التعامل الأمني مع الهجمات الإرهابية - أياً كان شكلها - سيأخذ الأسلوب المحلي المعتمد من السلطات في كل بلد عربي، ولا مفر من ذلك، لأن الحريق لا بد من أن يطفأ أولاً ويتم احتواء النيران، ثم يجري انقاذ ما يمكن انقاذه، وحصر الخسائر والبحث عن الأسباب. ولكن هذا التعامل في حد ذاته، وعلى ضرورته لا يكفي لمنع حدوث حرائق أكبر، أو الحريق الأكبر، الذي تدفع باتجاهه تلك الجهات. لذلك فمن أجل فهم أفضل لهذه الظاهرة الخطيرة، على المستوى السياسي والفكري في هذه المرحلة التي تمر بالبلاد العربية، لا بد من نظرة معالجة تبعد نسبياً عن حرارة الحدث وانفعالاته قدر الإمكان على مشروعية هذه الانفعالات لنرى الصورة في أبعادها الأشمل وفي مختلف ايحاءاتها بما يمكن أن يساعد في تخطي هذا العنف الانتحاري المؤدي الى التدمير الذاتي قبل كل شيء وايجاد بوصلة أقدر على رصد الاتجاهات بما يتجاوز الحدث اليومي. وقد وجدت منذ مدة ان نهج الدراسات المقارنة مع التجارب الشرقية الآسيوية يمكن أن يقدم استبصاراً ويلقي اضاءات على أبعاد الظاهرة الإرهابية العامة التي تعانيها المجتمعات العربية في العقود والسنوات الأخيرة، وانها إذا كانت لا تفسر بطبيعة الحال كل شيء في ما يخص الأوضاع العربية الراهنة - وهو اعتراض متوقع من جانب الذهنية الاختزالية والانفعالية السائدة اليوم في العالم العربي - فإنها يمكن أن تساعد من زاوية ما حدث في تلك التجارب ويحدث عندنا في تصحيح عدد من الانطباعات الخاطئة لدى الدوائر الغربية بالذات من ربط الارهاب بالطبيعة العربية وبالإسلام، كما يمكن أن تسهم في تنوير السلطات العربية ذاتها بأن الجمود السياسي الذي أصرت عليه السلطات الآسيوية التقليدية في بلدانها حينذاك، كان من أهم المبررات التي استغلتها منظمات الإرهابيين هناك لتبرير أعمالها غير المبررة، وأعطت من ناحية أخرى الذريعة للقوى الأجنبية الطامعة للتدخل والاحتلال بحجة عجز السلطات المحلية عن حماية أرواح الأجانب ومصالح تلك القوى من تعدي أولئك الارهابيين الذين لم يردعهم وازع... من أبرز الأمثلة على ذلك وقبل مئة سنة تحديداً تفجرت مشاهد عنف وارهاب في أرجاء عدة من "مملكة السماء الوسطى" كما سماها أهلها قديماً، وهي بلاد الصين التي تبرز اليوم قوة كبرى ذات نهج ملتزم بالشرعية الدولية، بل ربما القوة الوحيدة المؤهلة لمواجهة القوة الأميركية - كما تشي بذلك تخوفات البنتاغون أخيراً - والتي تستند الى حضارة انسانية عريقة كانت منهلاً ريادياً لجوارها الآسيوي، وبخاصة اليابان وكوريا وفيتنام التي تتلمذت عليها كما يتتلمذ المرء على يد معلمه، كما كان لها مع الحضارتين العريقتين في الشرق، الحضارة الإسلامية والحضارة الهندية أعمق لحظات التواصل والتفاعل. فضلاً عن تمتعها بوحدة دولة، ذات استمرارية في التاريخ رعت حضارتها، وكان رجالها يتم اختيارهم لإدارتها على أساس العلم وكفاية المعرفة. غير أن هذه العراقة في الحضارة والدولة، أصابها الجمود والتحجر في قرونها المتأخرة، وأخذت أهلها العزة بالإثم لتراجعهم أمام الغرب الزاحف بحضارته واستعماره معاً، فاعتبروا الغربيين برابرة ولم يواجهوا انتصارات أولئك "البرابرة" من حولهم وفي ساحة العالم كله، الا بالاستعلاء الخاوي والمستنجد بذكريات الماضي المنقضي وحده، فلم تسعف الصين حينئذ معالم حضارتها وقصورها التاريخية ومكتباتها التي تجاوزتها