إرادة المعرفة، أساس السند العلمي في الغرب لئن استطاعت المسيحية بجلّ طوائفها أن تؤسس لخطاب لاهوتي فيه تنزّل الإسلام عقيدة وحضارة وتوجد مؤسسات فكرية من شأنها أن تسهر على رصد الفكر الديني الاسلامي وتحليله واكتناه خفاياه ورهاناته فإن علاقة الفكر الإسلامي الحديث بالفكر الديني المسيحي ما زالت مرتبطة بمجهودات المفكرين الذاتية وبقناعاتهم الفكرية من دون أن تتواجد مؤسسات علمية متخصصة تسهر على تتبع الفكر الديني المسيحي وعلى التعريف بأعلامه ورموزه وتشجع على بناء خطاب إسلامي للمسيحية من داخل الثقافة العربية وانطلاقاً من المسلمات العقدية ذاتها وباعتماد خطاب الحداثة والتنوير. ففي مقابل التنسيق والتنظيم في الغرب / المسيحية توجد الفوضى والتشتت في الفضاء الإسلامي وازاء التشجيع والاهتمام نجد الإهمال والتقصير وحتى التحجير. وان هذا الأمر على غاية من الخطورة معرفياً والخطر سياسياً، إذ كيف يمكن أن يتهاون الفكر الإسلامي اليوم بأحد عنصري قوة الغرب: ارادة المعرفة وارادة الهيمنة فلا ينهض بصفة مستمرة مدروسة برصد الفكر الديني المسيحي لدى الأفراد والمؤسسات لا سيما أن هذا الفكر قد كيّف نظرة الغربيين الى الانسان والى الكون ويعد مدخلاً جيداً وضرورياً لمعرفة القيم المركزية التي يؤمنون بها وينطلقون منها في تعاملهم مع غيرهم؟ وكيف ننظر الى غيرنا وهو يسيطر علينا معرفياً ويحرص على أن يقدم صورة للمسلمين بالطريقة التي يراها مناسبة لمصالحه وقناعاته حتى وان كان ذلك عبر الاختزال والانشاء من دون أن ندرك الأخطار المترتبة عن هذا السلوك الغريب الذي لا يعي دور المعرفة في توجيه التاريخ وخدمة المصالح. وإن الأمر يصبح غريباً لأنه لا يرقى الى السند العلمي الذي كان سائداً في الحضارة العربية الاسلامية زمن قوتها. فكبار العلماء المسلمين في مجال الأديان مثل الشهرستاني ت 548 ه في الملل والنحل، والأشعري ت 324 ه في مقالات الاسلاميين، والبيروني ت 1048م في تحقيق ما للهند من مقولة تفطنوا الى أهمية دراسة المغاير دينياً والى ضرورة الوقوف على مصادر مقالات أهل العلم من أرباب الديانات والنحل عبرة لمن استبصر واستبصاراً لمن اعتبر كما يقول الشهرستاني. وكان هاجس المعرفة والانفتاح لا هاجس التمجيد أو الاستعلاء السلبي هو الموجّه لأعمالهم. ولذلك لم يهملوا دراسة الآخر المغاير روحياً وكانوا مطلعين بل مسيطرين معرفياً على السائد الموجود بمنهج يرتكز الى خلفية نظرية قوامها الحق والنسبية في المجال الروحي من دون أن يعني ذلك انهم يضعون معتقداتهم في الميزان أو انهم يرومون السيطرة على الآخر. إرادة الهيمنة في علاقة الغرب المسيحي بالاسلام من دون الوقوف عند مؤسسة الاستشراق الحديثة، كان الاسلام برموزه المركزية القرآن والرسول، وبثقله الحضاري الروحي جزءاً من مشاغل الفكر الغربي عامة والفكر الديني المسيحي خصوصاًِ وهو ما يفسّر وجود تقليد معرفي عريق حديث لم ينقطع غايته رصد الدراسات الاسلامية. ولئن