يقوم الحوار الإسلامي - المسيحي، كما يمارَس حتى اليوم، على خطأ مزدوج: في مقاربته وفي هدفه. أما المقاربة فهي الانطلاق من مسائل خلافية بين الطرفين، مثل قول المسيحيين بالتجسد، أي بأن يسوع المسيح هو الله نفسه متجسداً، وبالصلب والفداء والقيامة، ومثل احتكام المسلمين الى بعض آيات الانجيل التي تتحدث عن "البراقليط" ومعناه "الروح القدس" أو "المعزّي" كإشارة الى نبوّة محمد، واحتكام بعضهم الى "إنجيل برنابا" إمعاناً في تأكيد هذا الأمر. وهو كتاب منحول في نظر المسيحيين وعلمائهم، لا يمتّ بأي صلة الى الأناجيل الأربعة المقبولة. وأما هدف الحوار، المعلَن أو المضمَر، فهو، في الأقل، تقليص الفوارق وحمل الواحد على الاعتراف بالآخر واحترام وجهة نظره، مع التمسك بتفوُّق وجهتنا، وفي الأكثر إقناع من نحاوره بوجهة نظرنا وحمله على التحول الى ديننا. ويتخذ التحول في مصطلح الغلاة من الطرفين اسم "الاهتداء"، أي الانتقال مما هو "أقل صحةً" الى ما هو "أكثر صحةً"، من "الناقص" الى "الكامل". معظم هذا الحوار لم تفرزه حلقات مخصصة للحوار. لكنه ظهر في الأدبيات اللاهوتية أو الكلامية من كلا الطرفين، خصوصاً في الشروح العقائدية الموجهة الى المؤمنين هنا وهناك. فالدفاعيات الدينية، التي تختصرها دساتير الإيمان أو العقائد، تفترض اعتراضات الأديان والمذاهب الأخرى، وتردّ عليها من غير أن تسميها بالضرورة. من هنا كان الكثير من اللاهوت أو الكلام الذي نشأ حول المسيحية والإسلام جدلياً أو سجالياً. وما السجال سوى نوع من الحوار. لكن مع نشوء حلقات أو مؤسسات للحوار الإسلامي - المسيحي بهدف تحقيق الوحدة الاجتماعية أو صَونها، بدأ يظهر، ضمن هذا الخط التقليدي نفسه، محاولات حوارية تتميز بالمساومة من أجل ارضاء الطرف الآخر. وهذا قد يفرغ المسيحية أو الإسلام من بعض المحتوى المميز. وهو، بالطبع، أمر غير مطلوب. ليس مطلوباً من المسلم أن يعترف، مثلاً، بصلب المسيح، كما أنه ليس مطلوباً من المسيحي أن يتنازل عن هذا الإيمان. وليس مطلوباً من المسيحي أن يتخلى عن عقيدة الثالوث ويتبنى التصور الإسلامي للأُلوهة، لأنه إذ ذاك يتخلى عن جانب أساسي من إيمانه. هناك نظرة بديلة الى الحوار طرحتُها في كتبي الأربعة: "الدين والمجتمع" 1983، "الأديان الحية" 1993، "المقدمة في فلسفة الدين" 1994، "وحدة في التنوع" 2003. تقوم هذه النظرة على أن الأديان تتلاقى حول جوهر واحد مكون من العناصر الأساسية الآتية: 1 النظام المادي الظاهر لا كيان له في ذاته ومن ذاته، لكنه يستمد كيانيته من حقيقة مطلقة تغدق عليه المعنى والقيمة. وإذا كان الواقع واقع انفصال عن هذه الحقيقة، فهدف الدين تحقيق الخلاص عبر اعادة الاتصال بها. 2 هذا الاعتراف اللفظي غير كافٍ لإعادة الاتصال بالمطلق. ولو توقف الدين هنا لما اختلف عن الفلسفة. ومن أهم الوسائل الدينية لوصل المحدود باللامحدود ما يسمى الشعائر أو الطقوس، مثل الصلاة والصوم والحج. 3 الأخلاق أو السلوك الحسَن وسيلة أخرى لوصل المحدود باللامحدود، أي لتقريب الإنسان، ومن خلاله الوجود كله، الى المصدر الإلهي. من هنا تَقرن الأديان على الدوام، حسب التعبير الإسلامي، بين "الإيمان" و"عمل الصالحات". 