في العام الماضي، وحراب المحتل مشرعة في وجوه العراقيين، أراد بعض الكتاب والادباء الشباب نسبياً استعادة "الجواهري" الشاعر، فأقاموا من خلال "اتحاد الادباء" الذي كان الجواهري الرئيس الفعلي له في حقبتين: الحقبة القاسمية 1958 - 1963 والحقبة البعثية 1968 - 2003 فكان لهم "مهرجان الجواهري" في دورته الاولى أواخر تموز يوليو العام الماضي. هذا العام فكر اصحاب الفكرة انفسهم ان يجعلوا من "مهرجان الجواهري" تقليداً سنوياً، ولكن ليس للجواهري منه سوى الاسم، اذ سيكرس، في دورته هذه للشاعر بلند الحيدري الذي مات، مثله مثل الجواهري، في الغربة وقد وضعوا للمهرجان، الذي يبدأ اعماله في 27 الشهر الجاري برنامجاً شاملاً، ولمدة ثلاثة ايام، ستقتصر المشاركة فيه على النقاد والباحثين العراقيين. ولهذه المناسبة هنا كلمة عنه: ذات مساء من عام 1971، وكان الشاعر بلند الحيدري في زيارة لبغداد عائداً اليها من بيروت، نظمت له "جمعية التشكيليين العراقيين" امسية شعرية قدمت فيها أحد اصدقائه القدامى، مستذكراً ومذكراً بما دعاه "صباه الرامبوي" راسماً صورة للشاعر في صباه ذاك وكيف كان "التمرد" الذي جبل عليه، وهو في تلك السن، اخذه حياة وشعراً في غير اتجاه، كان ان ميزه حياة وشعراً. بعدها روى لي بلند الحكاية - التي تمثل جانباً مهماً من سيرته الشخصية - قال انه حين كان في مقتبل حياته الشعرية تعرف الى الشاعر حسين مردان - الذي كان رامبوياً بامتياز - فقال له هذا الشاعر الذي كان يقاربه عمراً: "اتريد ان تصبح شاعراً؟ إذاً اترك البيت الذي تسكنه والنوم على فراش وثير، وجرب النوم تحت الجسور وفي الحدائق العامة". واضاف موجهاً الكلام الى بلند: "جرب التشرد. رامبو لم يصبح شاعراً عظيماً الا بعد ان عاش حياة التشرد". ويقول بلند: "لقد اقنعني، ففعلت، وغادرت "بيت العائلة" وفي هذه الفترة بدأت العمل في الصحافة، ومواصلة دراستي الثانوية في المدارس المسائية". ولم يكمل دراسته. يومذاك كان بلند اصدر ديوانه الاول "خفقة الطين" الذي جمع في قصائده بين ذاك الروح الرامبوي، مع شيء من تأثيرات الياس أبي شبكة. في العام 1952 أصدر بلند ديوانه الثاني: "اغاني المدينة الميتة" ليكون، في مستوى التجربة الشعرية، قريباً شديد القرب من "الاتجاه الوجودي" الذي كان بدأ يتسرب الى الثقافة العربية. اما في مستوى المنجز الشعري فإنه لم يكن "صدى لما قبل"، وانما كان "صوتاً جديداً هو وليد عصره" كما رآه الناقد جبرا ابراهيم جبرا في كلمة التقديم لهذا الديوان التي رأى فيها ان "بلند الحيدري من الشعراء القلائل الذين اجد في شعرهم ما يصور هذه الفروق بين الحقبة التي نعيش فيها والحقب الماضية"، اذ وجد فيه شاعراً استطاع ان يتحرر من كثير مما كان يثقل القصيدة، "وانطلق في كلام يصور روح العصر الجديد ليكتب شعراً هو - برأي جبرا - شعر القراءة، شعر الصورة الدقيقة التفاصيل المستمرة النمو"، وهو ما جعله يعد هذا الديوان "خطوة جديدة في اتجاه لا بد منه ان كنا نبغي من الادب ان يرافقنا في سبلنا المعاصرة في الحياة". يوم غادر بغداد الى بيروت منتصف عام 1963 ما لبث ان اصدر، بعد عامين من وجوده فيها، ديواناً بعنوان "خطوات في الغربة"، وفيه لا يعبر عن "ضياعه الزماني" - كما في "اغاني المدينة الميتة" - وانما عن "غربته المكانية" التي ستنمو مع السنوات لتترافق مع "غربة زمانية - وجودية" مرة اخرى، سيعبر عنها في: "حوار عبر الابعاد الثلاثة" و"رحلة الحروف الصفر" و"اغاني الحارس المتعب". ثم اذا به وقد عاش السنوات الاولى من "الحرب اللبنانية - اللبنانية" يكتب قصائد عدة "الى بيروت..." يجد التعب الذي اعلن عنه ذلك "الحارس" يدب الى كلماته فيها، فاذا هو يعلن، وبكلمات صريحة توقفه عن كتابة الشعر متعللاً بقول "ابن المقفع" يوم كان، هو الآخر، توقف عن الكتابة: "ما أريده لا يأتيني، وما يأتيني لا أريده". وعاد الى بغداد العام 1976 بعد ان اشتد الخطر على بيروت. ولم يكتب في بغداد