هل جاء دور السودان الآن وبهذه السرعة بعد العراق؟ وهل سيكون كبش محرقة للمطامع ولحسابات معركة التجديد للرئيس الأميركي جورج بوش؟ وهل ما زال بعض أركان إدارته يعيشون في أوهام الامبراطورية الأميركية والهيمنة على العالم؟ ولماذا لم يأخذوا الدروس والعبر من حربهم على العراق؟ وأين تقف أصابع الصهيونية العالمية في الحالتين وكل حالة عدوانية أخرى على العرب والمسلمين؟ ومَن المسؤول عن هذه الأزمة، وما هي الحجج والمبررات والذرائع لإشعال نارها والتلويح بالتدخل العسكري وحشد القوى العالمية للمشاركة فيه؟ وأخيراً وليس آخراً، ما هي مسؤولية النظام السوداني عما جرى وما يجري وما سيجري وحجم أخطائه وخطاياه ودوره في ايصال السودان إلى حافة الخطر... والانهيار والتقسيم، لا قدر الله؟ هذه الأسئلة وغيرها يطرحها السودانيون اليوم ومعهم كل من يتعاطف معهم ويتابع قضاياهم ويسعى للابتعاد عن العاطفة والشعارات والعصبيات لينظر إلى الموضوع برمته بعمق وموضوعية وتجرد مع اقتراب نهاية مهلة الشهر التي أعطاها مجلس الأمن الدولي للنظام السوداني لإيجاد حلول جذرية للأزمة. فقضية دارفور هي القشة التي قصمت ظهر البعير في الأزمة السودانية الأشمل والأعمق، وهي حلقة من سلسلة طويلة عاشها هذا البلد العريق المسالم منذ أن تسللت إلى جسده الناحل جرثومة الانقلابات والمؤامرات وحكم العسكر، وتفردهم بالحكم والسلطة ومقادير البلاد والعباد... ومهما حاولنا أن نبسط الأمور، فإن القضية ليست مجرد اقتتال عرقي بين قبائل عربية مدعومة من الحكومة المركزية في الخرطوم وقبائل أخرى افريقية زنجية، كما أنها ليست حرباً أهلية بين مسلمين وغير مسلمين، كما يحاول أن يصور الإعلام الأجنبي المغرض، فكل أهالي دارفور وهم أبناء حضارة عريقة تقوم على المحبة والتعايش والسلام، يدينون بالإسلام ويرفعون راية التوحيد ويؤمنون بالله الواحد الأحد. فالفتنة كانت نائمة، ولعن الله من أوقظها، والمناوشات قديمة وطبيعية بين قبائل متنافسة تعيش حياة صعبة وتعاني من إهمال متواصل وتفتقر إلى أدنى حاجات الحياة الإنسانية الطبيعية من صحة وتعليم ورعاية وفرص عمل، مثلها مثل كثير من المناطق النائية في السودان ودول عربية أخرى ودول العالم الثالث على العموم. هذه المناوشات تحولت مع الأيام إلى اقتتال وفتن بفعل فاعل، جنباً إلى جنب مع الحرب الدامية المدمرة مع جنوب السودان، إلا أنها تصاعدت حدة وعنفاً بعد الاتفاق الموقع على وقف هذه الحرب والجهود المبذولة لوضع آلية تنفيذ له لإنهاء معاناة الشعب السوداني بأسره التي استمرت لأكثر من ربع قرن ودفع ثمنها من أرواح أبنائه وأمنه واستقراره ووحدته المعنوية وثرواته الوطنية. وأسهم الفريق الحاكم في الخرطوم في تأزيم الموقف بدعمه أطرافاً في النزاع ضد أطراف أخرى، وتسليح ميليشيات عربية مثل الجنجاويد وغيرها، وتدخله المباشر والسافر عسكرياً ضد فريق، بزعم أنه يقود المتمردين على النظام والدولة، مما أدى إلى تعميق الجراح وتوسيع الشرخ وتحويل النزاع إلى فتنة بين العرب وغير العرب من أبناء الاقليم الواحد والوطن الواحد، مع أن دور الدولة المفترض يتطلب حياداً وحكمة