ازدادت وتيرة الحديث في الشهور الاخيرة حول قضايا التغيير والاصلاح والديموقراطية في الدول العربية، واصبح الشعار مرفوعاً في كل العواصم تقريباً، وتبارت الانظمة العربية في حديث مسترسل حول جهودها في الاصلاح والاشواط التي قطعتها بدوافع ذاتية قبل ان تكون هناك توجيهات خارجية، والامر يثير تساؤلاً حول درجة حيوية السياسات العربية المتصلة بهذا الموضوع، فالترهل والجمود اللذان اصابا العلاقات بين بعض الحكومات العربية وشعوبها اصبحا مثاراً للتساؤل ومدعاة للقلق، إذ أن ديناميات النظم المعاصرة تنطلق اساساً من العلاقات الصحية والروابط السوية بين الشعوب والحكام، وهو أمر لا يبدو متاحاً على الساحة العربية في هذه الظروف المركبة، بل والمعقدة، ويدفعنا ذلك إلى إثارة عدد من الملاحظات الرئيسية ذات الصلة بالموضوع. أولاً: إن الاصلاح السياسي والدستوري هما المتغيران الاساسيان اللذان يتبعهما باقي المتغيرات، ولا نتصور اصلاحاً اقتصادياً أو ثقافياً او اجتماعياً من دون البدء بالاصلاح السياسي والدستوري، فالبداية دائماً من الرأس كما أن التدهور يبدأ ايضاً من الرأس ففساد السمكة يبدأ من رأسها كما هو الحال في بعض النظم العاجزة عن متابعة روح العصر وملاحقة حتمية التغيير، ثم إن الامر في النهاية هو مجموعة السياسات على الاصعدة كافة، لذلك فالاصلاح السياسي والدستوري هو المتغير المستقل الذي تتبعه التغييرات الاخرى. ثانياً: إن شعار الاصلاج بدأ يتردد في إسراف واضح وتكرار ممثل من دون أن تواكبه جهود حقيقية على طريقة الصحيح والجاد، وهذا أمر يدعو إلى القلق ويثير المخاوف، إذ أن رفع الشعار وترديده في اسراف واضح هو اجهاض مستتر له ومحاولة للالتفاف عليه، أما ما يتردد من انتقادات لفكر الاصلاح باعتبار أنه جرى تصديره إلينا أو فرضه علينا فهي مقولة حق يراد بها باطل، إذ أن حاجاتنا الى الاصلاح والتغيير أكبر وأسبق من دعاوي السيطرة الاجنبية او التدخل الخارجي. ثالثاً: نبهنا من قبل الى خصوصية كل قطر عربي وظروفه، ولكن الحديث عن تلك الخصوصية لا يجب أن يتحول الى تكأة لتعطيل الاصلاح والتلويح ببعض المحاذير الوهمية التي قد تعبر من قريب او من بعيد عن المستقبل وما يجب أن يكون عليه، فالخصوصية لا تتعارض مع سيادة القانون واحترام الحريات وتوسيع مساحة المشاركة السياسية وتمثيل القوى كافة على مسرح الحياة العامة، لذلك فإن هذه النغمة لا تعبر بصدق عن الواقع والظروف المحيطة به. رابعاً: إن الصراع العربي الاسرائيلي أو المواجهة الاسرائيلية الفلسطينية لا تعتبر مبرراً لإرجاء العمل بآليات الاصلاح والتغيير بل إن مأساتنا الحقيقية في ادارة ذلك الصراع نجمت عن شعارات مرحلية رفعناها لكي نعتبر النزاع العربي الاسرائيلي السبب الرئيسي في تعطيل مسيرة الديموقراطية والابطاء في عملية التنمية والعزوف عن الجدية علي طريق الاصلاح بدعوى أنه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، بينما كسبت اسرائيل معظم معاركها العسكرية والسياسية معاً بسبب التفوق العلمي والتكنولوجي والتطور الصناعي والعسكري والاخذ بديموقراطية كان لها عائدها الايجابي على القرار الاسرائيلي مهما كانت ملاحظاتنا على تلك الديموقراطية التي لا تخلو من مسحة عنصرية. خامساً: إن التفاوت الذي اشرنا اليه في كتابات سابقة بين مستويات التقدم الفكري والاجتماعي في الدول العربية إنما يحدد نقاط بداية مختلفة لكل منها ولكنه لا يضع سقفاً يصادر على طموحات أي منها ولنا في بعض الدول الافريقية الصغيرة حديثة الاستقلال عبرة، فتلك الدول الافريقية قطعت اشواطاً واضحة على طريق التعددية والديموقراطية الى الحد أنها أزاحت بعض القيادات التاريخية حتى من ابطال الاستقلال الوطني واحلت بديلاً لهم قيادات جديدة بحكم صناديق الاقتراع وبقرار الديموقراطية الذي لابد من احترامه. سادساً: يظل الفقر وتدني مستوى المعيشة ظاهرة حاكمة في معظم المجتمعات العربية، وليس من شك في أن فشل بعض الانظمة في الوفاء بالتزاماتها تجاه الطبقات محدودة الدخل فضلاً عن انتشار الفساد المالي والاداري، وهما بالمناسبة ابنان شرعيان للفساد السياسي، يظل ذلك الفقر بمثابة المعوق الاساسي والمانع القوي دون التطور الى الافضل، لذلك فإن مسيرة الاصلاح الاقتصادي ذات اهمية كبيرة، بل إنني أزعم صادقاً أن الارهاب هو الآخر ابن للفقر والتخلف الاجتماعي والانهيار الاخلاقي، وقديماً قال الامام علي كرم الله