لم يكن الهاجس العقدي هو المحرك له ايديولوجياً دائماً على رغم وجوده، فإن مواقف أصحابه أفراداً ومؤسسات من الإسلام روحانية وحضارة قد خضعت لمستوى المعرفة السائد وتأثرت بالتقارب الجغرافي أي بتقاطع المصالح وتضاربها وبمأسسة الخطاب الديني عبر التاريخ واستثماره سياسياً، وهو ما يفسّر وجود مواقف متباينة من الاسلام في نطاق التقليد نفسه. ولكن اللافت هو أن هذه المواقف كانت موجودة باستمرار ومتطورة بتطور المعرفة مما جعلها متناغمة مع التحولات المعرفية الرئيسية وقادرة في الوقت نفسه على التحرر بصفة طبيعية من الآراء القديمة المرفوضة اليوم من دون أن يتهم اصحاب هذا الفكر بالتناقض وبالتنكر لموروثهم. ولذلك غدا الجمع بين المواقف الموغلة في العداء للإسلام والاعتداء عليه والمواقف المنادية بالانفتاح عليه فكرياً ورعوياً وحتى روحياً أمراً طبيعياً يمكن تفسيره. لقد تحوّلت المواقف من النقيض الى النقيض. فوجدنا مواقف من الاسلام سلبية تتسم بالتشهير والقدح والمجادلة وأخرى حذرة فيها انفتاح محدود عليه وعلى غيره من الأديان مشروط الى جانب المواقف التي سعى أصحابها الى البحث عن معنى الأديان عامة والإسلام خاصة ضمن تدبير الله الخلاصي، مما أدى شيئاً فشيئاً الى الاعتراف بوجود قيم ايجابية في الاسلام ممكن ان تؤدي بأصحابها الى الخلاص الذي قد يكون موجوداً خارج الكنيسة لا داخلها بالضرورة كما ساد طوال قرون خطأ، والى الاقتناع بضرورة التحاور معه قصد بناء روحانية حديثة متكافئة متضامنة كونية من دون مساومة أو تنازل أو تنازع. ولم يبلغ الفكر المسيحي هذه المرحلة الا بعد ان استفاد من المعارف الحديثة وراجع على ضوئها تراثه مراجعة نقدية أليمة أحياناً ولكنها مفيدة في كل الحالات. فأدرك ان الموقف الجدلي لا يعبّر الا عن قلب تعاليم المسيح وتعديل رسالته بل تشويهها وهو مرتبط بالمبشرين الذين فكروا في الآخر انطلاقاً من الذات وفي الأديان والحضارات انطلاقاً من المسيحية ومن قيم الغرب مما جعلهم يغلبون هاجس تعميد الأمم على تعليم يسوع المركزي المحبة ويطاردون المغاير المختلف عوض الانفتاح عليه والتحاور معه. ولذلك لم يعد هذا الموقف متناغماً نسقياً ولا مقبولاً مسيحياً. فلم يدع المسيح الى محبة الآخر إلا إذا أصبح مسيحياً بل دعا الى محبته في ذاته ولذاته. ولذلك وجب التخلص من هذا الموقف بسرعة احتراماً للذات ولتعاليم المسيح نفسه وإلا أصبحت المسيحية تعلة ومبرراً لاستعباد الآخرين وهذا أمر مرفوض اخلاقياً ويتعارض وتعاليم يسوع الصريحة. فلا بد إذاً من التمييز بين الأديان منظومات روحية والأبنية الثقافية الحاضنة لها ولا بد من تجاوز عقلية التبشير المستندة الى اخلاقيات يرفضها المسيح والتنميط والمناداة بالحقيقة الواحدة الوحيدة الى المناداة بالاختلاف والتميز والنسبية قيماً أساسية يستدعيها الدين ذاته لا الحداثة ومن شأنها أن تسهم في تعميق معنى المسيحية وجعلها متناغمة مع غايات مؤسسها وفي الوقت