ورحمة تشمل الجميع وبذل الجهود المتواصلة لنزع فتيل الانفجار وإزالة أسباب الفتنة ومبرراتها مهما كانت المواقف منها والفئات المتسببة بها. هذه الخطوة كان من الممكن أن تتحقق لو تحلى النظام السوداني بالحكمة وأسهم في تبريد الأجواء وترتيب هدنة ثابتة تحول دون"تدويل الأزمة"وفتح أبواب التدخل الأجنبي على مصاريعها وتعريض السودان للاحتلال والتقسيم ووقوعه تحت سيف هيمنة دولية لا حدود لها. ولا ينكر أحد أن المطامع الأجنبية قديمة قدم الاستعمار القديم والجديد، ومن يتابع الأوضاع السودانية، وأوضاع افريقيا بصورة عامة، عن كثب، يدرك أيضاً أن هذه المطامع ممزوجة ومتلازمة مع مطامع صهيونية لا تخفى على أحد، ويجد عندما يبحث جديداً أصابع إسرائيلية في كثير من الأحداث والفتن، لا سيما في مواقع المفاصل الرئيسية بين العرب والأفارقة، وبين المسلمين وغير المسلمين، لضربها وتقطيع أوصالها وتفكيك الأواصر التاريخية التي جمعتهم وربطت بينهم على أسس التفاهم والتعايش والمحبة لعقود طويلة. وهناك من يتحدث اليوم عن سيناريو مشابه في كثير من الفصول مع سيناريو غزو العراق وفق قواسم مشتركة عدة: فمبررات غزو العراق قامت على أساس كذبة تملك أسلحة دمار شامل وارتكاب جرائم حرب ضد الأهالي، والمبررات المستخدمة اليوم تحاول تدبير تهمة مماثلة للسودان وبصورة خاصة في الشق الثاني، حيث تكثف الحملة الإعلامية التي تبرز صورة الإبادة الجماعية والقتل والاغتصاب ومخيمات مئات الآلاف من اللاجئين المهددين بالموت جوعاً وعطشاً. وتهمة التعامل مع"القاعدة"ووجود إرهابيين من أعضائها في العراق، تُحضر للسودان تهمة مماثلة بجلب إرهابيين إلى دارفور. والمطامع التي جرى الحديث عنها عن شن الحرب على العراق من الهيمنة على منابع النفط وغيرها، هي نفسها التي يجري الحديث عنها اليوم كحلقة من مسلسل الهيمنة، لأن السودان ينام على خزان من النفط والغاز والثروات الطبيعية والمعدنية من يورانيوم ومعادن ثمينة أخرى. وأوجه التشابه الأخرى نجدها في كون العراق يشكل البوابة العربية لآسيا ودولها الإسلامية وغير الإسلامية، وفي موقع السودان كبوابة تاريخية عربية مع دول افريقيا الإسلامية وغير الإسلامية، وكان على الدوام يشكل جسر حوار بين العرب والأفارقة وطريق الخير والمحبة والدعوة إلى الإسلام في افريقيا، وهو ما ترفضه الهجمة الاستعمارية الجديدة وما تعلن الحرب عليه إسرائيل التي تقترب الآن من بسط هيمنتها على افريقيا سياسياً واقتصادياً ومالياً بعد أن أهملها العرب وتخلوا عن الاهتمام بتطوراتها باستثناء حالات نادرة في الدعم والمساندة والتعاون. يضاف إلى كل ذلك مياه النيل ومحاولات إسرائيل لتأليب الدول الافريقية الواقعة على حوضه للسيطرة على مجاريه ومقاديره واستخدامه كسلاح ضغط ضد السودان ومصر بالذات، التي تعتبر قضية مياه النيل بمثابة خط أحمر لا تسمح لأحد بتجاوزه، لأنه يهدد أمنها القومي، وهذا ما يفسر اهتمامها الدائم بأوضاع دول حوض النيل، والسودان على رأسها، وما يدفع المخلصين لمطالبتها بالتحرك فوراً لوأد الفتنة وهي في مهدها، وبذل الجهود لحل الأزمة وعرض وساطتها لجمع مختلف الأفرقاء في