الزمان: ضحى مشمس. الوقت الحاضر. المكان: مائدة تحيطها بعض الكراسي، قريبة من الواجهة الزجاجية الأمامية لمقهى في مدينة كبيرة. زجاج مصقول ونظيف يفصل المقهى عن الشارع. السيد العجوز يجلس الى المائدة وحيداً، يرشف بهدوء من فنجان قهوة امامه. انه في ملابس عتيقة جداً ومهلهلة الى حدٍ ما. من دون رباط، ورقبته المتغضنة تظهر من خلال فتحة القميص. يبدو، في جلسته وانحناءة رأسه، مثيراً للشفقة. السيدة تمر من أمام المقهى. انها في الخمسين من العمر، متينة الجسد، نشيطة الحركة، ترتدي بدلة زرقاء شبه عسكرية. خلال مرورها تلقي بنظرة على السيد العجوز ثم تتوقف وتعود لتدخل المقهى وتقترب من المائدة. السيدة: صباح الخير. العجوز: - يرفع نظره اليها ويجيب بصوت خافت - صباح الخير يا سيدتي. السيدة: هل تسمح لي بالجلوس... دقائق فقط؟ - تسحب كرسياً قبل ان تسمع الجواب وتجلس - العجوز: - مشيراً بذراعه. - تفضلي. السيدة: لن اكون متطفلة لمدة طويلة، سأقول لك مباشرة ما أوحت لي به سريرتي. العجوز: نعم؟! السيدة: سريرتي... حدسي. العجوز: ما هو هذا الشيء؟ السيدة: لن تفهمه حتى لو شرحته لك. قل لي. هل دفعت ثمن فنجان قهوتك هذا؟ العجوز: كلاً، لم أفعل. السيدة: وأنت، كما أنا متأكدة، لا تملك هذا الثمن... أليس كذلك؟ العجوز: ليس بالضبط. السيدة: لا تحدثني بكلام غير ذي حدود. أنت لا تملك أن تدفع ثمن قهوتك، وأنت تنتظر... تجلس هكذا منتظراً ساعات... لعل صديقاً يأتي الى نجدتك فيدفع عنك. لا تنكر ذلك، أرجوك. العجوز: اذا أردتِ. السيدة: حسناً. لماذا نرتكب مثل هذه الحماقات ونحن في سن متقدمة... كم عمرك؟ العجوز: سأنهي السبعين من عمري... غداً. السيدة: آه... شيء جميل: سبعين سنة، قلت؟ العجوز: - يهز رأسه ايجاباً - السيدة: هل يمكنك ان تسمي هذا الامر... قناعة انسانية؟ تورط نفسك في مقلب مضحك من أجل قدح سخيف من القهوة السوداء؟ العجوز: هذا صحيح. قدح قهوة سوداء. السيدة: طبعاً. اعرف ذلك، وأعرف انك ستبقى جالساً، تصلي في قرارة نفسك، من اجل قدوم صديق او فاعل خير ينقذك من هذا الموقف المزعج أليس كذلك؟ العجوز: ليس بالضبط. السيدة: كلا، انه هكذا بالضبط، وأنت مثل الجميع، تريد ان تملك حريتك في عمل ما تشاء. تشرب القهوة في المقهى حين لا يكون ذلك ميسوراً لك، وتفكر، من يدري، بالذهاب الى أغلى مطعم في المدينة لتناول غدائك فيه، أو ربما. تتوقف لحظات. تنظر الى الخارج ربما يستولي عليك جشع مفاجئ فتحب ان تمتلك تلك السيارة المرسيدس البيضاء المركونة هناك، مثلاً أليس هذا جنوناً؟ العجوز: - يرفع كتفيه - ربما. السيدة: ولكن يا سيدي، هل سألت نفسك عن اسباب شعورك بهذا الجشع الغريب؟ ألا ترى أن العالم ليس ملكاً لأحد؟ ألا ينبغي لنا ان نقنع بالحياة الحقيقية؟ العجوز: الحياة الحقيقية؟! السيدة: نعم، نعم. أنت تتساءل كأنك مهتم بالأمر. حياة الانسان/ الانسان. اكرر... الانسان/ الانسان. الحياة التي لا ترتبط بهذا الترف المزعج. حياة بسيطة تخلو من كل التطلعات، ولكنها حياة الراحة الطبيعية. ما بالك تتطلع الى تلك السيارة اللعينة البيضاء؟ العجوز: بالصدفة. السيدة: لا تفعل ذلك. لا تفعله ابداً. لحظات صمت العجوز: - بصوت خافت - هل تسمحين... السيدة: - تقاطعه - ارجوك. لن اسمح بزيادة الثرثرة. اريد ان اقول لك اموراً مهمة. العجوز: سؤال بسيط، اذا سمحتِ. السيدة: - متذمرة - تفضل إذاً. العجوز: - بصوت خافت وببطء - أنتِ يا سيدتي تمنعين عني حق الكلام، لأنك صممتِ مع نفسك ان تدفعي عني ثمن قهوتي هذه. أليس كذلك؟ السيدة: - بانزعاج - نعم!! نعم!! العجوز: - نفس الصوت - أقول، انتِ في سريرتك صممت ان تدفعي عني ثمن قدح القهوة، فشعرت بأن من حقك أن تعامليني كأني طفل صغير اهوج. ألا ترين ذلك؟ السيدة: - يزداد انزعاجها - ماذا تعني؟ العجوز: لا اعني غير ما قلته، وهو ليس بالأمر الجديد. إنها الحال التي تسود العالم في ايامنا هذه. تطلعي بنظرة خاطفة الى ما تعمله الدول الكبرى بتلك الدول الصغرى المسكينة. يقولون... إدفع لهؤلاء التعساء ثم ابدأ بعمل ما تشاء بهم بعد ذلك. انتِ، مع احترامي يا سيدتي، بدأتِ حتى قبل ان تدفعي. السيدة: - ببعض الاضطراب - أنا... أنا لم أبدأ بشيء. العجوز: بل بدأتِ فعلاً. اقتحمتِ عليّ وحدتي الصباحية وجلست بلا استئذان ثم رحت تلقين علي محاضرتك عن البشر والحرمان من دون سابق إنذار. ما معنى كل هذا منك يا سيدتي، إذا سمحتِ لي الآن أن أسألك؟ السيدة: - مصدومة ومذهولة - أنا... في الواقع... ظننتك... ظننتك لم تدفع ثمن قهوتك... أليس الأمر هكذا؟ العجوز: بشكل من الأشكال. السيدة: آه... أنا على حق إذاً. قلتُ لك ذلك. أنت لا تملك ما تدفع به ثمن قهوتك. هذا هو كل شيء. العجوز: وهل يسمح لك هذا الموقف ان تفعلي ما فعلتِ؟ السيدة: ماذا فعلت؟ كنتُ على حق. العجوز: كلا، أنتِ مخطئة، فحتى لو دفعت ثمن قهوتي مقدماً، لما اعطاك هذا العمل سبباً لاحتقاري ومعاملتي كمخلوق فاقد الأهلية. السيدة: ولكني لم أحتقرك، لم أحتقرك ابداً. العجوز: بلى. لقد تصرفتِ بما يدل على ذلك. لا تشتطي وتصري على الخطأ. السيدة: لم يخطر لي قط ان احتقرك. أؤكد لك ذلك. العجوز: انت مثل تلك الدول الكبرى، تخطئ وتبقى مصرة على الخطأ. انها تظن ان في التراجع عن الخطأ ضعفاً لا يليق بها. السيدة: لقد فهمتني بشكل غير صحيح. أرجو المعذرة مع ذلك. العجوز: لا بأس، لا تعتذري. السيدة: هل شعرت بإساءة لأني كلمتك عن القناعة؟ لم أكن اقصد شيئاً. العجوز: كانت كلماتك بلا معنى، إذا اردتِ رأيي يا سيدتي. السيدة: انها من اجل راحة البشر. العجوز: من اجل تحذيرهم... ربما، اما الراحة التامة فلا سبيل إليها. أنتِ نفسك تحبين لو ملكت تلك المرسيدس البيضاء المركونة هناك، أليس كذلك؟ لماذا تعظين الآخرين بعكس ذلك؟ السيدة: قلت لك... من اجل راحتهم. العجوز: إبدأي بنفسك اولاً. السيدة: - لحظة صمت - اي ورطة شائكة أدخلتُ نفسي فيها! تهم بالقيام العجوز: لا تذهبي، ارجوك، فأنا لا أعثر على فضولية لطيفة مثلك دائماً. اجلسي وسيسرني ان اقدم لك قدحاً من هذه القهوة السوداء على حسابي. السيدة: ماذا؟ قدح آخر غير مدفوع الثمن! العجوز: - مبتسماً - لا تبالغي هكذا في الاهتمام بالمال. السيدة: - تقف - كم أود ذلك. شكراً، مع ذلك. لدي اعمال كثيرة عليّ انجازها. إني أتراكض ساعات النهار كله وأسير اكثر من اربعين كيلومتراً يومياً، ولا أجد فرصة للراحة. وفي الواقع، لا أدري كيف أمكنني ان أضيّع هذا الوقت معك. لقد جذبني شيء غامض في هيئتك... شيء عميق الغموض اخبرني بأنك انسان وحيد ولا تملك ان تدفع ثمن قهوتك. العجوز: وبعد؟ السيدة: وأن عليّ ان اسرع لمساعدتك. العجوز: كما فعلتِ؟ السيدة: نعم، كما فعلتُ بكل الغلاظة الممكنة. ولكن... قل لي بصراحة... اتفتعل هذا المظهر؟ العجوز: - كأنه لا يسمعها - اجلسي. لماذا لا تجلسين؟ تعاود الجلوس اسمحي لي أن أقول لك بأنك إنسانة في غاية الطيبة، ولكنك للأسف رعناء بعض الشيء. الدولة الكبرى، تعرفينها، مثلك تماماً، تتمنى ان تكون سمعتها جيدة وناصعة على رغم كونها رعناء في تعاملها مع الغير، والسمعة الجيدة والرعونة عنصران لا يجتمعان هذه الأيام، لا يُسمح لهما ان يجتمعا. هل تفهمينني؟ اما القناعة فاتركيها على جهة، وأمعني النظر في حق الإنسان بالحياة. لم يعد البشر يملكون حقهم الطبيعي في حياة عادية دون فزع او خوف. لو كنتِ ألقيت عليّ محاضرة في هذا الموضوع لسررتُ كثيراً بسماعها. مع ذلك، هوني عليك، فحين يمس البلاءُ دولاً كبرى بأكملها، ماذا يمكن للأفراد ان يعملوا؟ السيدة: لا تهوّن عليّ، ارجوك. دعني اعالج خجلي بنفسي. العجوز: كما تشائين، ولكن لا تبالغي. هل يتعبك عملك كثيراً؟ وبالمناسبة ماذا تعملين؟ السيدة: ما همك من ذلك؟ العجوز: أرجوك. السيدة: اعمل في منظمة انسانية تدعى "منظمة إراحة المتعبين". العجوز: حقاً؟! يا للتناقض! كل هذه المتاعب من اجل إراحة المتعبين؟ السيدة: نعم، كما ترى. الآن هل تسمح لي بالانصراف؟ العجوز: إذا اردت. هل تقصدين مكاناً بعيداً؟ السيدة: على الدوام، والمكان احياناً يتباعد بشكل لا نهائي. العجوز: امر مؤسف. وأنتِ، مع منظمتك الإنسانية، لا تستطيعين حتى الشكوى من التعب. السيدة: ابداً. العجوز: ولكنك بهذا تزيدين من عدد المتعبين. السيدة: يبدو ذلك، لكننا نعمل لأن هدف المنظمة اكبر وأجل من الاهتمام بالأفراد من الموظفين. العجوز: انتم ضحايا المنظمة إذاً؟ السيدة: كلا، لا تقل هذا، ارجوك. انهم يدفعون لنا. العجوز: هكذا؟ وهل يقلل هذا من تعبك؟ السيدة: انه يجعلني اعيش. العجوز: كما تحبين؟ السيدة: ليس بالضرورة العجوز يرفع ذراعه مشيراً للنادل، فيقترب هذا من المائدة العجوز: - الى السيدة - ايمكنني ان أصر، ولو متأخراً، على تقديم قدح من القهوة السوداء؟ السيدة: - تقف - كلا، شكراً. لا أريد ان أتورط معك اكثر مما فعلت. شكراً جزيلاً. العجوز: - مبتسماً - على حسابي، اذا سمحت. السيدة: اوه... كلا، وخصوصاً على حسابك. أكرر شكري. الى النادل هل دفع حسابه؟ النادل: عادة، لا يدفع. إنه صاحب المقهى. دمشق - حزيران يونيو 2004.