اعتبر الدكتور إبراهيم الخضيري القاضي بالمحكمة الكبرى في السعودية وأحد علماء الدين الذين يمارسون الفتوى بها انطلاق الحركات الأيديولوجية من النصوص الشرعية "نوعاً من اتخاذ الدين مطية للوصول إلى أهداف استراتيجية بدأ التخطيط لها في وقت مبكر في غفلة من السياسيين والعلماء". لكنه مع ذلك يؤيد توظيف الفتاوى في السياسة معللاً ذلك بأن "العالم كله أصبح واعياً بما يجري في آفاقه، فيجب أن تكون هناك أطر سياسية شرعية عامة تبين الأحكام السياسية في الإسلام". ورفض أن يكون مسلمو اليوم في غنى عن المرجعية، مشيراً إلى أن هذه الأخيرة على رغم "إضعاف تأثيرها من قبل بعض بلدان العالم الإسلامي" إلا أنها كما يرى "تتمتع بموقع اجتماعي وسياسي بالغ الأهمية، ومارست أدواراً خطيرة في حركة محيطها الاجتماعي، ومواجهة الأحداث والمواقف". وفي حواره تعرض لقضايا أخرى.. وفي ما يلي نص الحوار: بداية.. هنالك من يرى أن طائفة "السنة" بدأت تنحى منهج "الشيعة" في اتخاذ الفتوى والمرجعية، ما مدى صحة ذلك؟ - هذا ليس بصحيح، لأن الفتوى لدى السنة مرتبطة بضوابط معينة وشروط ذكرها الفقهاء والأصوليون، وهذا التحديد لم يمنع من لديه علم أن يفتي به. وأما المرجعية الشيعية فمقتضاها أن الشيعة يعتمدون مرجعاً واحداً يعتمدون فتاواه ولا يلتفتون إلى غيره. وسواء كان قوله صواباً أو خطأ يأخذون برأيه باعتباره مرجعاً أعلى لهم يرجعون إليه. وهو منهج خطأ، لأن نصوص القرآن والسنة واضحة "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" ولا شك في أن الفتوى في الإسلام لها أهميتها، إذ يعتبر المفتي موقعاً عن رب العالمين، وشروط علماء أهل السنة والجماعة في المفتي معلومة. ولكن المرجعية لدى كل من السنة والشيعة تتمتع بموقع اجتماعي وسياسي بالغ الأهمية، ومارست أدواراً خطيرة في حركة محيطها الاجتماعي، ومواجهة الأحداث والمواقف. ولكن المنهجين كلاهما يرسخ ظاهرة التقليد المذمومة... كما يرى البعض؟ - هذا ليس.. بصحيح، فلدينا في السعودية نظام القضاء الشرعي - مثلاً - وفق مذهب الإمام أحمد بن محمد بن حنبل، غير أن ذلك لا يعني الحجر على رأي القاضي ومنعه من ترجيح ما يراه من أقوال الأئمة التي تخالف المذهب الحنبلي، وهذا أمر واقع قضاء وسياسة في الدولة. وقد أصدر الملك عبدالعزيز تعميماً قديماً بتعيين المذهب الحنبلي مرجعاً للقضاة الصغار، أما إذا كان القاضي عالماً مجتهداً، فله الحق أن يعمل بما يخالف المذهب. وهذا هو المعمول به في المملكة فلم يحجر على أحد. ومع ذلك من حق ولي الأمر أن يعين مفتين مقبولين في الأمة يستهدون بآرائهم، على رغم أن المفتي يفتي بمسائل معينة ويخالفه بعض المجتهدين، ولكن العوام لا بد لهم من مفت شرعي يبين لهم الحق، ولا بد أن يلتزموا بقول العالم الموثوق لأن العلماء قالوا: يجب على العامي أن يقلد أوثق المفتين، فليس كل الناس يعلم مسائل الشرع وأدلتها. هل وفرت الفتوى شرعية للإسلاميين الجدد، بخاصة فتاوى أئمة الدعوة السلفية في السعودية؟ - العالم أصبح اليوم قرية واحدة والمسلمون جزء منه، وهناك تيارات وجماعات تتخذ من الاسلام شعاراً ولكنها ليست من الاسلام في شيء، كما أن الكثير منها تمتطي الاسلام لتحقيق مكاسب سياسية، وهناك مصنفات كثيرة تعنى بحركات من هذا النوع. وهناك متخصصون في تمييز هذه الحركات. وهل أنت مع توظيف الفتوى في القضايا السياسية؟ - نعم... فنحن لسنا في حاجة إلى من يقول: ما أريكم إلا ما أرى، العالم كله أصبح واعياًِ بما يجري في آفاقه، فيجب أن تكون هناك أطر سياسية شرعية عامة تبين الأحكام السياسية في الاسلام. ولسنا في حاجة إلى سياسة فرعونية جديدة لا تري الناس سوى ما تشتهي. يلاحظ أن الفتوى يتجاوز تأثيرها الخارطة السياسية.. فكيف يراعي ذلك المفتي؟ - صحيح أن المكانة الإسلامية الكبيرة للمرجعية الدينية وموقعها الشرعي جعلها تتجاوز الأطر الرسمية للحكومات، وتتخطى الحواجز الإقليمية للدول، ومرد ذلك إلى أن المهتمين بهذه المرجعية أو تلك ينتمون إلى أقاليم مختلفة، والتطور التقني في وسائل الإعلام أضفى على الفتوى نوعاً من العالمية على المفتين أن يتنبهوا له. ومن هنا ينبغي للمفتي أن يراعي حال السائلين، وحال البلدة وأهلها، وقد ذكر العلماء أن من حق ولي الأمر أن يعين مفتياً للناس يرجعون إليه. وترتكب بعض الدول خطأ جسيماً حين تعين مفتين ليس لدى الناس قبولاً لهم، وهم بذلك يفتحون الباب أمام المفتين المجهولين الذين ربما أفتوا بما يخالف الشرع ومصلحة البلاد والعباد. لا يحل لحكام المسلمين أن يتعرضوا للفتيا بتسييس أو أذى أو إضرار، إنما يجب عليهم دعمها، وتعيين المفتين المقبولين الذين لهم قدم علم راسخ بشريعة الاسلام. تأثر عدد من الشباب السعودي بفتاوى محمد المقدسي في قضايا ذات بعد سياسي اتخذت الدين مطية لتحقيق أهدافها، هل صحيح أن المقدسي ينطلق من مرجعية سلفية؟ - محمد المقدسي ليس سعودياً، وإنما استفاد من السعودية، وتأثر به بعض أبنائها ممن ذهبوا إلى أفغانستان، ولا يحسب على علمائنا. وقد خالف علماء أكابر في وقته في بعض الفتاوى، وأخذ الشباب ببعض فتاواه ليستدلوا بها على شرعية بعض مقاصدهم ومآربهم، وربما كان لبعضها دور في تأجيج كثير من الفتن. فكان استغلالها من قبل بعض المنتسبين للدين الاسلامي سيئاً فألحقت ضرراً بالمسلمين وبالمقدسي نفسه. وهل استغلال النصوص منهج موحد لدى الحركات الاسلامية؟ - كل حركة سياسية لا بد من أن تكون مبنية على أهداف طويلة المدى، وعلى مفاسد كبيرة، ومع الأسف نحن نعيش على غفلة سياسية دينية، وفشلنا في لفت المجتمعات الإسلامية إلى الاهداف الاستراتيجية التي يرمي إليها زعماء تلك الحركات. وبالتالي حصلت أمور لا تحمد عقباها. وكانت الأحداث الإجرامية في السعودية وبلاد عربية أخرى عبارة عن تنفيذ أهداف حركات سياسية قديمة ظلت استراتيجياتها طي الكتمان. هل أفهم من ذلك أنك ترى استدلال الحركات الاسلامية الراهنة منحرفاً وذا طابع استغلالي؟ - ليس هذا مرادي، فالاستشهادات التي نراها في الساحة في وقتنا الراهن تنقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم باطل، ليس بصحيح.. وقسم صحيح، ولكن المصلحة تقتضي أن لا يقال في هذا الزمن مراعاة لجمع كلمة المسلمين وتحقيقاً للمصلحة العامة، وقسم ثالث صحيح، وفي إظهاره للناس مصلحة. ففي استنباطات الحركات الإسلامية أمور مفيدة ونافعة، إذا استغلت استغلالاً شرعياً صحيحاً. ولكن في الوقت نفسه هناك من يرى أن الفتوى نفسها نقلت من فقهية إلى أيديولوجية.. سياسية، كيف ترى أنت؟ - الدين الإسلامي دين شامل وكامل، فيجب أن ندرك أنه ليس مؤطراً ولا محدداً في الفقه، فهو كما يعطي أحكامه في قضايا فقهية بحتة يعطي أحكامه في الجهاد في سبيل الله، وما يرد من مستجدات سياسية واقتصادية. هل تشعر بأن مقام المفتي أو العالم الديني بدأ يفقد تأثيره مقارنة بالماضي، أم أنه ما زال يحتفظ بما يكفي من التأثير والنفوذ؟ - دور المفتي والعالم الشرعي في العالم الإسلامي ضعف بفعل وسائل الأعلام التي أحياناً تظهر بعض المفسدين، وأحياناً تسيس الفتاوى ويحرج المفتون إحراجات متتالية أضرت بهيبتهم ومكانتهم في المجتمع. كما أن الحكومات والدول لا تسمع كلام المفتين في ما لا تريد، وتستخدمهم في ما تريد، فكان ذلك عاملاً خطيراً ساهم في نزع ثقة الناس عن المفتي والعالم الشرعي. هل أفهم من ذلك أن الحكومات أرادت بالفعل نزع ثقة الناس بالمفتين لإضعاف تأثيرهم؟ - في بعض البلدان الإسلامية الجواب أوضح من الشمس في رابعة النهار، لك أن تسأل بعض الشعوب عن مفتيها، لا يثقون بهم ولا يلتفتون إليهم، والسبب هو: تدخل الحكام وإذابتهم لمواقف المفتين وإضاعة مكانتهم. علاقة المؤسسة الدينية في السعودية بالمؤسسة السياسية... هل تعتقد أنها ستبقى كما هي في القرون الماضية أم أنها ستشهد بلورة جديدة ؟ - حكامنا في السعودية من جهة العقيدة يعتبرون علماء أكابر لدى مقارنتهم بغيرهم، ولذلك بين القاعدة السياسية والدينية تلاحم كتلاحم عقارب الساعة، وكل منهما مكمل للآخر ولا يستغني عنه. فإذا كانت الفتوى هي العيون التي ينظر بها المجتمع، فإن الحكومة هي الأيدي التي تدافع عن هذه العيون، وهو تلاحم أصيل بني على تقوى من الله ورضوان. إلا أن أسرة آل الشيخ تراجعت عن عهدها فلم يخرج منها من العلماء إلا القلة بينما أسرة آل سعود أنجبت مسؤولين كباراً وسياسيين بارعين مؤهلين. نعود إلى الفتوى، حيث يمارس في بعض البلدان تقديس مشاهد للفتوى يرفعها إلى مقام النص الإلهي...؟ - من يرى مساواة النص الإلهي لفتاواه يكفر. وهذا ليس بواقع عندنا في السعودية، ولكن يجوز حمل العامة على الفتوى، أما العلماء ذوو الرأي الشرعي، فلا أحد يلزمهم باتباع فتوى محددة.