وعاد كاظم الساهر إلى قصر بيت الدين، وإلى جمهور بدا في غاية اللهفة للقائه مجدداً. أطل المطرب العراقي في حفلته الأولى أول من أمس وهو يغني لبغداد، فألهب منذ خطواته الأولى حماسة جمهوره. امتلأت المدرجات، ولكن الجمهور كان أكبر مما تستوعبه الأماكن المخصصة له، كان في الخارج ثمة جمهور آخر لم يدفع ثمن البطاقة لأنه لا يملكه فاحتل أي ركن أو تلة تطل على باحة القصر. المهم أن يسمع صوت مطربه المحبب، وهو جمهور يعرف جيداً أن كاظم من القلائل بين نجوم الغناء الذي لا يحتاج الى تقنيات التكنولوجيا الجديدة لتجميل صوته، وأن صاحب هذا الصوت يتمتع بحضور جميل حينما يلتقي الجمهور بعيداً من شاشة التلفزيون. "بغداد أنت في دمي" غنى الساهر أولاً، فعلا الصراخ ترحيباً به وبالمدينة التي يغني لها، ثم انتقل إلى أغنياته العاطفية. يلهب حماسة الجمهور حيناً ثم يركنه الى استراحة رومانسية من خلال أغنية هادئة، ويعود ليحركه من جديد، هو يجيد إقامة الحوار مع الجمهور، يعرف متى يحدثه، وما الذي يقوله بكلمات قليلة، ويعرف متى يتجاوب معه، تمايلت الكثيرات على المدرجات ووقف الجمهور مراراً يصفق للساهر الذي احيا حفلتين في إطار مهرجانات بيت الدين هذا العام. إنه مطرب ذكي، يغني باحساس عال، صوته جميل جداً تزيد حلاوته ثقافة المطرب الموسيقية. وهو أيضاً فنان ذكي لأنه عرف كيف يكون مختلفاً، وأدرك أسرار النفاذ إلى قلوب المستمعين العرب، من الأقرب إليهم، من كلمات الشاعر نزار قباني، وقصائده هي لسان حال أي عاشق عربي لا يجيد البوح بكلام جميل فيستعير ما قاله قباني، وجاء الساهر ليغنيه. وعرف الساهر أيضاً أن الجمهور متلهف للسماع عن بغداد وللاستماع الى أغان وطنية فغنى منها ثلاثاً في بداية الحفلة وفي الوسط وفي الختام. لم يبخل المطرب العراقي على جمهوره. غنى طويلاً، واستجاب لكل طلباته، غنى القصائد التي يحبها مستمعوه وقدم أيضاً أغانيه العراقية، ووظف حال التعاطف الكبيرة مع العراق جيداً في حفلته، شارك عازفيه الدبكة العراقية، وكرر التذكير ببغداد. لم يتعب، لم يفلت منه الجمهور لحظة، حتى عندما كان يستدير ليحادث فرقته، يعرف متى يفاجئ المستمعين بأغنية يعشقونها، ومتى يقدم الأغاني التي يطلبونها. بعض القصائد متشابهة، لكن الجمهور يحبها لأنها تقول ما يشعر به ولأن ألحانها متميزة إذا ما قورنت بالسائد في هذه المرحلة. هذه الأمور هي التي جعلت عودته إلى بيت الدين للسنة الثانية استجابة للنجاح الذي حققته الحفلتان اللتان أحياهما العام الماضي. ومساء أول من أمس سجل الساهر نجاحاً جديداً فهو واحد من المطربين الذين يتمتعون بشعبية كبيرة جداً في العالم العربي. ومساء أول من أمس كان الجمهور يرافقه غناء، يحفظ كل كلمات اغانيه، النساء يتمايلن دلالاً علهن يحظين بالتفاتة، ولو من بعيد، من "المطرب المرهف الحساس" كما كانت بعضهن تردد أو هو يشبه "الرجل كما نحبه... حنون وشفاف". ولكن الساهر يتمتع أيضاً بشعبية بين الرجال، والصغار، ولأنه يدرك هذا الأمر بدا في الحفلة حريصاً على تفقد هذا الجمهور بين الحين والحين، يتأمله ويحاول ادراك امتداده. هذا ما سهل التواصل ومتنه بين المطرب وجمهوره، هذا سر فنان ذكي جداً أو هي تقنيته يفهمها المتأمل له فيبدو الساهر كأنه يغني بقلبه قبل حنجرته.