طرح اسم جيمس بيكر أكثر من مرة في واشنطن، تحديداً في البيت الأبيض، ليتعاطى الملف العراقي الشائك خصوصاً بعد الحرب وفي وضعية احتلال. وأخيراً عين وزير خارجية جورج بوش الأب لمهمة قد تبدو هامشية في ظاهرها، إلا أنها واقعياً في صلب الموضوع: إدارة ديون العراق. أي، عملياً، ضبط مالية هذا البلد بعدما ادخلتها الحرب وانهيار النظام السابق في نفق من الفوضى والغموض والتسيّب. مئات الملايين التقطت هنا وهناك وعلى الطرق، بعضها ضبط وبعضها اختفى والكثير منها أهدر. روايات عن بليون دولار سحبها صدام حسين في بداية العمليات العسكرية، وعن بليون لا يعرف إذا كان هو ذاته سحبه قصي صدام وقتل قصي ولم يظهر البليون. بلايين أخرى في البنوك في عواصم مجاورة أو بعيدة. أموال أخرى في عهدة الأممالمتحدة. وديون مستحقة لدول لم تشارك في الحرب ولا تبدو متحمسة للمشاركة في إعادة الاعمار قبل أن يتضح مصير حقوقها. ولا بد أن يتداخل هذا الكم مع أموال وعدت بها الدول المانحة التي لم تمنح شيئاً بعد. والأهم، أميركياً، أن عشرات بلايين الدولارات انفقت وتنفق للحرب وما بعدها، أو أقرها الكونغرس على سبيل المساهمة في معالجة المأزق العراقي. قبل الحرب كانت الكلمة لأي "معلومة" يمكن أن تدعم "قضية" الحرب وملفها، خصوصاً في ما يتعلق بالأسلحة، ولعل الولاياتالمتحدة لم تتكلف في تاريخها مقدار ما كلفها ال"لا شيء" العراقي في مجال التسلح. بعد الحرب أصبحت الكلمة للمال، فهو الذي يتحكم بالقرارات والخيارات في واشنطن. لذلك تطلب الأمر العودة الى شخصية مثل بيكر، تتمتع بالإدارة الجيدة والديبلوماسية المحنكة، فضلاً عن قربها التاريخي من آل بوش. فعندما وقعت الواقعة في الانتخابات الرئاسية عام 2000 واستعصت الأصوات في فلوريدا على الإحصاء ونشأت أزمة تقنية قانونية، لجأ الطرفان الى "الحكماء" وكان بيكر هو من انتدبه البوشان، الأب والابن، لحل المشكلة. المهمة البيكرية الجديدة في العراق ليست بعيدة عن المهمة السابقة، فهي تدخل في سياق تسهيل إعادة انتخاب جورج دبليو. لكنها بلا شك أكثر تعقيداً وصعوبة. وبين المهمتين كان بيكر اكتسب بعداً آخر في شخصيته، اذ انتدبه الأمين العام للأمم المتحدة كمبعوث خاص لقضية الصحراء الغربية. صحيح انه لم يحل هذه القضية ولم يبل بلاء حسناً في هذا الملف بل زاده غرقاً في المتاهة، إلا أنه ساهم في تحريكه مما أدى الى كشف مواقف اميركية وأوروبية واقليمية كانت متروكة عائمة وغامضة. الى أي حد سيستخدم البعد "الأمم متحدي" لبيكر في مهمته العراقية؟ الأمر وارد، ولعله مغر، لكن هذا ليس الهم الأميركي الآن. الأكيد ان بعداً آخر ستكون له أولوية: بيكر يعني "بيكتل"، الشركة الاخطبوطية النافذة التي تبدو مشرفة على كل الصفقات المهمة في العراق على رغم منافسة منسقة من جانب "هاليبورتون" التي ارتبطت باسم نائب الرئيس الاميركي ديك تشيني. مسؤولية ضخمة تلك التي عهد بها الى بيكر، ففيها "استعادة" لأموال اميركية انفقت من أجل "تحرير" العراق، مقدار ما فيها من استعادة وتنظيم لأموال عراقية متناثرة في كل اتجاه. ويفترض ان يكون معنياً بكبح جماح الفساد الذي غذته الفوضى العراقية الحالية في الجانب الأميركي ومن يتعامل معه ويشاركه البزنس من الجانب العراقي. ومنذ الآن بدأت التكهنات صعوداً بشأن دور بيكر، فهو لا يعمل تحت إدارة بول بريمر، ولا يتولى مهمة من دون رؤية وصلاحيات، ولا يمكن تصوره مقوقعاً في عمل محاسبي تقني. فطالما أنها مهمة مالية، إذاً فهي سياسية، مثلما كان المال عصب سياسة صدام، يعلو بها ويهبط، يدفعه الى أن يحارب ويغزو أو يغزى ويطاح. وعليه، فإن ضبط العراق مالياً سيقود بيكر مجدداً الى المنطقة وملفاتها شاء أم أبى.