القاهرة وتجميع المواقف الداعمة لمنع التدخل العسكري الأجنبي. أمام هذه الوقائع والمعطيات لا بد أن يستغرب المرء هذه الغيرة الدولية المفاجئة على حقوق الإنسان في السودان وسر هذه الهبة الشاملة في الولاياتالمتحدة وأوروبا للمطالبة بالتدخل العسكري وأبعاد قيام الأوركسترا الإعلامية المعروفة في وقت واحد وعلى ايقاع نغمة واحدة بترديد انشودة البكاء على أطلال دارفور ومآسي اللاجئين وأنين الأطفال وعذابات النساء المغتصبات، مع أن مأساتهم قديمة. الإجابة على هذه التساؤلات معروفة وواضحة من دون انكار وقوع مذابح وجرائم يندى لها الجبين حسب روايات شهود العيان وتقارير المؤسسات الإنسانية. ومن دون تجاهل أصابع الفتنة التي حركت المتمردين ضد الدولة والقبائل العربية وتحركهم المريب في التوقيت والاسلوب. ولكن علينا أن نعترف عندما نتحدث عن المطامع الأجنبية بأن من يتحمل معظم المسؤولية عن مأساة السودان الكبرى، ومن ضمنها مأساة دارفور، هو النظام القائم بكل ما يمثله من ظلم وديكتاتورية وتفرد وتسبب بانهيار مؤسسات الدولة وتدمير البنى التحتية البشرية والعمرانية والاقتصادية، تماماً كما يتحمل النظام العراقي البائد ورئيسه المهزوم مسؤولية تدمير العراق وزهق أرواح الملايين وتشريد الملايين من أبنائه من جراء تفرده وديكتاتوريته وفساده والحروب الخاسرة التي شنها على جيرانه وتفتته وبعده عن الحكمة والمرونة وعدم استعداده لمنع حدوث غزو أجنبي لبلاده، ومن ثم تعريضها للاحتلال والذل والفوضى والدمار الذي تعيشه هذه الأيام. وأوجه التشابه كثيرة بين النظامين والحدثين، فالنظام العراقي كان يدعي أنه يدافع عن شرف العروبة ويحمي ظهير العرب، هو الذي عرضهم للمهانة وتسبب بتهديد مصيرهم واستقلالهم ووحدتهم. والنظام السوداني يزعم اليوم أن الإسلام هو المستهدف من الحملة الدولية على السودان. ومع أننا ندرك حجم العداء للعرب والمسلمين من قبل القوى الصهيونية، فإن هذا الشعار مردود عليه بأن الإسلام يحرم علينا قتل المسلم، وأي إنسان لا يعتدي علينا. وقد خلقنا الله عز وجل شعوباً وقبائل لنتعارف ونتعايش لا لنتقاتل ونثير الفتن، ولأن أكرمنا عند الله أتقانا، بغض النظر عن اللون والجنس والانتماء. وللعلم أيضاً، فإن نظام ما يسمى بالإنقاذ جاء إلى الحكم في ليلة ظلماء على متن دبابة سحقت أزهار الديموقراطية وربيع الخرطوم وألقت الآلاف في غياهب السجون، وهي تحمل زوراً راية التوحيد وتتوج"مفتي"الجماعات المتطرفة الدكتور حسن الترابي ملكاً على السودان بلا عرش ولا تاج، لأن قادة الانقلاب العسكريين صادروهما واستأثروا بهما وبخيرات الحكم والبلاد بعد أن جروا الترابي والجبهة القومية الإسلامية إلى فخ التآمر ثم تخلوا عنه ورموا به مع أنصاره في سجن كوبر الرهيب، وهو الآن في المستشفى يعاني من أمراض عدة، أهمها مرض الغدر الذي يكاد يفتك به والغيظ الذي يتملكه لخيانة تلامذته الضباط له ولدعواته. ونذكر أيضاً أن السودان في بدايات عهد انقلاب حزيران يونيو كان ملجأ لكل الهاربين والمطاردين والإسلاميين وإرهابيين وغير إرهابيين، حيث كان الترابي يتوهم بأنه سيتحول إلى خليفة للمسلمين... ومع