أ - "الشورى" لفظ عربي من "شار" و"شور" وهو العسل. و"الشوار" هو الحسن والجمال. و"استشارت" الإبل أي حسنت وسمنت. و"استشار" الفحل الناقة أي كرفها، ألاقح هي أم لا. و"المستشير" من يعرف الحائل. و"أشار" ومنها الإشارة وتكون بالكف والعين والحاحب. و"أشار" عليه أي: أمره. ومنها الشورى والمشورة. و"الشوار" متاع للبيت، وأيضاً ذكر الرجل وخصيتاه وإسته، و"شوّر به" أي فعل به فعلاً يستحيا منه. فالمعاني الاشتقاقية كلها تشير الى حلاوة العسل ولزوجته أو الى الحسن والجمال والسمنة، وهي من مقاييس الجمال العربي القديمة. كما يشير اللفظ الى الفعل الجنسي الذي يدلّ على التداخل كما هو الحال بين المستشارين في تبادل الرأي. والإشارة الحسية باليد والكف والعين والحاجب مثل الإشارة بالرأي. وإذا كان معنى "أشار" الأمر تكون الشورى في هذه الحالة ملزمة، بناءً على الحقل الدلالي لكل هذه المعاني. أما لفظ "الديموقراطية" فهو اللفظ اليوناني الشهير "ديموس" أي الشعب أو الدهماء، "كراتوس" أي القوة أو السلطة. ويعنى اللفظ المركّب السلطة للشعب. فشتّان ما بين المعنى الاشتقاقي للفظين، "الشّورى" التي تعني التوحيد مع الآخر كالفعل الجنسي أو السلطة للشعب كردّ فعل على السلطة للقاهر أو الدكتاتور أو الطاغية أثناء حكم الطغاة الذي ساد أثينا. الديموقراطية سلطة بديلة عن سلطة الحاكم الفرد، سلطة الشعب في حين أن الشورى تبادل في الرأي. ب - و"الشورى" اصطلاحاً ضد الاستبداد بالرأي، والتفرد بالقرار. تعني الاسترشاد برأي الآخر، وتبادل وجهات النظر، ورؤية الشيء من وجهات نظر متعددة حتى لا يقام الحكم على هوى فردي أو مصلحة شخصية. تحدد سلباً وليس ايجاباً، نظراً لتعدد أشكالها وصيغها وطرق ممارساتها. الشورى قصد ونيّة، وهو التحرز من خطأ تقديم التجربة الفردية على التجربة المشتركة، ورأي الفرد على رأي الجماعة، ورؤية الفرد من دون رؤية الآخر. الشورى حماية للحق من أهواء النفس، والموضوع من انفعالات الذات ولو اتّبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن ]المؤمنون 71[. في حين أن الديموقراطية هي سلطة الشعب. وقد يقوم الشعب بلعب دور الحاكم الفرد فيستبد كما هو الحال في حكم الغوغاء، الشعب يقرر، والشعب يحكم. والسؤال هو: وماذا يعني الشعب؟ ان الشعب يتكون من عدة طبقات. وكل منها تدعى تمثيل كل الشعب. قد تكون ديكتاتورية البروليتاريا. وقد تكون نخبوية الطبقة العليا واستغلالها واحتكارها. وقد تكون برجوازية الطبقة الوسطى التي تخدع الطبقة الدّنيا وتموه عليها بالدفاع عن مصالحها، وتستفيد من الطبقة العليا لأنها أداتها التي تسيطر بها على الطبقة الدنيا. ولا توجد سلطة مباشرة للشعب إلا من خلال ممثليه ونوابه ومجالسه ومؤسساته التي قد تعبّر عن سلطة الشعب، أو سلطة الطبقة أو سلطة الحزب الحاكم، أو حتى الحاكم الفرد الذي كثيراً ما سبح الشعب باسمه في فترات الطغيان مثل النازية والفاشية والنظم الشمولية. ج - الشورى توافقية اجماعية برضا الجميع، وليست بفرض الغالبية رأيها وارادتها على الأقلية. في الشورى لو عارض واحد فقط رأي الجماعة، يؤخذ رأيه بعين الاعتبار، ويكون الإجماع ناقصاً وليس تاماً. الشورى تصوّر كيفي للحياة، يقوم على احترام الرأي بصرف النظر عن عدد المنتسبين اليه. فكل انسان فرد، والفرد رأي، والشخص رؤية. في حين أنه في العمل والمصالح العامة كل انسان جماعة "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً"، و"يد الله مع الجماعة". وفي الديموقراطية الحكم للغالبية عن طريق صناديق الاقتراع. والتشريع والقوانين انما تصدر باسم الغالبية، وتلزم