تعاني الساحة اللبنانية في استمرار من غياب النشاط السياسي او تغييبه، مما يوجد في احيان كثيرة حالاً من عدم التماسك السياسي، بخلاف الوضع الأمني الذي لا يزال ممسوكاً بفضل دعم الجيش السوري المنتشر في عدد من المناطق للقوى الأمنية اللبنانية من جيش وقوى امن داخلي. ويعود السبب في الدرجة الأولى الى طبيعة النظام الانتخابي المعمول به منذ عام 1992، والذي يميّز بين منطقة وأخرى، ولا يؤمن العدالة والمساواة بين اللبنانيين. والواقع ان قانون الانتخاب الحالي يتعارض مع روحية وثيقة الوفاق الوطني التي أنتجت الدستور اللبناني، والتي نصت في احدى فقراتها على "إجراء الانتخابات النيابية وفقاً لقانون جديد على أساس المحافظة، ويراعي القواعد التي تضمن العيش المشترك بين اللبنانيين وتؤمن صحة التمثيل السياسي لشتى فئات الشعب وأجياله وفاعلية ذلك التمثيل بعد إعادة النظر في التقسيم الإداري في اطار وحدة الأرض والشعب والمؤسسات". وبدلاً من ان تساوي الحكومات المتعاقبة على السلطة منذ انتهاء الحرب بين اللبنانيين، ابتكرت "بدعة" سياسية لا مثيل لها، تمثلت في وضع قانون "استثنائي ولمرة واحدة وأخيرة"، يعتمد على تطبيق نظامين انتخابيين: الأول على اساس المحافظة او الدائرة الكبرى، والثاني انطلاقاً من الدوائر المتوسطة او الصغرى. ومع ان وثيقة الوفاق نصت على اعتماد المحافظة دائرة انتخابية من دون تحديد عددها، ريثما يُتوصل الى إرساء قانون جديد للتقسيم الإداري، فإن الحكومات التي توالت على رأس السلطة التنفيذية اخذت على عاتقها خرق تلك الوثيقة على رغم انها تضمن العيش المشترك وتحقق المساواة بين اللبنانيين. والجدير بالذكر ان في كل مرة شكلت فيها حكومة جديدة، كانت هذه تدرج بنداً خاصاً في بيانها الوزاري يشدد على صوغ قانون انتخاب متوازن. لكن التناغم بين القوى الفاعلة في المجلس والحكومة على السواء كان يساعد على خرق وثيقة الوفاق، فيأتي قانون الانتخاب على قياس تلك القوى بدلاً من ان يأتي على قياس الوطن ككل ويحول دون إشعار فريق من اللبنانيين بأنه مستهدف لأسباب ليست سوى السيطرة على السلطة التشريعية التي تستمد منها الحكومات شرعيتها. وهكذا، فإن الفريق المتضرر من الدوائر الكبرى، لا يعتبر الانتخاب إلا تعييناً من طريق الاقتراع! واعتادت الحكومات من دون استثناء وضع قانون انتخاب في اللحظات الأخيرة التي تسبق الاستعداد لإجراء الانتخابات النيابية، وكأنها تريد ان تفرضه كأمر واقع على بعض القوى السياسية وعلى رأسها المعارضة التي تشكو على الدوام من استفرادها من خلال قانون يجمع بين الأضداد من حيث التقسيمات الإدارية، ويأتي لمصلحة قوى موالية مسيطرة على المجلس النيابي ولا تستطيع مراقبة الحكومة او محاسبتها طالما انها تتمثل فيها بحصص تفوق احياناً احجامها السياسية الحقيقية. وفي كلام آخر، يرى المعارضون ان اي قانون انتخاب غير عادل، ينم عن قرار سياسي بتوفير المناخ الذي يتيح للتكتلات النيابية الكبرى السيطرة على مقاليد اللعبة السياسية وبالتالي يمنع الكتل الصغيرة من القيام