بيتنا في الصيف، بيتنا في الريف... انه بيتنا الحقيقي. كان ينبغي له ولنا أن يكون بيتنا الوحيد والدائم، في الصيف وفي غيره من الفصول. ولكن الظروف والأحداث التي تلاعبت بنا على مدى سنين، بل عقود، جعلتنا لا نعرف للإقامة سوى طعم مُمض ومعنىً مُهتز. كانت لنا اقامات عدة، ما بين المدينة العاصمة وقريتنا في لبنان الجنوبي. وأما اليوم، وبعد سنوات على تحرير الجنوب، فقد أصبحت الإقامة ممكنةً في قريتنا الجنوبية، وكنت عملت في الفترة الأخيرة على اكمال بيتي فيها، الذي باشرت بالعمل على بنائه قبل أكثر من عشر سنوات، في ظل ظروفٍ كانت شديدةً للغاية. يجتذبنا الصيف هذا العام الى بيتنا الريفي الذي اكتمل بناؤه، في وسط الحديقة التي شبّت. لقد عنيت منذ البداية بأن تكون الأشجار محيطةً بالبيت، حتى وهو في طور النهوض. لقد سبقته الحديقة في النمو. وها هي الآن تحتضنه، وكأنها كانت في انتظاره. ما أجمل غوايات الصيف، الذي - إذ يعيدنا الى بيتنا الريفي - يعيدنا الى كل شيء نحبه، أو نَحنُّ اليه، أو نأنس به. يبعث فينا سحر علاقتنا بالشجر، الذي كان مهداً لنا، وكان يميل علينا حانياً أو مودِّعاً، كلما آنسَ فينا همّةً الى فراقه. ها هي الحديقة قد شبت. انتصبت فيها الأشجار باسقةً متمايلة. هذه هي الأشجار التي شاركت في غرسها، وأُثابر على رعايتها، حتى عندما أكون بعيداً عنها. ها هي الآن تتعالى مزهوّةً الى جانب أشجارنا القديمة التي لا أعرف لها عمراً، والتي أخذ يلوح عليها شيءٌ من التعب، وربما الضجر. حديقتنا هذه، تحيط بالمنزل الذي اكتمل بناؤه، في بقعةٍ من الأرض تفتحت فيها طفولتي، وكذلك أيام صباي. هذه البقعة كانت عبارةً عن كرْمٍ مغروسٍ بأشجار التين والزيتون والعنب. ونمت فيه أيضاً بعض الأشجار البرية. كانت المسافة بينها وبين بيت أهلي بعيدةً جدّاً، على قِصَرها. هكذا كانت عندما كنت طفلاً، ثم أخذت تقصر وتقصر، فيما كنت أكبر وأزداد وعياً واقتراباً من الأشياء حولي. قررت أن أبنيَ منزلي في هذه البقعة أو الكرم، لأنني كنتُ شديد التعلق ببيت أهلي، وشعرت بأنني سأبقى في هذا البيت إذا ما بنيتُ منزلاً في تلك البقعة. شعرت بأن منزلي الجديد لن يكون سوى جزءٍ من بيت جدي، الذي لم يكن الكرم سوى نفحةٍ من نفحاته. وما إن بدأ البناء، وكان مُقدراً له أن يكون بطيئاً جداً لأسبابٍ عدّة، حتى وضعنا غرساتٍ صغيرةً من أصنافٍ مختلفة، الى جانب أشجارنا القديمة، التي أخذت تنظر الى تلك الغرسات نظراتٍ غامضةً مشفقةً. أشجارنا الجديدة أصبحت الآن أكثر عُلُواً من أشجارنا القديمة. كينا، وحور، وسرو، وصنوبر... تطاولت قريباً من أسوار الحديقة، وباتت تنظر من أعلى الى الأشجار القديمة من التين والزيتون، التي تمركز معظمها في