أفقتُ صباح السبت في 22 آذار مارس، لأكتشف أنّي لا أرى شيئاً بعيني اليمنى. لعلّه الكسوف الذي يحذّرون من نتائجه! كلّمتُ صديقة لي فاستغربتْ. لو كان الأمر كذلك لغشيتْ عيناي الاثنتان. صحيح... معها حق... إذاً ضربوها. ضربوها معقول؟ ضربوها أكيد وأنا عيني عِمْيتْ، وإنتِ؟ قالت إنها لا تشعر بشيء غير عادي. لكنّها بالتأكيد فهمتْ قصدي: منذ الحادثة المشؤومة التي وقعت في 11 أيلول سبتمبر وأنا أهجس بحرب عالمية "غير شكل". ضربات نووية وغير نووية ستفني الأرض وَمن عليها. يومها، سخر أصدقائي من تخيّلاتي. قالوا: ليه ما بتكتبي سيناريو للسينما يا رجا؟ وقالوا: عندك مخاوف... عقدة المؤامرة راكبة راسك. انتبهي لحالك. "وأنا سمعت الكلمة وصرت انتبه ولكن... غيمة رصاصية تحجب البصر عن النظر والمسألة صارت واضحة: ضربوها. وما هذه الغيمة سوى من الآثار الثقيلة للضربة. بعد 11 أيلول رحتُ أسأل وأدرس آثار أسلحة الدّمار على البشر. قرأت عن هيروشيما ودققت بالتفاصيل والصّوَر. لكن هذه المرّة ستكون أفظع. يا ما احلى الذرّية! آلاف الرؤوس لأسلحة شديدة التطوّر، تملكها القوى العظمى، ويملكها - كما يزعمون - عدد من أثرياء العالم... من شأنها إفناء الأرض. يكفي حين يقرّر هؤلاء في ساعة "سمّاعة" أن يضغطوا على الأزرار لتقع الكارثة: ألسنة لهب جهنمية ستشتعل في غمضة عين. وثقب الأوزون سيتسع بصورة مذهلة. والكُرة الوديعة التي احتضنتنا ملايين السنين ستفقد سرّها العظيم لتتلاشى الجاذبية التي كانت تشدّنا إليها. وتجنّ الأرض وتطير باتجاه الأوزون لتخرج من مدارها. ونحن، ملايين البشر، قوّة الضربة لن نشعر بشيء. سنقفز بلا وعي عن سطح الكرة لنسبح في الفضاء، موتى مبتسمين ترتسم على وجوهنا أمّارات الهناء. ولا ندري كم من آلاف السنين سنبقى على تلك الحال قبل أن يكتشف صنف آدميّ جديد آثارنا ويفك لغز ابتسامتنا. منذ 11 أيلول وأنا أحضّر نفسي لهذا اليوم: اشتريت السرير الذي سيحملني في سفري الأخير. وابتكرتُ بمساعدة الميكانيكي طريقة تثبّتني إليه. هكذا، ليصبح سريري أرجوحة تهدهدني في رحلتي الأبدية، فيما أنا متشبثة بالغطاء المطرّز الجميل الذي اشتريته في زيارتي الأخيرة إلى أميركا. في بحثي الدّؤوب، عن آثار الأسلحة تلك... اكتشفتُ يقظة مفاجئة في ضميري التاريخي. الضمير، الذي بفضله دُوِّن تطوّر السلالات والحضارات، منذ العصر الحجري حتى الالكتروني... استيقظ لينغّص راحتي: كيف أساعد إنسان ما بعد الكارثة الأرضية، في اكتشاف أسرار حياتنا نحن سكان الكرة التي وُجدت ذات يوم وانقضى أمرها بتلك الضربة المتعسّفة؟ هكذا، أضفتُ إلى الأشياء التي حزّمتها في جوانب السرير وثائق وأغراض تنوّر الانسان القادم وتعلّمه الدّرس الذي كان يجدر بنا نحن أبناء الأرض أن نتعلّمه. فيُحرّم القتل ويُبطل الحروب ويتلف أدواتها ومصانعها. نعم يحرّم ذلك تحريماً كلّياً قاطعاً مانعاً لا يقبل المراجعة ولا الجدل... ليه لأ!! مثلما حرّمنا نحن زواج الأب من ابنته... هكذا في الحقبة التالية ستُنسى حكاية قابيل وهابيل... ويصبح القتل من نفايات بائدة لتاريخ غابر تتقزّز لذكراه النفوس. وكعادتي تحمست: فتحتُ البريد الالكتروني وكتبت رسالة رقيقة وجهتها الى سكان الأرض جميعاً ختمتها بعبارة علمية فصيحة: يُحرّم القتل تحريماً كلّياً. تحريم الزنا بالمحارم. نقطة على السطر. وترجمتُها إلى اللغات الثلاث التي أَلمّ بها. وطلبت من مساعدتي