب، ومع شعبه الساخط على سوء إدارته لمعاركه مع الإرهابيين، فتطلب تنازلات روسية تتعلق بحق دولة إسرائيل في إدارة شؤون يهود روسيا وتنظيم هجرتهم إلى إسرائيل، وهو يكاد يتطابق مع ما تطلبه من فرنسا، وتمارسه في الولاياتالمتحدة والأرجنتين وربما في دول أخرى. ويسعد إسرائيل، بلا جدال، كل تقدم تحرزه مسيرة صدام الحضارات. فالغضب ضد المسلمين والعرب الناشئ عن حادث بيسلان، وكل الأحداث المماثلة، يصب في مصلحة إسرائيل، ويصب كذلك لمصلحة المجموعة المحيطة بالرئيس الأميركي بوش التي تهتم بحشد الرأي العام وراء أهداف وخطط حرب الرئيس بوش ضد الإرهاب. في بيسلان اجتمع متمردون يمثلون عدداً من شعوب القوقاز ليرتكبوا جريمة اختطاف تلاميذ مدرسة . وفي طريقهم اشتروا ضمائر رجال شرطة من الروس سهلوا لهم مهمتهم . وقبل أن تبدأ مفاوضات المتمردين مع ممثلي الحكومة الروسية ارتكب الأمن الروسي حماقة، لم تكن أول حماقاته في التعامل مع خاطفين ومخطوفين، ولكنها كانت الحماقة التي لا تقل وحشية وغباء عن حماقة الإرهابيين. وفي بلاد أخرى كانت أبواق إعلام خبيث تشن حملة سوداء على العرب والمسلمين لتتعمق الضغينة ويشتد الغضب على كلا الجانبين، فيولد إرهابي جديد، ويقتل طفل آخر. ويتكرر السؤال من القاتل؟ * كاتب مصري