شيئاً سوى النثر: مقالات تأملية في "الملحق الاسبوعي" لجريدة "الجمهورية" الذي كنت أشرف عليه، ومن ثم مقالات تنحو نحو الدراسة بعد ان اصبح سكرتيراً لتحرير مجلة "آفاق عربية" التي اصدرها الشاعر الراحل شفيق الكمالي وبقي فيها حتى عام 1981، حيث تعاقد مع "دار واسط" بغداد - لندن، ليكون مديراً لتحرير مجلة "فنون عربية" التي ترأس تحريرها جبرا ابراهيم جبرا. فانتقل بلند الى لندن، ويبدو ان الشعر عاوده ثانية، الا ان ما كتبه بقي دون منجزه السابق، ولم يحقق فيه اضافة تذكر. كلما تأملت في حياة بلند الحيدري وفي مسيرته الشعرية بدا لي ان حلم هذا الشاعر كان اكبر من موهبته. فهو، منذ البداية، حلم بأن يكون شاعراً كبيراً له قراره الخاص، وكان طموحه هو ان يطبع عمره - كما هو شأن الشعراء الكبار في كل العصور - بطابع "شخصيته الشعرية". الا ان موهبته - كما يرى غير ناقد من نقاد الشعر الجديد - كانت قصرت به عن بلوغ مدارج هذا الحلم. كان بلند رابع الثلاثة الكبار في الشعر العربي الحديث: نازك الملائكة وبدر شاكر السياب، وعبدالوهاب البياتي. على هذا النحو يأتي تسلسلهم في غالبية الكتب التي تناولت الشعر العربي الحديث. قد يقدمون السياب على الملائكة. اما بلند فهو الرابع دائماً. ربما لو كان وحده في مرحلته لكان له شأن اكبر من الذي كان. الا انه ظهر، زماناً ومكاناً، مع شاعرين احتلا الواجهة الشعرية وحازا كل اهتمام، فلم يبقيا لسواهما غير "الهامش": يظهرون من خلاله، وقد لا يتجاوزونه الى ما هو أبعد أو أوسع - وان كان كل منهما اجتازه بطريقته الخاصة: - فالسياب اثار الاهتمام بتجربته الشعرية الفريدة، اذ وجد القراء والنقاد في قصيدته المثال الفعلي للقصيدة الجديدة، والتعبير الاكثر تميزاً عن روح الحداثة. اما البياتي فهو وان كان دخل معترك الحداثة متأخراً من خلال ديوانه الثاني "أباريق مهشمة" 1954، فانه ما لبث ان وجد نفسه، من بعده يخطو على طريق السياسة بخطوات متعثرة لم يلبث ان اقاله منها "اليسار الماركسي" الذي اراد ان يجعل منه شاعراً ملتزماً قضايا الفقراء والكادحين، ويرفع شعارات "الثورة العالمية" التي يقودها العمال والفلاحون والمثقفون الثوريون. اما هو من جانبه، فوجد في هذا "اليسار الاممي" ما يحمله الى سدة الشهرة التي سيطلبها في هذه المرحلة 1954 - 1964 حتى وان كانت على حساب شعرية الشعر. اما بلند فدخل معترك تلك المرحلة "شاعراً وجودياً" او اقرب الى الوجودية منه الى سواها من الاتجاهات والمذاهب والافكار، فتكلم على "العبث" و"الفراغ" و"اللاجدوى"، جاعلاً من اغانيه مرثاة، او ما شابه، للمدينة الميتة. وهو مما لم يكن يعني "ساحة التجديد" التي ارتبطت بنبض النضال في شارع المدينة التي تمثلوها على غير ما تمثلها بلند، اذ وجدوا فيها مدينة ثائرة تخرج على الطغاة، وانسانها يردد ما قاله الجواهري: "انا حتفهم ألج البيوت عليهم/ اغري الوليد بشتمهم والحاجبا". وحاول بلند ان يكون ضمن هذا التيار في اعقاب ثورة 14 تموز 1958، فأصدر ديوانه "جئتم مع الفجر" 1959 الذي تخلى فيه عن "شعرية القصيدة" لحساب الموقف السياسي، الا انه وجد "البياتي" وقد سبقه الى ذلك في ارتقاء ارض هذا اللون من الشعر الذي لا إضافة حقق ولا أثراً أبقى. لقد استنفذ بلند الحيدري ذاته الشعرية في ما هو خارج الشعر، وذلك من خلال عمله في الصحافة في كل من بغدادوبيروت. فهو حين يعمل يعطي نفسه كلها للعمل. وكتب النثر، مقالة ودراسة. وكان في الكثير مما كتب في المجالين ليس على علاقة، مباشرة او غير مباشرة، بالشعر وما ينتسب الى عالم الشعر، ما جعل "ذاته الشعرية" تُستنفد في برانيتها نائية به عن الشعر،. اما عودته، في الثمانينات والتسعينات، الى الشعر مرة اخرى، فكانت من باب المكابرة ليس إلاّ. إذ كان يقول: "أنا لا أزال شاعراً قادراً على القول". ولكنه ما كان يأتيه هو مما لا يريده، أما ما كان يريده فلم يأته. إلا انه كان شاعراً على غراره الخاص بمجموع ما انجز.