اختارت ادارة بوش وشركاؤها العراقيون مساراً محفوفاً بالمخاطر عندما شرعوا باجراءات محاكمة صدام حسين مباشرةً بعد نقل السيادة الى حكومة موقتة عراقية. وبالنسبة الى كثير من العرب وعدد لا بأس به من العراقيين، يعتبر صدام رمزاً لمقاومة العرب للهيمنة الاجنبية، وستمنحه محاكمته فرصة اخرى لأن يفعل ما يفعله على أحسن وجه: تحدي اعتباطية السياسة لاميركية في المنطقة وحرف الانتباه، في مجرى ذلك، عن الاخفاقات المفرطة لحكمه. وتمثل محاكمة صدام تمريناً في عدالة المنتصر، لكن ينبغي للعرب الاّ يحزنوا للزعيم العراقي المهزوم. لقد امتاز صدام بميل الى الاستعراض السياسي وبموهبة الاستحواذ على اهتمام واشنطن، الاّ ان سياساته الطائشة اهدرت الموارد البشرية والمادية لما ينبغي ان يكون اعظم دولة عربية. كان قوياً لأنه امتلك قدرة غريبة على استغلال العقل اللاواعي للعرب. فانطلاقاً من ادراك مرهف لمظالم تاريخية واستعداد لاستغلال مشاعر اذلال عميقة الجذور، وعد صدام العرب بنهوض سياسي: عودة الى الكرامة الضائعة لعظمتهم السابقة. وكديماغوجي بارع تمكن من اقناع الكثير من رعاياه بأنه حريص على مصالحهم حتى في الوقت الذي يعطي فيه الاولوية لمصالحه الخاصة قبل اي شيء آخر، وبالأخص رغباته التافهة في الترف وتعظيم الذات. وأولئك الذين لم يقتنعوا بحكمة صدام ادركوا بسرعة انه لا ينفذ سوى ما يراه هو بالذات، معتبراً تعدد الآراء خيانة بدلاً من كونها وسيلة لتحسين السياسة. وعندما كان يواجه معارضة حقيقية اتسم رده دائماً بالوحشية. وفي العراق والعالم العربي هناك كثيرون ممن يفضلون الاسطورة التي خلقها صدام على الحقائق عن جرائمه ضد الانسانية وضد الشعب العراقي. وبالضبط لأن صناع السياسة في واشنطن اصبحوا مهووسين بصدام كرمز لمقاومة "غير عقلانية" للهيمنة الاميركية، وجد كثيرون من العرب ان من الصعب عاطفياً ان يشجبوه او يشجبوا نموذجه الفاشل للزعامة العربية. وبعض العرب يحبّه للاسباب ذاتها بالضبط التي تجعل الاميركيين يكرهونه. فقد أثارت مواقف التحدي التي اتخذها صدام انزعاج نخب السياسة الاميركية منذ وقت بعيد اكثر من استخفافه بحقوق الانسان، ولم تثر اسوأ انتهاكات صدام التي تضمنت حملات أرض محروقة ضد الاكراد والشيعة ودفن المعارضين في قبور جماعية، سوى ردود خافتة من المسؤولين الاميركيين عندما كانت لا تهدد مصالحهم المباشرة. لذا لا يثير الاستغراب ان يفضل كثيرون في ادارة بوش عدم التحقيق في ادعاءات بتواطؤ اميركا في جرائم اتهم صدام بارتكابها. وتمثل محاكمة صدام بالنسبة الى الاميركيين مناسبة لاعادة تنشيط النقاش العام حول السياسة الخاصة بالشرق الاوسط. فالسياسة الاميركية في الشرق الاوسط كانت تقليدياً مناهضة للديكتاتوريين فقط عندما يهددون تصوراً ضيقاً لمصالح الولاياتالمتحدة يكرس الوضع القائم. وأثار الانفصام الناجم عن ذلك بين اللغة الطنانة والواقع احباط حلفاء محتملين، معرقلاً عمل الديموقراطيين والمدافعين عن حقوق الانسان. وهناك حاجة الى نقاش على المستوى الوطني يتعامل مع هذه الحقائق المزعجة، ويسعى الى تثبيت صلات جديدة بين الأمن العالمي والعدالة العالمية. ومن المهم بشكل اساسي ان يبدأ الاميركيون قرن الاقوال بالافعال، والافضل ان يجري ذلك ضمن سياق ادارة جديدة. فعليهم ان يترددوا فعلاً في ابرام صفقات مع زعماء مستبدين، وان يقاوموا الميل لتجنب قضايا صعبة في السياسة الخارجية بتركيز الانتباه بشكل منفعل على شخصيات الخصوم، وهذا يعني الانصات لخطاب عربي تقدمي حول