علوم العصر، فاقتربت من بحارها وأطرافها الأساطيل الأوروبية، وخاض الانكليز ضدها في مينائها الحيوي هونغ كونغ "حرب الأفيون" وانتصروا عليها فارضين تجارة المخدرات على شعبها باسم "الرسالة الحضارية"، كما كان يتباهى بها بعض أساطينهم... وكانت جارتها اليابان مرت بتجربة "إرهاب" مماثلة في القرن السابع عشر، حيث خلق التبشير الديني الأوروبي - إضافة الى حركة الأساطيل الغربية في بحارها - حال كراهية وتعصب لا مثيل لها في تاريخ اليابان التي تأسست حياتها الروحية على التسامح بين الأديان، ما أدى الى إبادة المسيحيين فيها، أوروبيين كانوا أم يابانيين تنصّروا. ففي تلك اللحظة من الرعب المظلم وفقدان الثقة بالنفس اختلط على اليابانيين رسم الصليب ومقبض السيف فتصوروهما أداة واحدة...! في حال شبيهة تالية بعد قرون ومع إحاطة اولئك "البرابرة" بمملكة السماء الصينية - وكان واضحاً ان العقل الصيني في تلك اللحظة التاريخية لم يميز بين الغرب كحضارة والغرب كاستعمار، وظل متوهماً استمرار تفوقه الغابر، كما حدث ويحدث للعرب الى يومنا - في تلك اللحظة تهاوت ثقة الصين بنفسها، فهبت عناصر من شعبها بانفعال وجهالة لرد التحدي الغربي بيدها معتمدة على تنظيماتها الخاصة، التي انتهت الى عنف دموي ضد "الآخر" ولم تجلب في النهاية سوى الاحتلال الأجنبي الى قلب العاصمة الصينية. كان من أبرز تلك التنظيمات تنظيم "الملاكمين" The Boxers الذين كانوا يتظاهرون بنشاطهم الرياضي في "الملاكمة"، لكنهم اختاروه في الحقيقة لأنه الأقرب الى التدريبات العسكرية، ومع حصولهم على السلاح انقضوا على كل اجنبي وصلت إليه ايديهم على الأرض الصينية، وكانوا يستهدفون الأجانب البيض، والمبشرين المسيحيين بخاصة، ومواطنيهم الصينيين ممن اعتنقوا المسيحية. وقد نشروا جواً حقيقياً من الإرهاب حيث كانوا يذبحون المبشرين ويفصلون رؤوسهم عن اجسادهم، ثم يحملون الرؤوس معهم في زحفهم نحو المدن الأخرى ملوحين بها لمن ينتظرهم المصير نفسه وكان مشهداً "إرهابياً" عميق الدلالة على ان الإرهاب ليس صناعة عربية او إسلامية، وإنما هو حال اختلال كياني يصيب بعض العناصر في الأمة - اي امة -، فيأتي بركان الإرهاب من قاعها ليدق جرس تنبيه وإنذار لكل من يهمهم الأمر، بأن الأرض قد تبدلت غير الأرض... ولشيوع تلك "الحال" في اعماق الصين لم يبق "الملاكمون" فئة هامشية، فقد استطاعوا حشد ما يقارب نصف المليون مقاتل صيني في زحفهم نحو بكين وانضمت إليهم قطعات من الجيش الامبراطوري المهان، ونالوا التشجيع المبطن من الكثير من مسؤولي الدولة الصينية. وهو فصل في تاريخ الصين يجمل بنا ان نقرأه بعناية بالغة. لم تحتمل القوى الغربية هذا الوضع، وبعد ان كررت "مطالبها" للسلطات الصينية بضبط "الملاكمين" من دون جدوى، حيث تمكنوا من ذبح 1500 اوروبي في حادث واحد في السابع والعشرين من شهر تموز يوليو عام 1900، فقامت في الشهر التالي قوات "التحالف" المكونة من البريطانيين والأميركيين والفرنسيين والألمان والبلجيك واليابانيين... فقد كانوا هناك ايضاً منذ ذلك الحين! والبالغ عددها عشرة آلاف بفك حصار "الملاكمين" للجاليات الأجنبية في العاصمة الصينية التي اصبحت تحت احتلال القوات الأجنبية، ما اضطر الامبراطور القاصر والامبراطورة الأم الى الفرار بأحمال من خزينة الدولة. واجهت الصين بعد تلك المحاولات البشعة حالاً من