بدور فاعل على صعيد المحاسبة والرقابة. ومما يزيد في استمرار الخلل على مستوى السلطتين التنفيذية والتشريعية وجود شعور لدى المعارضة باستحالة الطلب من مجلس نيابي يهيمن على الحقائب الوزارية، ان يتولى محاسبة نفسه او مراقبة حكومة تدين له بالولاء، اضافة الى ان القانون "الاستثنائي" اتاح المجال لوجود تكتلات نيابية يغلب عليها الطابع الطائفي او اللون السياسي الواحد، وذلك بفعل تقسيم انتخابي يؤمن لها المحادل التي تعبد لها الطريق للوصول بسهولة الى البرلمان. ولا يحتاج اللبنانيون الى بذل جهد فوق العادة ليكتشفوا ان رئيسي المجلس النيابي نبيه بري والحكومة رفيق الحريري ورئيس اللقاء النيابي الديموقراطي وليد جنبلاط وكتلة نواب "حزب الله" يسيطرون على اللعبة البرلمانية من الداخل، في مقابل اضطرار المعارضة وغالبيتها من النواب المسيحيين الى خوض معركة تتطلع من خلالها الى إثبات وجودها في وجه التكتلات النيابية التي تكاد تصادر اللعبة البرلمانية، ولم يعد في وسعها سوى قول كلام هو أقرب الى "فشة الخلق" منه الى تفعيل الحياة البرلمانية، طالما ان المشاركة غير موجودة ولا يمكن لقانون غير متوازن ان يؤمن صحة التمثيل. وعليه، فإن قانون الانتخاب الحالي الذي لم تتمكن جميع الحكومات في عهد رئيس الجمهورية الحالي اميل لحود من إدخال تعديلات جوهرية عليه تسمح بتحقيق التوازن وتؤمن المساواة، يبقى من اوائل مهمات العهد الجديد بصرف النظر عن اسم رئيس الجمهورية العتيد. ويأمل كثيرون ألا يأتي على صورة القانون المعمول به حالياً، خصوصاً ان الانتخابات النيابية ستجرى في الربيع المقبل. وهناك من يخشى ان يتحكم الكبار في المجلس النيابي او في الحكومة الجديدة التي ستشكل مع انتهاء عهد الرئيس لحود، بمصير القانون لجهة فرضه على اللبنانيين من خلال تسويقه بسرعة وعبر ولادة قيصرية اقل ما يقال فيها إنها "سلقة" على عجل لضمان المستقبل السياسي للتكتلات النيابية الكبيرة. وإذا كانت الذريعة في عدم الإسراع في وضع قانون انتخاب عادل، تكمن في ان من الأفضل ان يترك الأمر للرئيس العتيد ليطل به على اللبنانيين وكأنه إنجاز فريد من نوعه، فإن هناك من يخشى ان يخضع الى عملية "ماكياج" لن تبدل من ميزان القوى الحالي وإن كانت ستؤدي الى تطعيم المجلس النيابي بوجوه جديدة يصار الى استحضارها من داخل البيت السياسي الواحد بدلاً من إفساح المجال أمام حصول تغيير في التمثيل الشعبي. وفي هذا السياق، يبدو ان الطبقة السياسية الحاكمة أكانت في الموالاة او في المعارضة بصورة موقتة، ستواجه مشكلة في حال قررت، للدفاع عن مواقعها السياسية في السلطة، اعتماد معايير مختلفة في قانون الانتخاب الواحد، كما هي الحال في القانون الحالي الذي يعتمد الدوائر الكبرى في البقاع والشمال والجنوب وبيروت، والدوائر المتوسطة والصغرى في الجبل. والواقع ان مجرد "التمديد" لقانون لا يراعي المساواة، سيؤدي الى إحراج رئيس الجمهورية الجديد، خصوصاً في الشارع المسيحي الذي يشكو من ذوبان قوته الانتخابية في الدوائر الكبرى في الشمال