نفسه أداة تواصل مع الروحانيات المغايرة في المستوى العملي الرعوي وسبيلاً نحو الحرية في مجال البحث والعلم. وبقطع النظر عن آليات الاستدلال المستعملة في تحيين المسيحية وتحديثها ومدى اتساقها نسقياً ووضوحها ايديولوجياً، فإن الفكر المسيحي بقسميه الرئيسيين الكاثوليكي والبروتستانتي قد تمكن على رغم الاختلاف في تمثّل رسالة عيسى من صوغ مسيحية حديثة متفاعلة مع القيم الكونية السائدة ومجذرة للحرية بمختلف مجالاتها. وقد آل مسار الفكر البروتستانتي والكاثوليكي في مجال العلاقات مع المسلم المغاير الى نتيجة واحدة. فنادى الآباء الكاثوليك في المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني 1962 - 1965 الى الحوار مع المسلمين في البيان الشهير المتعلق بعلاقة الكنيسة بالأديان الأخرى وفي الدستور العقدي المتعلق بالكنيسة في عالم اليوم. فقطعوا على الأقل في الظاهر مع التقليد الذي ساد منذ بطرس العجائبي نحو 1092 - 1156 وريمون ليل نحو 1235 - 1315 وسعوا الى تنزيل الاسلام في تاريخ الخلاص والتاريخ النبوي متجاوزين بعض التيارات المختزلة له. مما أدى الى تجديد صورته وإخراجه من القوالب الذهنية التي حشر فيها. ولئن كان مارتن لوثر ت 1546 قد اعتبر البابا والاسلام عدوين لدودين للمسيح وللكنيسة المقدسة وسوّى بينهما من أجل مقاومتها معاً عندما اعتبر الاسلام مرادفاً للخطيئة والبابا مرادفاً للاسلام، فإن اللاهوت البروتستانتي برافديه الانكلوساكسوني والقاري قد استطاع بدوره أن يجدد النظرة الى الاسلام ويتحرر نسبياً من المسوّغات اللاهوتية التي بها برر ضرورة تبشير المسلمين واعتبارهم قصراً في حاجة الى دروس تدارك ودعم. فكان التغيير شبه كلي: من ضرورة تبشير المحمديين وإنكار وجودهم الى ضرورة الاعتراف بهم وواجب التحاور معهم. الاسلام والمسيحية أو الارادة المخذولة لقد وجد في الرافدين المسيحيين رواد مؤسسون. فكان لللاهوت الجدلي على يد كارل بارت 1886 - 1968 دور حاسم في نشأة لاهوت الأديان الذي أصبحت بمقتضاه الأديان منظومات مستقلة جديرة بالاحترام والحوار مطلباً انجيلياً. وفي الكاثوليكية لعب لويس ماسينيون 1883 - 1962 دوراً خطيراً في إقناع المؤسسة الكاثوليكية بواجب الحوار مع المسلمين على أساس انهم يمثلون مسلكاً روحياً متميزاً عندما زعزع المسلّمات التي يعتمدها أصحابها في نفي العلاقة بين الاسلام والخط الابراهيمي والإرث الكتابي. والسؤال المطروح الآن هو هل نظفر في الفكر الإسلامي الحديث بتقليد معرفي فيه تدرس المسيحية بطريقة تتناغم مع الاعتقاد الاسلامي ومع الحداثة معاً أي بالطريقة التي يؤمن بها أصحابها فعلياً؟ وهل هناك خطاب ديني في شأن المسيحية متطور ومساوق لتقدم المعرفة أو على الأقل يرتقي في مستوى الوعي المعرفي الى الخلفيات النظرية التي استند اليها الرواد قديماً مثل الشهرستاني والبيروني؟ لقد استدل الأستاد عبدالمجيد الشرفي في أطروحته على أن الردود الاسلامية على النصارى الى نهاية القرن الرابع/ العاشر ظلت تمجيدية جدلية وانه لا بد من تصفية الحساب مع هذا التراث والقيام بعملية تنظيف وتجاوز عقلية الجدل والمناظرة التي لم يعد لها مبرر للوجود اليوم. غير ان الناظر في ما كتب عن المسيحية الى اليوم يلاحظ ان السنة المعرفية التقليدية ما زالت قائمة على رغم مكتسبات الحديثة العديدة. ومن المفارقة انه على قدر اهتمام المسيحيين بالاسلام هناك لا مبالاة اسلامية بالمسيحية وان جلّ الدراسات الموجودة اليوم انما تخاطب مسيحية مجردة علاقتها بالفكر والاعتقاد والممارسة المسيحية الحديثة وبالحداثة ضعيفة أو معدومة. فما قيمة أعمال محمد أبو زهرة وأحمد شلبي؟ أليست مؤلفاتهما تعمية للمسيحية عوض تغطيتها؟ وما الفائدة من أعمال تدرس المسيحية ولكن لا تثير الأسئلة الملحة ولا تقف عند التحولات العميقة والتحديات التي تواجه الأديان عموماً؟ لقد تأمل العقاد في بعض مظاهر رسالة المسيح وركز على تعليم المحبة والدعوة الى حرية المعتقد فيها ولكن عمله لم يتجاوز الاطار التاريخي التقليدي. وتناول خالد محمد خالد في "معاً على الطريق" حياة محمد صلى الله عليه وسلم وعيسى عليه السلام من منطلق كونه مثقفاً اضطهدته مؤسسة الأزهر التي ينتمي اليها ومفكراً ملتزماً اجتماعياً، فوجد في مقاومة المؤسسة الدينية ليسوع صورة من مقاومة علماء الأزهر له وجعل من المسيح بحكم تفاعله مع قيم الاشتراكية التقدمية والتيارات الاجتماعية الحديثة نصير الضعفاء وناصر المستضعفين. المنشود، تجاوز الانشائي الى التاريخي واستبدال المرجعيات والمنطلقات ولئن كانت محبة يسوع واضحة والتأثر بخصاله ومشروعه جلياً، فإن هذه الأعمال تبقى مع ذلك وثائق انشائية ابداعية لا علاقة لأسلوبها بمناهج البحث التي اعتمدها الغرب في دراسة الاسلام. ومن العبث البحث عن مقاربات جسورة تواجه الاشكاليات الصعبة المتعلقة بالمسيحولوجيا او بالصلب أو بالخوارق والمعجزات أو بالتثليث أو بالوحي... ففي هذا المجال لا وجود لتغيير البتة والمسكوت عنه المغيّب أخطر من المنطوق به وقد ظل القرآن معيار الحقيقة الذي لا يناقش وهنا يكمن في الحقيقة الخور والخطر. أما الخلل فيتمثل في إرغام المسيحيين بحقائق لا يؤمنون بها بدعوى انها قرآنية. والحال ان القرآن لا يرتقي في الضمير المؤمن غير الإسلامي الى مرتبة الكتاب المقدس. وأما الخطر فيتمثل في جعل مواقف القرآن من الصلب مساوية للظاهرية التي اعتبرت هرطقة في المسيحية، فيكون بذلك القرآن مصدراً مرفوضاً آلياً من الناحية المعرفية ومغذياً للتوتر عملياً. والأسلم ذرائعياً ومعرفياً هو صون القرآن الكريم وجعل غير المسيحي ينظر اليه بعين الإجلال مثلما ينظر اليه المسلمون، ودراسة المسيحية من خلال ما يؤمن به المسيحيون أنفسهم لا من خلال ما نعتقد انه الحق. ولذلك لا مفرّ من تجاوز القراءة الحرفية للقرآن أثناء التصدي لدراسة العقائد المسيحية. * أستاذ محاضر بكلية العلوم الانسانية والاجتماعية بجامعة تونس.