سامي ميخائيل، ساسون سوميخ، يهودا شنهاف، سامي زبيدة، يوسي يوناه وشمعون بلاص، هؤلاء كتّاب يهود من أصل عراقي ترعرعوا في معظمهم في العراق، ونشأوا بين أزقة بغداد وعلى ضفاف دجلة والفرات. تتلمذوا على معلمين عرب فأخذوا عنهم الفكر العربي والحس الوطني والشعور بالانتماء إلى الوطن الأم، العراق. حول هذا الانتماء دارت قصصهم التي سردوها وذكرياتهم التي استرجعوها في ندوة عقدت في فيينا أخيراً تحت شعار "تذكر بغداد". أما حياتهم الآنية ففيها شيء من "الازدواجية" الكامنة في أن "الوطن الأول هو عدو الوطن الراهن" كما أوضح سامي ميخائيل الذي عنى بالوطن بالأول العراق وبالراهن اسرائيل. أولئك الرواة هم "نموذج" من فئة معينة من يهود العراق المثقفين الذين غادروها مع عائلاتهم "قهراً" وقسراً إبان تأسيس دولة اسرائيل. فمنهم من استقر فيها ومنهم من رحل عنها إلى مكان آخر ومنهم من ولد فيها فنشأ اسرائيلياً من أبوين عربيين يهوديي المذهب. وفي محاولة للبحث في أبعاد التاريخ المشترك لليهود والعرب في العراق انكب هؤلاء اليهود الذين جاؤوا من تل أبيب ونيويورك ولندن، والتقوا مع الباحث الفلسطيني عباس شبلاق والكاتب العراقي خالد القشطيني، على مناقشة هذه المسألة في جلسة "حميمية" أعادت بغداد إلى ذاكرة اليهود وغير اليهود عبر حكايات كامنة في مخيلة تتأمل بغداد من بعد وكأنها مكان مرئي بالعين المجردة، وما هي في الواقع إلا موقع جغرافي على الخريطة غيرت معالمه وحياة أهله أحداث متعاقبة يمتزج فيها ألم الواقع بأمل المستقبل. "الحديث عن الحاضر ودراسة المستقبل وإمكان العودة إلى العراق توجب الحديث عن الماضي"، هكذا فسر يوسي يوناه البروفيسور في قسم فلسفة السياسة في جامعة بن غوريون في النقب وأحد أبناء الجيل الثاني، لل"الحياة" السبب الرئيس لاختيار مثل هذا التوقيت لتذكر بغداد. كيفية هجرة يهود العراق إلى فلسطين كانت من أهم المحاور التي تناولها المؤتمرون. فالمزراحيم ،أي اليهود الشرقيون، لم يشكلوا في البداية جزءاً من المخطط الصهيوني، الذي كان في جوهره شكلاً من أشكال الاستعمار، إلا أنه إثر حرب 1948 وبعد الإعلان عن قيام الكيان الصهيوني رسمياً توجهت أنظار القيادة الاسرائيلية الى يهود العراق، خصوصاً بعد إحجام ملايين اليهود الأوروبيين عن تلبية نداء الهجرة إليها. وأمام هذا التجاوب الهزيل من يهود العالم للنزوح إلى أرض الميعاد لم يجد الصهاينة بداً من "اجبار" أتباع موسى واكراههم على مغادرة العراق. وبالفعل بدأ عملاؤهم بإلقاء القنابل على المراكز اليهودية في العراق مثيرين بذلك الهلع في نفوسهم. ولعل أقسى الحملات ضدهم كانت حادثة الفرهود عام 1941 التي تكللت بالنجاح وأرغمت عدداً غير يسير على حمل حقائب السفر التي سمح بأخذها وعلى مغادرة الوطن في اتجاه تل أبيب ليواجهوا مصيراً مجهولاً يشبه ربما مصير اللاجئين الفلسطينيين، الذين أرغموا أيضاً على ترك أملاكهم وراءهم، كما عبّر عباس شبلاق. ولخص شبلاق، الخبير في قضايا يهود العراق، تجربته كلاجئ فلسطيني عربي يقطن الآن لندن وتجارب أبناء الطائفة اليهودية، واصفاً إياها بالوجه الآخر لما عاشه، وبكلمات مثل "الفقدان والضياع والاقتلاع أو الاجتثاث والرفض". روايات الرحيل من بغداد إلى "أرض الميعاد" التي "تلاها" الحاضرون اختلفت تفاصيلها وخلفيات أحداثها إلى حد كبير عن الاتجاه القصصي العام الوارد من اسرائيل، إذ وصفت الهجرة الجماعية بأنها كانت في أساسها عملية نقل أو استيراد للبشر مارسها ونسقها قادة الحركة الصهيونية. فيهود البلاد العربية لم يعانوا حينذاك أي مشكلة سوى الظلم الاستعماري الذي كانت تعيشه بلادهم. وعاش آنذاك المسيحيون واليهود والمسلمون جيراناً وأبناء حي واحد يتبادلون الدعوات في ما بينهم. "فدائرة أصدقائنا