الانهيار والتجزئة والضياع للمرة الأولى في تاريخها الطويل وتكررت مشاهد الرعب ضد الأجانب، الإنكليز بخاصة، عام 1925، ولم تخرج الصين من هذه الحال نحو وحدتها القومية وبناء نفسها من جديد، إلا بالاعتراف بعجزها وتخلفها، والانفتاح بالتالي، على علوم العصر وأفكاره وتجاربه في التنظيم والتحديث والتعامل المدروس مع الخصوم ومع العالم كله. فكانت "المسيرة الطويلة التي تلت إصلاحات صن يان صن قبل عقود" وأعادت توحيد الصين بقيادة ماو تسي تونغ عام 1949 متخذة ايديولوجية ماركسية خاصة بها، لكنها مقتبسة من فكر الحضارة الحديثة وتجارب العصر. ومن مفارقات التاريخ ان الغرب وهو يقاوم رعب الملاكمين الصينيين ويرسل الجيوش لحربهم، كان يشهد في "قلعته الجديدة" الولاياتالمتحدة ظهور تنظيم "الإرهابيين" البيض المعروفين باسم "كوكس كلان" وهم يندفعون لإبادة كل من ليس من البروتستانت البيض في المجتمع الأميركي، رفضاً وانتقاماً لتحرير زنوج اميركا من العبودية! هذه فقط لقطات لسوابق إرهاب من اقصى الشرق وأقصى الغرب تشير الى ان "الإرهاب" لا جنسية له ولا دين ولا وطن، وإنما هو اختلال في التكيّف مع حركة التاريخ، ومن تلك الزلازل البركانية التي تهيج في اعماق الأمم والجماعات عندما تفقد ثقتها بنفسها، وتفقد معها الأمان والاحتكام الى منطق العقل السياسي الذي ينبغي ان يسبق اي فعل آخر ويوجه كل الناشطين من اجل الحياة الأفضل. إلا ان ما حدث للصين خلال مئة عام من مهانة وتجزئة ثم نهوض وانطلاق بمثابة عزاء كبير لنا، فهو يعطي إشارة للعرب بإمكان تخطي التجزئة والضياع، لكن بشروط النهوض ومقوماته... واطلبوا الدرس... ولو في الصين! هكذا يتضح من النظر في هذه "السابقة" التاريخية للإرهاب في دولة وحضارة عريقة، غير عربية وغير مسلمة، ان الإرهاب يمكن ان يضرب اي بلد إذا تضافر عليه وتفاعل في نفوس ابنائه العاملان المدمران التاليان: 1- هيمنة اجنبية تعصف بمصالح الأمة وكرامتها لأمد طويل ومن دون رادع. 2- اوضاع داخلية متجمدة وعاجزة عن مواجهة العدوان ينخرها الاستبداد والفساد، ظلت بلا تغيير او تطوير لزمن طويل كذلك. وواضح من التجربة الصينية في إرهاب الملاكمين وسقوط بكين بسببهم تحت الاحتلال الدولي عام 1900، ان مثل هذا السلوك الدموي الإرهابي، غير مرتبط بأمة معينة او عقيدة بعينها، وأن العلاج يكمن موضوعياً في التصدي الحكيم والشجاع لاستمرار العاملين المذكورين ولتفاعلهما الوبائي، اكثر من محاولة تحسين صورتنا امام الغرب... وإقناعه بأن الإسلام ليس دين ارهاب، فالإسلام لم يكن كذلك يوماً. في العقد ذاته من القرن العشرين الذي رفض فيه جنود جزائريون مسلمون في الجيش الفرنسي قتل اسراهم على رغم امر قيادتهم - ما حدا بالأسير الماركسي روجيه غارودي الذي كتبت له تعاليم الإسلام حياة جديدة الى التعمق في فهم هذه الرسالة - في وقت مقارب لذلك الزمن كان الأب الروحي للإرهاب في "الشرق الأوسط الكبير" مناحيم بيغن يقتل ويفجّر بدم بارد مئات المدنيين الغربيين في فندق الملك داود في القدس، ويصبح من المجرمين المطلوبين للعدالة بحسب إعلانات الشرطة البريطانية. من يجرؤ على إعادة كتابة تاريخ الإرهاب في الشرق الأوسط ونسبته الى ابيه الروحي الحقيقي الذي هو بالصدفة المؤسس التاريخي لحزب الليكود والمثل الأعلى لشارون. وإذا كان الكفر ملة واحدة فالإرهاب ملة واحدة! * مفكر من البحرين.