عندما كتبت قبل أيام عن الفساد في برنامج اعادة تعمير العراق تلقيت ردي فعل متناقضين: واحد لا يصدقني، والآخر يقول انني لم اكتب ما فيه الكفاية. اليوم احاول ان اقنع الاول، وان اشفي غليل الثاني متوكئاً على مصادر غربية خالصة، منها مواقع على الانترنت بما فيها موقع السلطة الموقتة للتحالف السابقة ودور بحث وأبرز الصحف الغربية مثل "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست" و"لوس انجليس تايمز" و"الغارديان" و"الفاينانشال تايمز". حتى مطلع الصيف، كان برنامج إعادة التعمير في العراق قد انفق 366 مليون دولار، من اصل 4،18 بليون دولار أقرها الكونغرس. واذا افترضنا ان الانفاق زاد مرتين منذ حزيران يونيو الماضي، وهو افتراض مغرق في التفاؤل، فإن مجموع ما انفق حتى الآن لا يتجاوز اربعة في المئة من المبلغ المخصص للبرنامج، ضمن مخصصات الحرب في العراق وأفغانستان التي بلغت 87 بليون دولار زيدت اخيراً. كان يفترض ان ينفق المبلغ على تدريب الشرطة العراقية واعادة بناء البنية التحتية بما في ذلك الكهرباء ومجارير النفايات والمدارس والمستشفيات والاتصالات والمواصلات. وفي حين ان الارقام قد تختلف قليلاً بين مصدر وآخر، والكل غربي كما اسلفت، فانها تقول الشيء نفسه. السلطة الموقتة للتحالف، في أحد آخر اجتماعاتها عن البرنامج اقرت انفاق 500 مليون دولار على قوى الامن، و315 مليوناً على اصلاح الكهرباء، و460 مليوناً على اصلاح القطاع النفطي و180 مليوناً على قضايا العقارات. الا ان الارقام هذه لا تمثل سوى جزء من ارقام سابقة صادرة عن السلطة نفسها فهي كانت قررت انفاق 2،3 بليون دولار على قوى الامن العراقية هبطت الى 500 مليون، ولم ينفق منها فعلاً سوى 194 مليوناً، وانفاق 5،5 بليون دولار على الكهرباء، و7،1 بليون دولار على قطاع النفط. وعندي ارقام متضاربة، فلا أسجلها، عن الانفاق على الصحة، الا انها جميعاً منخفضة جداً. وكانت السلطة وعدت بايجاد 250 ألف وظيفة جديدة للعراقيين، فلم توجد سوى 15 ألف وظيفة، فيما بلغ انفاق الشركات المتعاقدة على التأمين والحراسة الخاصة 30 في المئة من قيمة كل عقد. اسوأ مما سبق هو ان عبء اعادة التعمير لا يعتمد في الحقيقة على الاموال الاميركية التي وعد الكونغرس بها، وانما هو كله تقريباً من دخل مبيعات النفط العراقي، مما جعلني اقرأ عنواناً لتعليق هو "سرقة بالبلايين". الواقع ان مجلس الامن الدولي كان انشأ آلية مراقبة للانفاق تتألف من ممثلين للأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي والصندوق العربي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، غير ان سلطة التحالف احبطت كل جهود التحقيق في الانفاق، ولم تقدم الوثائق اللازمة. وشكا مكتب المحاسبة العام التابع للكونغرس نفسه من عدم المراقبة، وقال ان صفقات ببلايين الدولارات من المخصصات العراقية لم تراقب في شكل مستقل كما يجب. والمشكلة الاكبر انه حتى عندما يكون هناك تدقيق وتكتشف مخالفات لا يحدث شيء. وكان مدققو حسابات حكوميون اميركيون وجدوا ان شركة فرعية تملكها هالبرتون وتعمل في العراق اضاعت 6975 قطعة معدات. من اصل 20531 قطعة، بينها سيارات شحن وأجهزة كومبيوتر وأثاث مكاتب، كان يفترض ان تستعمل في جهد اعادة التعمير، الا ان الشركة كيلوغ براون اند روت لا تعرف اين ذهبت. الشركة الأم هالبرتون التي ترأسها نائب الرئيس ديك تشيني حتى انتقل منها الى منصب نائب جورج بوش لا تكاد تخرج من صفحات الجرائد، فكل يوم قضية جديدة، وبعضها لا علاقة لنا به مثل تغريمها ملايين الدولارات بعد ان ادانتها لجنة الضمانات والمبادلات الاميركية الرسمية بتضخيم دخلها، وبضياع 1،3 بليون دولار من ارباحها ونقدها، ومثل قضية رشوة مستمرة في نيجيرها، اهم ما فيها انها حدثت وتشيني يترأسها، مما يجعله مسؤولاً عنها. هذا النوع من الفساد هو ما قد نتوقع من العالم الثالث لا من اكبر بلد ديموقراطي في الغرب، وأقوى بلد في العالم. وكان مشروع مراقبة العمل الحكومي، وهو هيئة مستقلة، اصدر تقريراً تحدث فيه عن باب دوار فمئات من المسؤولين السياسيين والعسكريين يتركون وظائفهم الرسمية ليعملوا في شركات خاصة لها عقود مع الدولة في مناطق اختصاص المسؤولين الذين انضموا اليها. تضيق هذه الزاوية عن التفاصيل، وأكثرها اميركي خالص، فأنتقل الى جيمس ووزلي، رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الاسبق، وزوجته سوزان ووزلي. كنت تابعت نشاط جيمس ووزلي على مدى سنوات فبعد تركه وكالة الاستخبارات اخذ يقف مواقف معادية للعرب والمسلمين في شكل متزايد حتى انتهى في مؤسسة اميركان انتربرايز، وكر المحافظين الجدد، حيث يعمل بنشاط ضمن العصابة التي سعت الى الحرب على العراق، وبعض افرادها يقطف الآن ثمرة عمله من دماء العراقيين ودموعهم. قرأت ان سوزان ووزلي، زوجة داعية الحرب هذا، تعمل ضمن امناء شركة استشارية صغيرة لها اتصال مباشر بأركان البنتاغون. وفي كانون الثاني يناير الماضي انضمت سوزان الى مجلس ادارة شركة فلور وحصلت هذه مع شريك لها بعد ذلك على عقد بمبلغ 6،1 بليون دولار ضمن برنامج اعادة اعمار العراق، اما الزوج جيمس ووزلي فهو مستشار للادارة وفي الوقت نفسه له اهتمامات عمل بعضها له علاقة بالدفاع. مثل هذه التصرفات لا تغطيها القوانين التي تمنع تضارب المصالح، الا انها تعكس شبكة من المحافظين الجدد التي افادت اسرائيل من تدمير العراق، وهي الآن تستفيد مادياً من ذيول الحرب. ويبدو ان ادارة بوش اختارت الحل الاسهل في التعامل مع عالمنا الثالث، فبدل ان تجعلنا ديموقراطيات كما وعد الرئيس، اصبحت الولاياتالمتحدة عالماً ثالثاً بالفساد وتراجع الحريات تحت ستار محاربة الارهاب.