كانت تتسع لتشمل اليهود، فضلاً عن أن النظرية القائلة بأن اليهود واجهوا العنصرية من خلال فرض حظر الاقامة في أحياء معينة غير صحيحة"، كما أضاف الصحافي العراقي خالد القشطيني، متابعاً أنه "ما زال يذكر تماماً حي الأعظمية الذي جاورت فيه مدرسة ومعبد يهوديان جامع الإمام الأعظم". وأفاد ساسون سوميخ استاذ الأدب العربي في جامعة تل أبيب في تصريح ل"الحياة" أن اليهود كانوا من أكثر الفئات المتأثرة بالعرب والثقافة العربية، إذ تعود جذورهم في العراق إلى أكثر من 2500 عام على الأقل وهو الموضوع الأساس الذي تناوله سوميخ في كتابه الأخير "بغداد أمس" سارداً فيه سيرة عائلته اليهودية العراقية الأصل كنموذج لإحدى هذه العائلات العراقية القديمة. الوطن الموعود كان غريباً على هؤلاء منذ اللحظة الأولى لوصولهم إليه. يقول سامي ميخائيل وهو يهودي عراقي هاجر إلى اسرائيل بعد عام من تأسيسها: "عندما وصلنا إلى مطار بن غوريون فوجئنا بالسلطات الصحية تستقبلنا برشات من مادة د د ت لتعقيمنا وقد شعرنا بأننا جراثيم!". الغربة استمرت واتسعت وأخذت شكلاً عنصرياً نتلمسه من كلام تلك المجموعة من الأصدقاء القدامى الذين وحّدهم الحنين إلى الوطن الأول الحاضر دوماً في العقول والأنفس "واجهنا اضطهاداً ثقافياً وعرقياً لم نكن نتوقعه" يؤكد شمعون بلاص لل"الحياة" ويضيف: "شعرت بالاختناق الثقافي، فلا الأدب كان أدبي ولا اللغة لغتي، بل كل شيء في اسرائيل كان يخدم ايديولوجي معينة. كان العالم بالمختصر مزيفاً ومنقولاً من عوالم أخرى". ويتابع بلاص مسترسلاً: "كان علينا أن ننسى لغتنا الأم ونتعلم لغة أخرى في شكل فج، ومن أراد منا أن يعمل لم تكن أمامه فرصة متاحة لذلك إلا من خلال الأعمال البسيطة مثل الفلاحة والعمل في المصانع على رغم أن كثيراً منا كانوا من حملة الشهادات ومن أصحاب المؤهلات العلمية. كنا نستشعر ببساطة أن المجتمع يقوده ويقرر فيه يهود آخرون قدموا من أوروبا". ويبرز الجانب المأسوي في البحث عن الهوية الحقيقية من خلال التجربة التي عاشها يوسي يوناه البروفيسور في علم فلسفة السياسة في جامعة بن غوريون في النقب وأحد أبناء الجيل الثاني، ورواها لل"الحياة" موضحاً أن التعرف على الثقافة العربية بالنسبة اليه هو بمثابة تعويض عن سنوات من النقص عاشها: "كانت هناك فجوة عميقة في طفولتي حتى أنني لم أستطع يوماً أن أفهم قصص جدتي التي لم تكن تتقن سوى العربية في حين لم أكن أتقن أنا إلا العبرية. واهتمامي بأصولي وباللغة العربية، التي اعتبرتها مسبقاً لغة العدو والشعوب المتخلفة، لم ينمُ إلا حين نضج الوعي السياسي عندي، ما جعلني أندفع إلى مقاومة هذه الأفكار في شكل جذري والاعتراف بثقافتي". وبحسب يوسف، الاسم العربي ليوسي، فإن السلام بين العرب واليهود لن يتحقق إلا من خلال اندماج الثقافات بعضها ببعض. أما الفكرة السائدة التي تحمّل الدول العربية مسؤولية إجبار اليهود العرب على ترك أملاكهم والنزوح من دونها فهي في نظر بروفيسور علم الاجتماع في جامعة تل أبيب يهودا شنهاف "حقيقة مفتعلة تهدف إلى حماية اسرائيل من حق الفلسطينيين المطالبة بالعودة إلى وطنهم أو بأية تعويضات عن ممتلكاتهم المتروكة". خلطت الندوة بين الماضي بأحداثه والواقع، وبين السياسة والثقافة. وكان في اليوم الثاني تعريف بمؤلفات المحاضرين وعروض سينمائية وموسيقية ومنها عرض فيلم وثائقي يصور حياة بعض اليهود العراقيين تحت اسم "أنسى بغداد"، بحضور مخرج الفيلم الشاب العراقي سمير جمال الدين الذي يعيش في سويسرا وبعض الشخصيات التي ظهرت فيه كسامي ميخائيل. وفي الختام قدمت فرقة موسيقية اسرائيلية أتت من تل أبييب معزوفات وأغاني شعبية عراقية قديمة، عكست ألحانها وكلماتها واقع "التشاؤل" الذي يستشعره الجميع في المنطقة!