لا توجد مؤشرات تشي بتحول أنقرة عن سعيها المضني للالتحاق بعضوية الاتحاد الاوروبي، فالأشواق التركية بهذا الخصوص مازالت على تحرقها وإلحاحها في عهد حكومة العدالة والتنمية كما كان الحال أيام سابقاتها في السلطة، ولا جديد أيضاً في اظهار النخبة الاسلامية الحاكمة للغضب من ازدواجية المعايير الاوروبية الغربية في التعامل مع أنقرة، وذلك بقبولها بعضوية كاملة وعاملة في اكثر من منتدى ومحفل تنظيمي غربي، في الوقت الذي يُطلب اليها الانتظار مطولاً على باب اكثر النوادي تعبيراً عن السياق الاوروبي والهوية الاوروبية. وعلى رغم أزمة العدالة والتنمية مع واشنطن على خلفية افتراق المواقف من حدود مشاركة تركيا في غزو العراق وكثير من تداعياته اللاحقة، فإن الرئيس جورج بوش الابن زكى أخيراً المطلب التركي بين يدي الاوروبيين، الأمر الذي لا بد جرى بعلم انقرة وتنسيق مسبق مع حكومتها. وكانت هذه التزكية الصريحة قد أثارت حفيظة بعض الاوروبيين، بحسبانها تدخلاً أميركيا فجاً في شأن أوروبي داخلي. غير أن هذا الامتعاض يبدو مصطنعاً ومبالغاً فيه، كون المداخلة الاميركية على خط التجربة الوحدوية الاوروبية اقدم زمنياً وأعمق غوراً وأبعد تأثيراً من مجرد إعلان اسناد المطلب التركي المزمن في اجتماع الناتو باستنبول في حزيران يونيو الماضي. كل المتابعين يعلمون ان انقرة دأبت على اتخاذ مرضاة واشنطن والتواطؤ معها ضمن ممرات الوصول الى قلوب الاوروبيين، من المعلوم أيضاً أن الحكومات التركية المتوالية تعاطت وتعاملت مع اسرائيل محفوزة بالمنطق ذاته وزيادة.. باعتبار أن تل ابيب يمكنها ترطيب الاجواء مع الاوروبيين بشكل مباشر أو على نحو التفافي عبر نفوذها وكلمتها المسموعة لدى الحليف الاميركي. والحال كذلك فإن السؤال الذي يهجس به تطور السياسة التركية خلال الشهور الاخيرة، حيث الاشاحة بوضوح عن عنتريات واشنطن الاقليمية والدولية واظهار العين الحمراء لإسرائيل على نحو لا نخطئه عين بصيرة، السؤال هو ما الدوافع الحقيقية لهذه المنهجية المستجدة؟ نفهم جيداً أن نخبة الحكم الراهنة اكثر حساسية للتاريخ المشرقي للبلاد وما يكنه من عواطف غائرة تجاه الابعاد الحضارية المشتركة المغموسة والمغلفة بالعقيدة الاسلامية. ونفهم أن هذه الحساسية قد تكون مسؤولة عن مظاهر التسامح ومحاولات التقارب مع الجوار العربي والاسلامي، تجاوباً مع انحيازات الرأي العام، وهو ما تجلى تماما في المبالاة بتحسين العلاقات وتنحية الخلافات مع هذا الجوار بدءا من ايران وسورية، والتوقف عن دور مخلب القط لمصلحة السياسات الاميركية والاسرائيلية على الصعيد الشرق اوسطي. لكن الاهمية التي راحت تبديها انقرة للوشائح التاريخية الحضارية في تكييف توجهاتها الاقليمية، لا تكفي لتفسير الفتور الكبير في علاقاتها مع الشريكين الاميركي والاسرائيلي، فالابعاد المصلحية الجافة مازالت المحدد المهيمن على صناعة السياسة الخارجية التركية على ما تقول مفردات هذه السياسة. ومن يحكم في انقرة ليسوا كآيات الله في طهران، وليست بلا دلالة بهذا الصدد، ما صرح به رجب طيب اردوغان رئيس الوزراء التركي في غمرة انتقادات له لسياسة اسرائيل من ان"تركيا ستواصل علاقتها الاقتصادية مع اسرائيل وتطورها بدرجة اكبر رغم اعتراضها على سلوكها ازاء الفلسطينيين"، القضية إذاً لا تتعلق بقطيعة مع اسرائيل ولا بكسر عظام. وليس يكفي الاستكناه المقاربة التركية الجديدة القول إن أنقرة غاضبة من الرفض الاسرائيلي لوساطتها في شؤون التسوية العربية الاسرائيلية، لقد رفضت اسرائيل من قبل ومن بعد وساطة من هم اكثر لديها اهمية وأوقع صلة بها من تركيا، الاوروبيون مثلا، ولولا السيطرة الاميركية على توجهات ما يعرف ب"اللجنة الرباعية"لما افسحت لها تل ابيب مكانا