الوسط. كأن الجديدة صارت تُشكل حمايةً للقديمة. هكذا تبادلت أشجارنا الأدوار، فمن رعاية القديمة للجديدة الى حماية الجديدة للقديمة. حديقتنا باتت مأهولةً بأجمل الكائنات، من أشجارنا القديمة والجديدة. باتت مأهولةً بجيلين من الأشجار أو أكثر. فأنا وإن كنت أعرف عمر الجديدة أجهل أعمار القديمة، تلك التي فرَّخت أو تجددت مراتٍ ومرات، خصوصاً أشجار التين التي يُعرف عنها أنها كلما تهاوت الأصلية منها نهضت عند جذوعها فروعٌ أو فروخٌ جديدة. أما الزيتون فإنه يشيخ ويشيخ هازئاً بالزمن، الذي يتلوّى على مرِّ السنين كالهباء حيال الجذوع التي تفتح له ثقوباً وفجوات. تحصَّلت لديّ خبرةٌ بسيطة بالأشجار. فالكينا مثلاً أسرعها نمواً، وأقلها احتياجاً الى العناية أو الماء، ومن شأنه أن يكبر كثيراً وأن تمتد جذوره بعيداً. لهذا فإنه يُشكل خطراً على الجدران القريبة منه. والحور - خلافاً للكينا - يحتاج الى الكثير من الماء، بل يحتاج اليه دائماً. والأفضل لنموه أن يظل الماء جارياً عند أصوله. ولهذا، نجده يعلو ويتلألأ ويتضاحك عند مجاري الأنهار. أما السرو فإنه لا يحتاج الى الماء احتياج الحور، ولا يُسرع في نموه سرعة الكينا. وكذلك الصنوبر الذي يُعد بين الأنواع المذكورة أبطأها نحو العلاء. وإذا كان السرو يدِق وينكمش ويقف كالحارس يَقِظاً وكثيفاً، فللصنوبر أن يتهادى وينشرح، وأن يتنفس ملء الفضاء، باعثاً الهواء من بين أغصانه عليلاً نقياً. خبرتي البسيطة بالأشجار لوَّنت علاقاتي بها. صرت أجدُني، كلما أتيت لتفقدها، هائماً بين حماسة الكينا وهشاشة الحور وحِدّة السرو ودماثة الصنوبر. أجدُني خفيفاً متلاشياً في أنفاس الحديقة. ولكن مسؤوليتي أخذت تتزايد حيال عائلتي النباتية المتصاعدة والمتجدِّدة. بتُّ أشعر بأنَّ واجباتي تجاهها تعاظمت، وبات عليَّ أن أصمد - صمودَها على الأقلّ - حيال الزمن والمخاوف والأخطار. هل عليَّ إذاً أن أصمد صمود الأشجار؟! وإلاّ لماذا أبديتُ كل هذا الإصرار على انشاء بيتٍ في قريتي التي لم تعرف الاستقرار أو الأمن فترةً طويلة. مشاعر شتّى تتقاذفني. وأنا أنظر الى عائلتي النباتية في الحديقة. مشاعر من الأنس والرضى والامتلاء والخوف والتبعثر والتحدّي... من أيِّ جيلٍ أنا؟ ومن أكون بين هذين الجيلين من الأشجار؟ الأوَّل الذي نشأتُ في مهده وترعرعت في ظلاله، والثاني الذي عملت على تنشئته ورعايته. أيُّ زمنٍ لي؟ بين زمنين أو أكثر من أزمنة الأشجار. أيةُ لحظةٍ؟ أيَّة هنيهة؟ أَنظُرُ الى الزمن ناخراً جذوع الأشجار، متغلغلاً في ثناياها، نافثاً أسراره بين غُصونها، فأُشفق عليها، وعلى نفسي. ليتنا نتضافر حيال الزمن. أقول في سرّي: ليتنا نبقى معاً، ونرحل معاً. ولكن، من أين لي صمودُ الأشجار؟!