والجنوب والبقاع وبات يعلق اهمية على المجيء بقانون يضع حداً للبوسطات والمحادل السياسية ومن شأنه ان يبدد القلق لدى المرجعية المارونية المتمثلة بالبطريرك نصر الله بطرس صفير. ومعروف ان البطريرك صفير لا يزال يسأل عن السر الذي يتيح لبعض القوى التفرد في وضع قانون على قياسها بدلاً من ان يسهم اي قانون في تقرب الدولة من مواطنيها من خلال إشعارهم بوجود رغبة قاطعة لديها بتصحيح علاقتها بهم. ولذلك لا بد من الغوص في اختبار جديد لحقيقة النيات بوضع قانون انتخاب جديد لا يعطي مسبقاً ومن خلال التقسيمات الانتخابية أي ارجحية لهذا الطرف او ذاك، إضافة الى انه يلغي حكماً "النقزة" الدائمة لدى معظم الأطراف المسيحية من انها تتعرض بواسطة القانون الى حرب إلغاء بالمعنى السياسي للكلمة، او التفرد وبالنيابة عنهم في تقرير مصيرهم. ويبقى السؤال المطروح: الى متى تبقى معظم الرموز الأساسية في الطبقة السياسية على خصام دائم مع جمهورها؟ وهل ان هناك من يخشى من تطعيمها بوجوه جديدة فيلجأ الى الاستقواء بفرض قانون انتخاب غير عادل يكرس امساكها بالقرار السياسي ويسهل طغيانها على القوى الأخرى التي اخذت تراهن ومن موقعها المعارض على دور فاعل لسورية في ابتداع قانون يحقق الحد الأدنى من التوازن ويحمي اللعبة الديموقراطية؟ ويعتقد السائلون بأن قانوناً كهذا يفترض ان يكرس المحاسبة والمراقبة التي تدفع بالقوى الكبرى الى مراجعة حساباتها، والتعاطي مع الدولة على انها للجميع، وإشعارها اخيراً بأن حماية النظام لن تتحقق إلا بوجود رغبة قاطعة في اصلاحه من الداخل كأساس لقيام دولة المؤسسات والقانون التي لا تزال في غيبوبة ولم يكتب لها حتى الساعة الخروج من غفوتها والالتفات الى الواقع المرير الذي يمر فيه البلد. ويرى بعضهم ان قانون الانتخاب الجديد لن يحقق الأهداف المرجوة منه، ما لم تقلع القوى الكبرى عن لعبة الاسترضاء التي ادت وتؤدي الى تحويلها الى قوى "منفوخة" لا تعكس حجمها الحقيقي على الأرض. لذلك يتريث اللبنانيون في إبداء اي حماسة حيال قانون الانتخاب الموعود، الى ان يأتي بحجم الوطن الذي هو اكبر من الطوائف والمذاهب والتكتلات السياسية التي تتعاون في الانتخابات لكنها سرعان ما تدخل في تناحر حول الحصص على رغم انها تتحدث بنبرة عالية ضد الفساد فيما معظمها يمارس عكس ما يدعيه. وفي المحصلة، يبقى الانتظار سيد الموقف الى حين صدور قانون الانتخاب الذي يفترض ان يكون عادلاً ويوفر الفرصة التي تسمح بتحسين "النسل" في المجلس النيابي وفي شكل يعيد الاعتبار للحياة السياسية التي لا تزال تمضي "إجازة قسرية" منذ عام 1992 فرضها عليها قانون انتخاب جائر يحاول هذا الفريق ان يرمي المسؤولية فيه على الآخر، وكأنه هبط على اللبنانيين بالمظلة، تماماً كما يحصل بالنسبة الى قانوني البلديات واللامركزية الإدارية اللذين يكثر الحديث عنهما، وتنشط اللجان النيابية في مناقشتهما من دون معرفة الأسباب التي تمنع صدورهما على رغم ما لهما من تأثير في تقديم التسهيلات لخدمة المواطنين وتلبية احتياجاتهم!