الديموقراطية، والكف عن الاعتماد على شبكة نخبوية لزبائن عرب اثرياء ونافذين يمكن التحكم بهم لأنهم متكلون على النخب الاميركية والاوروبية. فالديموقراطية لا يمكن ان تبنى بمعاملة حكام ديكتاتوريين وفئات حاكمة برفق تارةً وباطاحتهم تارةً اخرى. انها لا يمكن ان تُشيّد وتُحفظ الاّ برعاية روح من التعاون الوطني والعالمي هي في ذاتها ديموقراطية. كما يتعيّن على العرب ان يقولوا الحقيقة عن صدام، وان يتحدوا النموذج القائم منذ أمد بعيد الذي تمسك به. فقد كان زعيماً لجأ، مثل زعماء عرب في بلدان مجاورة، الى تمكين نفسه بتجريد شعبه من السلطة والى الاثراء بسلب رعاياه. وافتقر صدام الى المؤهلات الاساسية المطلوبة كي يؤدي وظيفته بشكل مناسب، وحاول ان يعوّض هذا النقص بوقاحة وقسوة. وعلى رغم ان انتهاكاته كانت اسوأ من تلك التي ارتكبها ملوك وحكام عسكريون يديرون دولاً عربية اخرى، فان كثيرين يتقاسمون اخفاقاته. وكان صدام، وهو يحكم بالقسر والفساد بدلاً من التشاور، يمنح اولئك الذين يطيعونه مكافآت لا يستحقونها، فيما يكافىء اولئك الذين يثيرون تساؤلات بمعاناة لا يستحقونها. ولم يكن يسمح بأي حوار حول الاهداف والغايات الوطنية، وبالتالي لم يسمح بنشوء اي اتفاق بشأن قواعد الخطاب السياسي المتمدن. ومن دون مثل هذا الاتفاق لم يكن ممكناً تحقيق احساس حقيقي بالوحدة الوطنية. هذا فيما اصبحت رمزية التحدي القوماني اهم من التنمية البشرية، ووفرت اساساً لقمع المعارضة الداخلية. وفي اللحظة الراهنة من التاريخ، يحتاج العرب الى تحرير انفسهم من زعماء يعززون مكانتهم بإفقار شعوبهم. وللقيام بذلك سيتعيّن على المواطنين العرب ان يتغلبوا على الرغبة في تقديس الحكام وغيرهم من رموز السلطة، سيتعيّن عليهم ان يصوغوا نوعاً جديداً من النزعة القومية العربية متأصلاًً في حاجتهم للكرامة اكثر من تأصله في الخوف من التشتت، الى جانب نموذج جديد للزعامة تتجلى فيه مبادىء الاسلام بأشكال خلاقة وقادرة على تفويض السلطة. ومن اجل دمج الشخص والمواطن والمسلم، يجب ان يبدأ العرب طرح اسئلة جديدة: أي نوع من المواطن يمكن ان يخلقه الاسلام، وكيف تُنمّى قيم اسلامية ضمن سياقات عربية معينة؟ واي نوع من الحلول يمكن للاسلام ان يأتي بها لتحقيق عملية صنع قرار تقوم على المشاركة مع غياب مرجعية في الامور الاجتماعية؟ وما هي القيم الاسلامية والآليات الاجتماعية التي يمكن اعتمادها لتحسين ظروف العيش الحديث والمديني؟ فازدهار الفرد كمواطن ضمن جماعة اسلامية يمكن ان يحفز سبلاً جديدة لمشاركة ذات معنى، الى جانب مؤسسات تؤكد وترسخ ما هو ثابت في الاسلام. فكره السياسة الخارجية للولايات المتحدة ليس مبرراً مناسباً لجعل زعماء مثل صدام يفلتون من الحساب. ويواجه العرب والعراقيون خياراً: يمكن ان يركزوا الانتباه على كوارث سياسية وانسانية جلبها صدام واعوانه لشعبهم، او يمكن ان يبقوا يتأملون المهانة المرتبطة بالانهيار العسكري والسياسي لزعيم عربي. واذا اختاروا الرد الاخير بجعل اذلال صدام اذلالهم، فان مأساة العراق الحديث ستعيد نفسها ضمن سياق شرق اوسطي اوسع. لكن اذا نأوا بأنفسهم عن تركة صدام المريرة، يمكن ان يبدأوا اكتشاف خيارات جديدة للاصلاح والتجديد السياسي وصوغ انماط جديدة للزعامة تزدهر بازدهار الآخرين. وينبغي لقادة الرأي العرب الاّ يفوتوا هذه الفرصة لغرس روح جديدة من المشاركة والمساءلة في الحياة السياسية العربية. فبدل الحزن على صدام حسين، ينبغي ان يلفتوا انتباه شعوبهم الى التحديات والفرص التي تكمن امامهم.