في ما يسمى بالوساطة الدولية!. كذلك فإن مكانة العرب في عهد العدالة والتنمية لم تحقق ما يُغري انقرة بالتقارب معهم على حساب واشنطن وتل ابيب، العكس هو الصحيح على المستويين الاقليمي والدولي، بحيث هبط العرب فرادي ومجتمعين على سلم المكانة نزولاً الى خانة المفعول به بالكامل تقريباً. والحق ان هذه الملاحظة تقودنا الى التفسير الاقرب الى المنطق، فالتدهور العربي افضى الى نوع من الفراغ الذي لا تقبله الساحة الاقليمية من المنظور الجيوستراتيجي بالجوار التركي. وهنا تبدو تركيا واسرائيل من أكثر القوى ملاحظة لهذا التطور الفارق ورغبة في التحرك للإفادة منه وتجييره لمصلحتها وتصفيفه على هواها. الوضع الاقليمي بعد غزو العراق وتداعياته معطوفاً على حديث الشرق الاوسط الكبير او الموسع، افضى الى استفزاز ما يصح تسميته - بشق من المبالغة - بصراع الريادة او القيادة او المكانة بين انقرة وتل ابيب. ويمكن التمثيل لهذا الصراع أو لنقل التدافع على سبيل التخفيف على المستوى الجزئي في كردستان العراق. ان عين انقرة لا يمكن أن تغفل عن تعدي تل ابيب للخطوط الحمراء في تحركاتها مع الدائرة الكردية في هذه المنطقة المتاخمة، فيما ترى تل ابيب ان توثيق الصلات بهذه الدائرة احد أهم مكاسب فوضى العراق بعد غزوه، وباقتضاب فإن اسرائيل لا يسعها تفويت الفرصة السانحة لإعادة تشغيل منطق التفتيت الاقلوي حولها من المدخل العراقي المبشر الان بنظرها، فيما لا يمكن لتركيا ان تتسامح مع هذا التوجه، وفي العراق تحديداً، هذه نقطة خلاف ساخنة تبرر الحذر التركي من السياسة الاسرائيلية العراقية، وتذكير تل ابيب بأن لدى انقرة ما تؤلم به الشريك الاسرائيلي المشاكس من المدخل العربي والفلسطيني. على أن قضية التدافع التي نفترضها بين انقرة وتل أبيب تتجلى أكثر على المستوى الاقليمي العام، الرسالة التركية بالخصوص انه اذا كانت اسرائيل تأنس في ذاتها امكانية تطبيق النزوع القديم لزعامة الشرق الاوسط، الجديد او الكبير سيان، بعد زعزعة اركان النظام العربي المتداعي او تقويضه بالكامل، فإن تركيا ربما كانت أولى بهذا الامر، المسوغات المؤهلة الحافزة على هكذا تفكير كثيرة وبكل المعاني المحتملة، جغرافياً وتاريخيا وثقافيا، وكذا من حيث التفضيلات النظامية السياسية المتداولة في أروقة الشرق الاوسطين. تركيا، تحت نموذج حكم العدالة والتنمية بالذات، تستطيع الادعاء بأحقية ان تحتذى ويُهتدي بتجربتها الذاهبة باصرار على التوليف بين الاصالة والمعاصرة، بين العلمانية والدينية، أما اسرائيل بمحتواها الديني اليهودي الفائض هذه الايام، فلا تملك ذلك، علاوة على مقبوليتها اقليميا بكل المعاني تبقى محلاً للشك من الأصل. هذا تفسير محتمل للعزوف التركي عن اسرائيل وانشاء مسافة معها، مسافة تفتح الباب امام ارتياح عربي يسهل قبول دورها الاقليمي المنشود. وهناك تفسير اخر ربما جاز التأمل فيه، فقد تكون انقرة يئست من امكان الدخول الى النادي الاوروبي عبر البوابة الصهيونية الاسرائيلية، او اصابها الملل والقنوط من كثرة ما عرضت من خدمات لم تجد نفعاً على هذا المضمار، وعليه، مضت تستخدم هذه البوابة ولكن باسلوب معاكس، اي عبر قرص اذن اسرائيل بقوة واشعارها بالحاجة الى الرضا التركي، الذي قد لا يأتي الا بالتجاوب الحقيقي المتعين والمنظور مع طموحها الاوروبي. يسمح بتجريب هذه المنهجية ان تركيا ما عادت في حرج من قومية عربية فوارة بالجوار فكرياً أو حركيا.. ومن ثم، صارت اكثر تحرراً ازاء تعاون اسرائيلي فج في هذا الاطار، لقد ضغطت انقرة بطن امريكا الرخو في العراق، فما كان من الاخيرة الا ان جاهرت بمؤازرة المطلب التركي عند الاوروبيين، فِلمَ لا نكون بصدد السيناريو ذاته بين انقرة وتل ابيب؟!. * كاتب فلسطيني