في المكتب أن تهتمّ بها واتكلتُ عليها أن ترسل النسخة الأولى منها إلى كوفي أنان. لا أدري لمَ نظرت إليّ ندى، وهي جدّ لطيفة، تلك النظرة الغريبة وابتسامة حائرة تلوح على ثغرها كما يقولون. لنرجع إلى حكاية عيني... ذاك النهار المشؤوم، ألقيتُ نظرة على سريري وأسرعتُ في الذهاب إلى الطبيب. قلتُ في نفسي لعلّ الرّؤوس النووية أُلقيت بعيداً، فضربتْ آثارها الجانبية عيناً وسمحت لي بالأخرى. ولعلّ الطبيب ينقذ شيئاً من تلك الآثار... بسرعة، قلتُ لسائق التاكسي. وسألته إن كان، من ناحيته، يرى الطريق جيداً بعينيه الاثنتين، فالتفت إليّ مستنكراً: وَلوّ يا مدام، ما في ثقة!! شو أنا أعمى؟ شو مفكّرتيني بعين وَحدي!! في المركز الطبي وبعد انتظار أربع ساعات وخمس دقائق جاءت السكرتيرة وقالت لي بلطف انّها ستعطيني الأولوية لأنّي تعبانة. وأدخلتني إلى مكتب الطبيب، هذا الذي بعد الفحص سألني: مين عندكم بالعيلة أعمى؟ مين عنا بالعيلة أعمى؟ لم يدعني الطبيب أسترسل لأكتشف جذور العمى في عائلتي. خرجت وأنا أتحزّر: مين عنّا بالعيلة أعمى!؟ ما في حدا. جدّتي... التي أتمّت المئة وأربع سنين، زرتُها الأسبوع الماضي وَكانت مكتئبة. ما ان سألتها شو الحكاية يا ستّي حتى شهقت على كتفي بالبكاء. "مش عم شوف الرّاعي يا بنتي". الراّعي؟ أيوه... وشرحتْ لي القصة. قالت إنّّها من شرفتها المطلّة على البحر في صور، ما عادت ترى الراعي وهو يرعى قطيعه في القرية التي وُلدتْ فيها. "يا حسرة يا بنتي ما عدت شوف شي. بالكاد بشوف الخرّوبي اللي بأوّل الضيعة". هذا بالنسبة الى جدّتي... أما خالي وعمّي الأصغران فما زال يحلو لهما، وهما في الخامسة والثمانين، إجراء مباراة في القراءة على ضوء القمر كما كانا يفعلان قبل دخول الكهرباء المدينة. الالتباس الوحيد في شأن العمى، قد يأتي من جهة عمّاتي... فملاك الموت لم يمهلهنّ بما فيه الكفاية ليمتحنّ أبصارهنّ. بل استعجل في حملهنّ على جناحيه وهنّ في عزّ الصبا قبيل التسعين. بعد ذلك زرت أطباء كثيرين، كلّهم على رغم التشخيص "اللئيم" أصحاب كفاية رفيعة وأمانة. أخيراً وقعتُ على طبيب أمير كما يقولون!! يكتّر خيرك يا ربّ! طبيب ممتاز. منذ الزيارة الأولى قال لي الحقيقة... فلم يجزم، إذا ما كانت عيني ستتحسن بحيث تُشفى تماماً كما قالت لي آخر طبيبة زرتها في فرنسا، أم انتهى أمرها كما أكّد لي أوّل طبيب زرته في لبنان. الاحتمالات كلّها موجودة. طبيبي، سامحه الله، لا يعلم حتى هذا التاريخ، بالورطة التي سببتها لي أمانته! فوجود احتمالين مختلفين لهذا الحدّ... جعل دماغي يشتغل مثل رقاص الساعة: رح إعمى؟ لأ مش رح إعمى. رح إعمى؟ لأ مش رح إعمى. وانعكس تناقض الجملتين على حركاتي واختباراتي: أقف على الشرفة و... أغمض عيني اليسرى وأنظر باليمنى... أحدّق بالسيارات المتوقفة تحت بالمارة... مشكلات فظيعة حدثت لي بسبب هذه الآفة: أحد المارة زجرني: استحي يا مدام!! وآخر قال: عيب يا ست استحي عا حالك. وثالث قال بصوت جهوري: عيب يا حجي. لكن أحدهم ابتسم لي وقال: أمرك يا ست. أنا بأمرك إللّي بدّك اياه يا ست. كثيرون في تلك الفترة صاروا يرحّبون بي في الطريق. من ناحيتي، ولفرط ما أنا ذكية وحربوقة شلتها عالطاير. فما هي إلاّ أشهر حتى انجلى في رأسي مغزى الترحيب. وتحسّباً، صرت لا أخلع نظاراتي السود أبداً، حتى في ظلام الليل، لئلا يفسّر أحد اختباراتي بما لا يليق بسيدة - أو بحجة - مثلي. تَغيُّرات أخرى طرأت على سلوكي بسبب أمانة الطبيب. كنتُ تحزّباً منّي لإمكان الشفاء... درستُ جيّداً سبل الوقاية. فبدأت أضع قبعة على رأسي. كنت قرأت أشياء عن ثقب الأوزون. شيء خرافي!! قالوا عم يتسع ويكبر. طبعاً رح يكبر... ليقضي على البشر والحجر. بيكفي البخّاخات: بخّاخات الرّوائح، الرخيصة والباهظة الثمن، كلّها في القدرة على قتلك واحدة. وبخّاخات مزيلة للعرق بتدبح الثور!! يا ما احلى ريحة العرق! غاية الكلام صارت القبعة مِن مستلزمات الحماية. وصار الناس في الشوارع أشدّ ترحيباً بي من أي وقت مضى. يقولونها بكلّ اللهجات العربية التي لاحظت وجودها أخيراً في لبنان. يقولونها بالمصري والسوري والسوداني: بأمرك يا ست. والبعض يسأل بالانكليزي: هاو آر يو how are you?... في تلك الفترة بدأت أفهم شوية سرلنكي. وتحسّرتُ على المصير الذي آلتْ إليه الفرنكفونية. لا أحد، ما عدا كلمة مدام سألني: comment allez vous ?. وتحمّست للّغة الثانية التي ألمّ بها وكتبت رسالة إلى شيراك بهذا المعنى نصحته فيها أن تكثّف فرنسا جهودها في دعم اللغة الفرنسية في المدارس وليس فقط في أسواق عكاظ!! الغريب أن شيراك لم يردّ عليّ غير أنّي، وحماستي للغة الفرنسية تفوق كبريائي، لم أبالِ. هكذا واظبت على مراسلته في شأن الفرنكفونية مواظبتي على مراسلة كوفي أنان في شأن تحريم القتل وتبني دعوتي إلى السلام. إنّما وبمرور الوقت، تعبت من المراسلات وأرهقني رقاص الساعة الذي ركَّبَته أمانة الطبيب في رأسي. كريم ابني نصحني بالتوقف عن مشاهدة الأخبار في التلفزيون. "يا ماما... كل هيدا ما رح ينفعك. بكره بتخسري صحتك". وأنا، المطيعة، امتثلت لنصيحة إبني: خلعتُ الكابل ورميتُ جهاز التحكّم في الزبالة. لم أكن أعلم أن نصيحة حُبّ ستوقعني في ورطة أفظع بكثير من التي أوقعتني فيها أمانة الطبيب! أمر غريب... التلفزيون مقطوع... لكن صوته بعدو بيوش وبيهدر. والصوَر ما بترحم. بترقص عالشاشة ليل نهار. وأصابعي، حتى في النوم، تضغط أزرار الريموت وتغيّر المحطات. يعني ما عملنا شي. الشخصيات التي نصحني كريم بالتوقف عن مشاهدتها ظلّت تحضرني: بن لادن ورامسفيلد وبوش وبلير وباول وصدّام حسين والناطقون بأسماء هؤلاء... يا لطيف، ما في غير الصحاف مهضوم، والباقي أخبارهم بتغمّ عالقلب. وبمرور الوقت صارت المشاهد تتغيّر. وصار هؤلاء يظهرون في أماكن أخرى غير تلك التي اعتدناها: أدغال وغابات ذات أشجار كثيفة وصحارى لا نهائية وجبال ووديان... كما تنوّعت المشاهد: بن لادن يحب تسلّق الشجر. واضح. يمضي وقته يتأرجح عليها أو يقفز من غصن لغصن. يأكل الفاكهة ويرمي القشور على رؤوس الآخرين ثم يقهقه ويصفق. يرتدي لباس طرزان الغابة ويصيح صياحه وبين الحين والحين يغمز أحد معاونيه ليرسل شريطاً إلى قناة الجزيرة. الشخصيات الأخرى تبحث عنه: شارون ورامسفيلد وبوش وبلير وحتى مارغريت ثاتشر. ما الذي جاء بها آخر الزمان!؟ الكلّ يبحث عن بن لادن فلا يجده. يبدو أنّه غيّر استراتيجيته. قال لأيمن الظواهري: يا أخي أيمن، إيش نبغي أكثر من هذا يا أخي... خلّينا نتقاعد! ومن يومها لجأ مع حاشيته إلى الأدغال. وصار يقضي الوقت في اللّعب: بيطيّر حساسين... بيكش حمام... بيلزّق طيّارات ورق... أو بيتعمشق عالشجر. وحياتك لولا ذقنه التي تصل إلى معدته... ولولا ابتسامته وعينه لما صدّق من يراه... أنّه بن لادن. * روائية لبنانية