لم تكن الحركة عادية أوّل من أمس في "مركز الحسن الثاني" للملتقيات الدولية" في مدينة أصيلة المغربية. فالمكان الذي اعتاد هذا النوع من المناسبات، كان يبدو في حال تهيّب وتأهّب قصوى لاحتضان كل هؤلاء الضيوف البارزين عرباً وأوروبيين، بدءاً بحشد من السفراء والوزراء، يتقدمهم محمد بن عيسى وزير الخارجيّة المغربي، عمدة المدينة وسيّد المكان، وضيفه وزير الخارجية الاسباني ميغل أنخيل موراتينوس، ووزير الثقافي المغربي محمد الأشعري... ذلك أن افتتاح "موسم أصيلة الثقافي" الذي انطلق في الأول من آب أغسطس بات الحدث الثقافي الوطني بامتياز في المغرب، كما تدل زحمة وسائل الاعلام والتلفزيونات التي اقتحمت الأسوار التاريخية للمدينة. و"الموسم" الذي احتفل العام الماضي بيوبيله الفضي، أراد لدورته السادسة والعشرين أن تكون مفترق طرق في مسيرته، واختار أن يتناول في ندواته أبرز القضايا الشائكة المطروحة على العرب اليوم، من التعاون العربي - الأوروبي، إلى "المواجهة" مع أميركا. ودعت "مؤسسة منتدى أصيلة" لهذا الغرض، نخبة من المفكّرين والسياسيين والاختصاصيين من مختلف أنحاء العالم، للمشاركة في أعمالها، وسط مناخ من الانفتاح والحوار واحترام حرية الرأي والحقّ في الاختلاف. وهذا المناخ من العلامات الفارقة ل"موسم أصيلة" منذ سنواته الأولى، نجح في تحويل تلك البلدة على ضفاف الأطلسي، من قرية صيادين منسية في الشمال المغربي الفقير، إلى مدينة مزدهرة اقتصادياً باتت عاصمة فكرية وفنية وثقافية عربية. وقد اكتسى حضور وزير الخارجيّة الاسباني في أصيلة، بعداً خاصاً، بعد المرحلة الصعبة التي شهدتها العلاقات المغربية - الاسبانية. واعتبرها كثيرون رسالة واضحة من الحكومة الاسبانية الجديدة، وتعبيراً عن رغبة في فتح صفحة جديدة بين المملكتين المتجاورتين اللتين تربطهما - إضافة الى المصالح الاقتصادية - علاقات تاريخية وثقافيّة قديمة، كما ذكّر موراتينوس في كلمته: "أنا نائب منتخب في مدينة قرطبة، وخليفة قرطبة هو الذي بنى أصيلة العام 1038م". ومع أن الوزير موراتينوس جاء الى أصيلة بصفته باحثاً للمشاركة في ندوة "أوروبا الموسعة والتعاون الأوروبي المتوسطي: أي مستقبل؟" التي انطلقت أمس وتختتم غداً، إلا أن الكلمة التي ألقاها تحت وابل من التصفيق، طغت على حفلة الافتتاح، وكادت تحوّلها مناسبة سياسية: "اقمت هنا قبل 17 عاماً، كنت مستشاراً شاباً في سفارة إسبانيا، وها أنا أعود وزيراً للخارجية. إن اسبانيا هي التي تعود اليوم الى المغرب". وقبله كان الوزير بن عيسى رحّب بضيوف المهرجان، وبسفراء اسبانيا والكويت واليابان وبلجيكا والبحرين وقطر... واستعاد محطات أساسية من تاريخ الموسم وانجازاته، مذكراً بأهمية رهان أصيلة على حوار الثقافات، وعلى التسامح والابتكار والاعتماد على الانسان. فيما ذكّرت سفيرة المغرب لدى منظمة "يونيسكو"، وعميدة جامعة المعتمد بن عبّاد، أن المبادئ التي أكدها "مؤتمر التنمية الطويلة الأمد" في جوهانسبورغ العام الماضي، حول دور الثقافة في عملية التنمية، هي الأساس الذي قامت عليه فلسفة "موسم أصيلة"، فقد أدّى المهرجان الثقافي الى نهضة اقتصادية عمرانية واجتماعيّة ممتازة. ووجّه وزير الثقافة المغربي محمد الأشعري تحيّة تقدير الى منتدى أصيلة الذي "اجتاز ربع قرن من دون أن تبدو عليه أي تجاعيد". فقد انطلق الموسم من قناعة ثابتة بأن الثقافة هي الثروة الأولى، واليوم كثرت المهرجانات المغربية التي تحاول ان تحذو حذو أصيلة... لكن ما يميّز تجربة أصيلة أنّها راهنت على البعد العربي... ثم الافريقي فالأوروبي والمتوسطي. وراهنت على حوار الابداع، فإذا بها فضاء يحتضن الأشكال الابداعية على تعددها واختلافها. واستخلص أمثولة أصيلة: "ليست هناك، لتقديم أنفسنا، طريق أفضل من الابداع... إن فيه الصورة الحقيقية للمغربي، المتمسك بجذوره والمنفتح على العالم". ويتضمّن برنامج أصيلة هذا العام ندوات عدّة أبرزها واحدة بعنوان "العرب والاميركيون وجهاً لوجه: قضايا وتحديات"، وندوة بعنوان "نصف قرن من الفن التشكيلي المغربي"، علماً أن أصيلة الحائزة جائزة آغا خان للعمارة، هي أساساً مدينة الفنون التشكيلية والبصرية، تحتضن جدرانها الكلسية البيضاء هذا الصيف أعمالاً جديدة لفنانين من البحرين. كما يستضيف مركز الحسن الثاني معرضاً استثنائياً للفنان السوداني محمد عمر خليل المقيم في نيويورك. وسيكون للشعر حصّة أساسية من الموسم الحالي، إذ يكرّم المهرجان الشاعر البحريني قاسم حداد، والشاعر المغربي عبدالكريم الطبال حائز جائزة تشيكايا أوتامسي، والشاعر التشيلي بابلو نيرودا في مئويته الأولى. ويقدم البرنامج هذا العام عروضاً مسرحية وغنائية وموسيقيّة من العالم، منها عرض الفلامنكو الذي حضره الوزيران بن عيسى وموراتينوس ليلة الافتتاح فرقة تيتو لوسادا، ومسرحية مغربية للقمري بشير ونعيمة زيطان بعنوان "شقائق النعمان"، وفرقة بن فارس الموسيقية من البحرين، وعروض أخرى من المكسيك، والنمسا والبرتغال والولايات المتحدة وبولنده والمغرب.