يعود رشيد مشهراوي الى قطاع غزة ليطلق منه فيلمه الجديد "انتظار"، فيقع هو نفسه فريسة هذا الورم المسمى بالانتظار، ويقبع عند معبر رفح اكثر من اسبوعين. يقف مع الواقفين، وينام مع النائمين. وذلك بدلاً من ان يبحث عن "الكاستنغ" المطلوب لفيلمه، الذي يقوم بمجمله على فكرة تكوين فرقة للمسرح الوطني الفلسطيني من لاجئي مخيمات الشتات، والعودة بطاقمها اذا امكن الى القطاع، مفترضاً ان تمويل الدول المانحة لها قد يسهل هذه العودة. رشيد مشهراوي الذي يورطه المعبر بالانتظار الفعلي يحمل الكاميرا الرقمية الخفيفة، ويبدأ هو من مكانه بدلاً من شخصيات فيلمه احمد وبيسان ولوميير، بالبحث عن تلك الوجوه المطلوبة لتأسيس الفرقة خليل بدران، حسين سويدان، حفيظ السايح، سيرين بشارة وتطول القائمة، لكن هذا يظل من الآن فصاعداً بلا معنى، فمن المؤكد ان مشهراوي التقى بهم كلهم اثناء فريضة الانتظار المقلق عند معبر رفح، وهو تمكن بجسارة من تحقيق تلك الفارزة التي تميز البرهة السينمائية الفارقة، والتي تخلط الواقعي بما هو متخيل، وتقضي بصاحبها ان يخلط بين حوار جرى معه اخيراً، ونشر في "الحياة"، وبين موضوع الفيلم نفسه الذي يبدأ من هناك، مما هو واقع وراء المعبر، من غزة، ومع جوازات سفر السلطة الوطنية الفلسطينية. تلك الجوازات العاثرة الحظ التي تتسنم احتلالات كثيرة على الورق، وتترك حامليها في استراحة اقصائية وإجبارية عند كل المعابر الرمزية والواقعية التي تميز فيلم مشهراوي الجديد. المعابر نفسها التي تجمع اللحظات، او العلامات الفارقة في بوتقة واحدة، كأنما لتصهرها وتعيد فبركة القصص في الفيلم، كما في الحياة، وكأنما المخرج الذي ينتظر عند المعبر، لا ينتظر احداً في الواقع، او هو ينتظر حفنة من الممثلين الهواة والمحترفين او هم على احتراف مشكوك بأمره، وينحت لهم الأدوار المكتوبة بتأن، وهي ادوار العمر. ومنذ تلك اللحظة المدوية لقرار الإغلاق يبدأ رشيد مشهراوي بمحاكاة ابطاله عبر شاشة كرستالية صغيرة، هي مأواه وحيلته لحظة الحشر، فالانتظار الواقعي هو من يقرر مسار الحكاية كلها، وهو اي الفلسطيني الذي يشبه برأسه الحليقة كوزاً من الصبار الأبدي، يقضي عمره في الانتظار عند المعابر، ليعبر، او يمر، او يدخل ثلث عمره في فوهة الزمن السينمائي الذي لا يعود متوافراً في حالته، هذا اذا لم تقصفه رصاصة او قذيفة او وشاية عابرة... وليس لمن يقضي كل هذا الوقت في الانتظار ان يقدم اعتذاراً الى احد عن تأخير، او عن جحيم موصول بفداحة الانتظار، فصاحب "الكاستنغ" المنير لا يعود يفارق مكانه، لأن البقاء الإجباري عند معبر رفح، او معبر آريتز او حتى معبر نهر الموت ذي البنية الدلالية في اللغة السينمائية، ارحم بكثير من الوقوف عند معابر الآخرين، وهذا ما يفعله مشهراوي وهو يتمدد في غفلة عن المصور منير او لوميير الذي سيرافقه في الفيلم بصفته "الكاميرامان" المطلوب، وهو الذي لم يجد شيئاً يصوره في زمن الانتفاضة الثانية، فانتقل الى اصلاح التلفزيونات وتركيب الصحون اللاقطة ليكسب لقمة عيشه المُرّة. وفي ولعه المستفيض، يخفي بعض الأشرطة التي صورها في زمن العطالة الإجبارية، ومن يقين انه لم يكن ليفوت ثلاثة اسابيع من الانتظار عند معبر رفح، فهذه فرصته في تشغيل كاميرته، وهي فرصة ذهبية سانحة، طالما تعيد توأمة روحه مع الشريط. وأما الشخصيات التي سيبحث عنها المخرج احمد في الفيلم، فهي موجودة امامه، وهي من ستشكل عماد فرقة المسرح الوطني الفلسطيني المتخيلة والمدعومة مالياً من دول مانحة وعاجزة في آن... هكذا يبدو المشهد في الفيلم نافراً: ثلاثة آلاف فلسطيني يقفون عند معبر رمزي، وهم اعضاء الفرقة، وما هو مقترح عليهم لا يتعدى اداء دور من ينتظر... هكذا ايضاً... المخرج يقف بين ممثليه وينتظر... ينتظر شيئاً لا يجيء...!