4 في محاولته التقرب من الألوهة عبر الأخلاق الحميدة، يقتدي المؤمن بمؤسس دينه أولاً. ففي المسيحية، يسوع المسيح هو مثال الإنسان الكامل، وفي الإسلام النبي محمد. 5 على مستوى مجاور للمؤسسين، تأتي طبقة القديسين أو الأولياء. وهؤلاء أناس أبرار في كل دين استطاعوا، عبر سِيَرهم الصالحة، محاكاة مؤسس دينهم أو تحقيق ما يقتضيه منهم هذا الدين. فالاقتداء بالأخيار مطلوب أيضاً من المؤمن لتحقيق المثال الأعلى المنشود. هذه العناصر نجدها لا في المسيحية والإسلام فحسب، بل في كل الأديان، ومنها الهندوسية والطاويّة والبوذية. والحق أن ما يجعلنا نسمّي نظاماً ما ديناً هو احتواؤه على العناصر المذكورة. لذلك لا أجد أساساً مقبولاً للتمييز بين أديان "سماوية" وأديان "غير سماوية". والأحرى أن لكل الأديان - سواء أكانت "ابراهيمية" أم "براهمانيّة" أم غير ذلك - صلة بالسماء أو بالأُلوهة. إذّ يكفي أن تسمي نفسها هكذا وأن تعترف البديهة السليمة أو العقل أو الفطرة بجلال غاياتها ووسائلها لتكون هكذا. إلا أن اشتراك الأديان كلها في العناصر المذكورة لا يجعل منها ديناً واحداً. فلكل منها نظرته الى الأُلوهة، والى الشعائر، والى الأخلاق، والى المؤسسين والأولياء الذين يقتدي بهم المؤمن من هذا الدين أو ذاك. ولو زالت هذه الفوارق لتقلّصت الأديان كلها الى دين واحد. مع الاعتراف بهذا الجوهر الواحد للأديان، أي بمبدأ الوحدة، وبأن كل دين يعبّر بطريقته الخاصة عن كل عنصر من العناصر الخمسة وقد تفصَّل لتغدو أكثر كثيراً التي يتكون منها هذا الجوهر، أي بمبدأ التنوع أو التعدد، نحصل على فلسفة جديدة للحوار بين الأديان يمكن أن نسميها فلسفة الوحدة في التنوع، وهو العنوان الذي أعطيته لكتابي الأخير. في ضوء هذه الفلسفة، يغدو هدف الحوار الديني حمل الآخر الذي نتحاور وإياه ليس على هجر دينه واعتناق ديننا، بل على الاقرار بهذا الجوهر الواحد واكتشاف "الدين" في "الأديان"، أي اكتشاف الوحدة في التنوع واكتشاف التنوع في الوحدة. ومع العثور على هدف جديد للحوار الديني - لا بين المسيحية والإسلام فحسب بل بين الأديان كلها، أي الأنظمة "الإلهية" التي تتلاقى في وظائفها حول العناصر الخمسة المذكورة - تكفّ مقاربة الحوار عن الانطلاق من مسائل خلافيّة بهدف إرباك من نحاوره والتغلب عليه وحمله على طرح دينه و"الاهتداء" الى ديننا، وتتحول هذه المقاربة الى دعوته كي يكتشف أن ما يحاول بلوغه بواسطة دينه هو عين ما يحاول الآخر بلوغه بواسطة دينه هو، تماماً كما يحاول الروسي، مثلاً، والفرنسي فعله عندما يعبر كل منهما، بلغته هو، عن الشيء نفسه. هذا النموذج البديل للحوار يحوِّل المقارنة بين الأديان من مقارنة "قيميّة" قائمة على المفاضلة الى مقارنة "وصفيّة" قائمة على وحدة الجوهر. ومهما كان نموذج الحوار الذي يختاره المؤمن، فلا يجوز أن يكون الإيمان الديني، في أي حال، دافعاً الى الحروب القومية والأهلية، لأن الدين محبة وتسامح، ولأن السلام من أسماء الله تعالى. * باحث لبناني.