الأقلية باسم طاعة القوانين. ويكون همها هو الاحتفاظ بالسلطة أكثر من تحقيق مصالح الناس. بل وتتبّع أساليب لا أخلاقية للوصول الى الحكم بما في ذلك تشويه سمعة الأقلية والتنصت عليها. الديموقراطية تصوّر كمي للحياة طبقاً للرؤية المادية للحضارة الغربية، وأولوية الكم على الكيف، والقياس على الحدس، والبدن على النفس، والمرئي على اللامرئي. وبالرغم من ادعاء الحضارة الغربية انها تقوم على الفرد وحقوق الإنسان "أنا أفكر فأنا إذن موجود"، في حين أن الحضارات الأخرى تعطى الأولوية للجماعة على الفرد، إلا أنه في الديموقراطية تكون الأولوية للغالبية على الأقلية، وللمجموعات الكبيرة على المجموعات الصغيرة. د - الشورى ليس لها شكل محدد بل هي روح وقصد ضدّ الاستبداد والتفرد بالرأي. لا يهم طريقة التنفيذ. قد تكون حكماً رئاسياً يستشير فيه الرئيس أهل الحل والعقد، أي أهل الاختصاص وهم علماء الأمة، ومفكروها، وأصحاب الرأي فيها. وقد تكون رئاسية وزارية، والوزارية تفويضية لها من سلطات الرئيس أو تنفيذية محضة لقرارات الرئيس. قد يكون على قمتها الخليفة أو الإمام أو السلطان أو الملك. واختلفت الأسماء والمسمى واحد. ربما ارتبطت الشورى القديمة بالشكل القبلي، وبمشايخ القبيلة وحكمائها الذين يشيرون على شيخها ورئيسها. ربما ارتبطت بجلسات الخيمة والمقيل والمصطبة والدوار والديوانية والصالون. أما الديموقراطية فلها شكل نموذجي. وهي الديموقراطية البرلمانية التمثيلية بمجلس أو بمجلسين، مجلس النواب ومجلس الشيوخ، البرلمان ومجلس العموم حتى يتم اصدار القرار بناء على حماسة الشباب وحكمة الشيوخ لمزيد من الرويّة، والتعاون بين أهل الثقة وأهل الخبرة. وفي بعض البلدان الصغرى، مثل سويسرا، هناك الديموقراطية المباشرة بنظام "الكانتونات" خشية من التمثيل حيث تقوم المجالس النيابية بدور الجدار العازل بين الشعب والسلطة. وهناك قوانين للانتخابات وتأسيس الأحزاب وطرق عدة لها بالقائمة أو بالنسبة. نموذجها صوت واحد لفرد واحد. وتظلّ للرئيس فيها ميزة تنفيذية كما هو الحال في الدستور الأميركي. ويستطيع ان يعترض على قوانين مجلس النواب قبل أن يكون القانون مُلزماً له للمرة الثانية. وفي الدستور الفرنسي في - عصر ديغول - كانت هناك المادة 16 التي تعطي الرئيس سلطات استثنائية في حالة الخطر حفاظاً على أمن البلاد. ه - الشّورى غير ملزمة في رأي، وملزمة في رأي آخر طبقاً لتأويلين مختلفين وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله ]آل عمران 159[. فالقرار عزيمة بعد المشورة يكون الإمام ملتزماً بها. وقد يستنير الإمام بالمشورة ولكن إحساسه بالمسؤولية قد تجعله يرى ما لا يراه المستشارون بتقديره للموقف، وخبرته بالميدان. فأهل الحل والعقد في النهاية أهل نظر، في حين أن الإمام يجمع بين النظر والعمل. أهل الحل والعقد أهل رأي ومشورة، في حين أن الإمام رجل فعل وحسم. وهو الذي يتحمل المسؤولية في النهاية في النصر والهزيمة، وليس أهل الحلّ والعقد. ومع ذلك فالشورى أقرب الى عدم الإلزام منها الى الإلزام. والديموقراطية أيضاً ملزمة وغير ملزمة. فهي ملزمة للرؤساء عن طريق المجالس النيابية المنتخبة من الشعب. وهي غير ملزمة نظراً لإمكانية اعتراض الرئيس عليها محتجاً بالسلطات التي يكفلها له الدستور. وكذلك يستمع الرئيس الى مستشاريه، ومع ذلك ليسوا ملزمين له بشيء. يشيرون عليه فقط، والقرار للرئيس، والمسؤولية عليه. وفي النظام الوزاري، الشورى أقرب الى الألزام منها على عدم الإلزام، لأن الحكومة مسؤولة أمام البرلمان، ويمكن اسقاطها ان لم تحصل على الغالبية البرلمانية. وفي