الأيام سقط القناع الواهي وأبعد زعيم"القاعدة"أسامة بن لادن وأنصاره إلى افغانستان وسلم الإرهابي المعروف"كارلوس"إلى فرنسا بعد أن خُدر في صفقة مشبوهة، وسلم المئات إلى سلطات بلادهم في صفقات مماثلة وتفرق العشاق وتفتت المؤتمر الشعبي الإسلامي، ولم يبقَ من هوية الانقلاب الإسلامية سوى شعار يتلطى وراءه كل متعطش للسيطرة والتفرد. وها نحن نشهد اليوم بعد سنوات الانقلاب العجاف وطناً عربياً يكاد يسقط بعد أن عانى الأمرين، وهو يئن من الأوجاع تحت وطأة مطرقة ظلم نظامه وأخطائه وخطاياه وسندان مطامع أجنبية وأحقاد صهيونية، فيما العرب يتفرجون بلا مبالاة وكأن الحدث يقع في المريخ، أو كأنه لا حول لهم ولا قوة، فيما الجامعة مشلولة وعاجزة تكتفي بالشجب والتنديد. ولن تنفع النظام السوداني العودة إلى أخطاء الماضي وتكرار تجربة صدام حسين، ولا تفيده العنتريات والتهديد بالويل والثبور وعظائم الأمور إذا وقع التدخل العسكري، فحرية الحركة محدودة ومساحة المناورة ضيقة. النافذة الوحيدة المفتوحة التي نلمح من خلالها شعاع نور في نهاية نفق السودان تتمثل في التخلي عن الاستئثار بالحكم والدعوة لمؤتمر وطني شامل تنبثق عنه حكومة وحدة وطنية تشارك فيها كل الأحزاب والفئات والقوى الوطنية والأطياف والأطراف من الجنوب والشمال والشرق والغرب، من دون أي استثناء وتكون مهمتها الأولى انقاذ ما يمكن انقاذه ودرء الأخطار واحلال السلام الشامل والتمهيد لانتخابات عامة حرة تكرس بنيان الديموقراطية التي يحلم بها كل سوداني ويعيش على ذكرياتها. فقد كان السودان قبل الانقلاب يسير بخطى ثابتة في اتجاه ديموقراطية حقيقية تقوم على أساس تداول السلطة وحكم الأغلبية والتنافس الحر والشريف، كما كان يقف على عتبة انهاء حرب الجنوب وتوقيع اتفاقية السلام تعيد الوحدة للبلاد المهددة بالتقسيم، ولا أمل برأب الصدع وإعادة اللحمة بين أبناء الشعب السوداني إلا بالديموقراطية والتسامح والحرية والعدالة والمساواة وسيادة القانون والانماء المتوازن والتخلي عن العصبيات والحزازات والحساسيات القبلية والعرقية، فالسودان لم يشتهر بكونه أمل العرب في تأمين سلة الغذاء العربي فحسب، بل اشتهر بأنه بلد التعايش والتساكن والتآخي بين مئات العرقيات والقبائل والاثنيات واللغات واللهجات المحلية. واشتهر السودان أيضاً بطيبة شعبه وثقافته وتسامحه وبأجواء المحبة والسلام التي تخيم على طباعه وتقاليده وعاداته بحيث كان الناس ينامون وأبواب بيوتهم مشرعة، ينعمون بالأمان والأمن والطمأنينة ويتميزون بحسن الضيافة في حدائقهم الأمامية. واشتهر أيضاً بمؤسساته الراقية من قضاء وجامعات خرجت الآلاف من المتميزين ونقابات وأحزاب وهيئات مدنية وخيرية واجتماعية... ثم حلت عليه نقمة الانقلابات ومطامع مدعي الإنقاذ لتدمر كل الميزات وتأكل الأخضر واليابس وتعطي المطامع الأجنبية، عن جهل أو عن علم، الذرائع والمببرات للتدخل العسكري. فهل تتغلب الحكمة وينتصر العقل وينتفض الجميع حكومة ومعارضات لتوحيد جهودهم والركون صفاً واحداً في وجه الأخطار وإنهاء محنة دارفور وغير دارفور قبل فوات الأوان؟! * كاتب وصحافي عربي.