وجهة"لو كان الفقر رجلاً لقتله". سابعاً: إن ما يجري في العراق من تطورات، بل إن سلسلة المحاكمات للرئيس العراقي المخلوع وقيادات نظامه ستكشف عن جزء مهم من العوار العربي، ورذا كنا نعترف بأن ذلك النظام العراقي السابق ليس له نظير في المنطقة، إلا أنه يبقى عبرة لمن يعتبر، كما يؤكد أن حكم الفرد هو الذي يؤدي الى الكوارث والنكبات، وأنه لابد من المراجعة الامينة لسياق السياسات الداخلية في الاقطار العربية المختلفة في ظل الظروف الدولية والاقليمية المعاصرة. ثامناً: تبقى حقوق الانسان بوابة العصر وطريق الشعوب نحو الغد، ولقد اصبحت لحقوق الانسان مفاهيم واسعة ومضامين شاملة لا تقف عند حدود مقاومة التعذيب البدني والنفسي في السجون والمعتقلات ومراكز الشرطة ولكنها تتجاوز ذلك الى ابعاد سياسية واقتصادية واجتماعية يقع في مقدمتها وجود حد ادنى من مستوى المعيشة يحافظ على كرامة المواطن العربي في اقطاره المختلفة. تاسعاً: إن أخطر ما تواجهه قضايا التغيير والاصلاح والديموقراطية ان الكثيرين ممن يجب أن يستهدفهم ذلك هم الذين يقودون التيار الذي يرفع تلك الشعارات، وهذه نقطة خطيرة للغاية، لان بعض الذين يتحدثون عن الاصلاح هم أولى الناس بأن تقتلعهم رياح التغيير المقبلة، ولعل هذه المسألة تثير من المخاوف ما يرتبط بمبررات مكررة مثل الخصوصية والذاتية والهوية الوطنية. عاشراً: يظل هناك سؤال معلق يتصل بصدق نيات القوى الخارجية التي تدعو الى الاصلاح والديمرقراطية في المنطقة العربية، فهل الولاياتالمتحدة الاميركية صاحبة مصلحة في وجود نظم ديموقراطية في الدول العربية؟ وبمفهوم اوسع: هل تتحمس اسرائيل لإصلاح حقيقي في المنطقة العربية؟ إن الاجابة على هذين التساؤلين تحتاج الى قدر كبير من الصدقية التي لا نضمن وجودها، بل إننا نرى في تحقيق التغيير والاصلاح والديموقراطية ما يتعارض مع مصالح القوى الطامعة في موارد المنطقة والراغبة في التواجد بها او السيطرة عليها. هذه ملاحظات نستهدف منها ان نقرر ان تيار الاصلاح الذي تجتاح شعاراته المنطقة وتمتد افكاره في كل اتجاه يحتاج الى نظرة فاحصة ورؤية شاملة تميز بين الظواهر المختلفة وتضعها في حجمها الطبيعي ووضعها الصحيح، بقي أن نشير الى أن مكانة النظم وقيمة الحكومات تتحدد بدرجة حيويتها وقدرتها على التواؤم مع مجريات الامور خصوصاً وان لدينا في العالم العربي خلطاً غير مفهوم ين حالة السكون ومفهوم الاستقرار، فالاولى تقوم على درجة الجمود القائم بغض النظر عن النار تحت الرماد، أما الاستقرار فهو محصلة لعوامل وعناصر ومقومات تؤدي الى التوازن الاجتماعي والتصالح الطبقي وكفالة الحريات العامة وتمثل القوى الموجودة في الشارع السياسي كافة، بحيث يكون من نتائج ذلك تداول السلطة ودوران النخبة وتجديد الدماء في المواقع المختلفة، وليس سراً ان دول المنطقة العربية في معظمها تتميز بالقسوة في التعامل مع مواطنيها ولا تبدو سجلات حقوق الانسان فيها على المستوى المطلوب، فضلا عن ان بعضها لا يخلو من الظواهر السلطوية المرتبطة بحكم الفرد وتأليه القيادة وتقديس الحكام، وكلها امور عفا عليها الزمن واودعاتها الشعوب متاحف التاريخ، لذلك فإن خروج الدول العربية من دائرة التخلف السياسي سيمثل النقلة النوعية المطلوبة لمواكبة احداث العصر الكبرى وتطوراتها السريعة، ولا يحسبن احد أن الصراع العربي الاسرائيلي او الوضع في العراق بعيدين عن قضايا التغيير والاصلاح بل إننا نرى في ذلك المدخل الطبيعي بل والوحيد للخروج من المأزق والتخلص من الاوضاع الراهنة وفتح آفاق أكثر اشراقاً أمام المستقبل العربي، خلاصة القول إن علينا - نحن العرب والمسلمين - أخذ مسألة الاصلاح بجدية كاملة لان من عيوبنا التاريخية أننا نرفع الشعارات ولا نمضي وراءها ونبدأ الطريق ثم لا نستكمله، وقد حان الوقت بحكم التحديات الصعبة والظروف الخطيرة ان تتغير عقلياتنا وأن تتسع آفاقنا لتستوعب المستقبل بكل ما يحمله من تطلعات ومفاجآت واحداث، ورذا كان هناك حديث متكرر عن صراع الحضارات وصدام الثقافات فإنه يتعين علينا أن نبدأ بانفسنا وأن نسيطر على زمام أمورنا حتى لا تظل صورتنا شوهاء أمام الآخر، ولعلي أقول هنا إنه كلما تذكرت المشاهد المذاعة من محاكمة صدام حسين رأيت فيها تلخيصاً لآلام شعوبنا ومحنة امتنا، وآمنت أن الخلاص لن يتحقق إلا بالتغيير الحقيقي والاصلاح الكامل والديموقراطية الدائمة. كاتب قومي، عضو البرلمان المصري.