النظام الرئاسي الأميركي يستطيع الرئيس أن يرد قرار المجلس النيابي مرة، ولكنه يصبح ملزماً إذا أقرّه المجلس النيابي للمرة الثانية. و - الشورى وسيلة لمنع الاستبداد، والتفرد بالرأي، وأخذ القرار في تقرير المصالح العامة، وتسيير شؤون الأمة فيما تعم به البلوى مضموناً وليس شكلاً وصورة: تعددية حزبية وانتخابات برلمانية، وأغلبية وأقلية. الشورى أداة للحكم وليس غاية في ذاتها. أما الذي يحكم فهي منظومة القيم المستقلة عن ارادة الغالبية والأقلية. الشورى شكل من أشكال الديموقراطية "البدوية" تحت الخيمة حيث يستشير شيخ القبيلة بطونها وأفخاذها مثل القضاء أيضاً الذي يحضر فيه المتخاصمان بعيداً عن القوانين الرسمية ومحاكم الدولة والمحامين والشهود المأجورين، وألاعيب الاجراءات القضائية الرسمية. أما الديموقراطية فهي غاية في ذاتها، ليس فقط في قيمتها انها ضدّ التسلط والتفرد والطغيان، بل أيضاً في أشكالها وصورها ومؤسساتها. والشكل الوحيد هو: الديموقراطية البرلمانية والتمثيل السياسي والانتخابات العامة والتعددية الحزبية، والوزارة المسؤولة أمام البرلمان. وهناك الديموقراطية الشعبية أو الديموقراطية المباشرة من دون تمثيل يتوسط بين الحاكم والمحكوم. ان الديموقراطية في الحقيقة وسيلة وليست غاية، أنجح وسيلة وأكثرها رسوخاً واطمئناناً لتحقيق أهداف عليا عن طريق المشاركة الشعبية بدلاً من تحقيقها بسلطة الفرد أو بجهاز الدولة. ز - ومنظومة القيم التي هي غاية الشورى منظومة ثابتة دائمة وعامة يتفق عليها جمهور العقلاء. وهي ما يسمّى مقاصد الشريعة الكلية التي من أجلها وضعت الشريعة ابتداءً. وهي الضروريات الخمس: الدفاع عن الحياة، والعقل، والدين، والعرض، والمال. الحياة تمنع من القتل والإجهاض والانتحار وإماتة النفس والهلاك بسبب المرض والجوع والعُري. والعقل هو قوام الحياة الذي تميّزت به الحياة الإنسانية عن الحياة الحيوانية والنباتية. والعقل هو مناط التكليف وشرطه. ويتضمن العلم والمعرفة والدراية والوعي والخبرة والفهم ومحو الأمية والتخصص الدقيق في آنٍ واحد. والدين، أي القيمة الثابتة ومجموع ما يتفق عليه العقلاء. والعرض هو الشرف والكرامة. ولا يعنى فقط الشرف بالمعنى الجنسي، عرض المرأة، بل الكرامة الوطنية. وفي الريف الأرض هي العرض، ومن يستولي على الأرض ينتهك العرض. وأخيراً المال الذي لا يعني المال الفردي والثروة الشخصية فقط، بل المال العام والثروة الوطنية. هذه هي الأهداف العامة التي تمثلها المقاصد الكلية للشريعة. ولا يمكن لغالبية أن تغيرها حتى ولو كانت لديها الأصوات الكافية والسلطة التشريعية. أما الديموقراطية فبإمكانها تغيير الحق باطلاً والباطل حقاً بإرادة الغالبية. فحقّ الإجهاض وحق العري وحق الشذوذ الجنسي مكفول إذا قررته الغالبية التشريعية. وحق العدوان على الغير واستعمار الشعوب واحتلال الأراضي، واستنفاذ الثروات تتفق عليه الأحزاب، أغلبية وأقلية. فلا فارق بين الجمهوريين والديموقراطيين في أميركا لاحتلال العراق والعدوان على أفغانستان. ولا فارق بين حزب العمال وحزب المحافظين في بريطانيا في الدخول في قوات الغزو لاحتلال العراق. ولا فارق بين حزبي العمل والليكود في احتلال كل فلسطين، واقامة الجدار العازل، والاستيطان، والعدوان اليومي على شعب فلسطين باغتيال زعماء المقاومة، وهدم المنازل، وتجريف الأراضي، وقتل النساء والأطفال والشيوخ. ولا فارق بين الايديولوجيات الرأسمالية أو الشيوعية في العدوان والمقايضة وتبادل المنافع: احتلال الروس للشيشان، واحتلال أميركا للعراق وأفغانستان. * كاتب مصري. أستاذ الفلسفة.