"هذه صحف لم تكتب للعلماء ولا للمؤرخين، لأني لم ارد بها الى العلم، ولم اقصد بها الى التاريخ. وانما هي صورة عرضت لي اثناء قراءتي للسيرة فاثبنها مسرعاً، ثم لم ار بنشرها بأساً. ولعلي رأيت في نشرها شيئاً من الخير، فهي ترد على الناس اطرافاً من الاديب القديم قد افلتت منهم وامتنعت عليهم، فليس يقرأها منهم إلا اولئك الذين اتيحت لهم ثقافة واسعة عميقة في الادب العربي القديم. وانك لتلتمس الذين يقرأون ما كتب القدماء في السيرة وحديث العرب قبل الاسلام فلا تكاد تظفر بهم. انما يقرأ الناس اليوم ما يكتب لهم المعاصرون في الأدب الحديث بلغتهم او بلغة اجنبية من هذه اللغات المنتشرة في الشرق، يجدون في قراءة هذا الادب من اليسر والسهولة، ومن اللذة والمتاع ما يغريهم به ويرغبهم فيه، فأما الادب القديم فقراءته عسيرة، وفهمه اعسر وتذوقه اشد عسراً...". بهذه العبارات قدم طه حسين في العام 1933 لكتاب نشره في ذلك الحين وتبدى على الفور واحداً من امتع كتبه ولا يزال حتى اليوم يُقرأ على نطاق واسع ويبدو مفيداً في الوقت نفسه. انه كتاب "على هامش السيرة" الذي صدر بعد سنوات قليلة من صدور كتابه "في الشعر الجاهلي" الذي احاطته ضجة ومنع وحظر من الازهر، حيث اضطر طه حسين الى تغيير عنوانه وبعض فصوله في طبعة لاحقة. وكتاب "على هامش السيرة" كان الاول بين مجموعة كتب ذات طابع ديني لا شك فيه اصدرها طه حسين خلال مراحل تالية من حياته. والحال انه منذ صدور "على هامش السيرة" رأى كثر من النقاد ومؤرخي الادب ان هذا الكاتب انما اراد ان يلتف على مهاجميه الذين رموه بالزندقة والكفر وراحوا يحاربونه باسم الدين، ما استدعى منه "عودة" الى الايمان عبر نصوص اراد من خلالها تأكيد ايمانه ودحض تخرصات مهاجميه. غير ان هذا التفسير لا يبدو الآن دقيقاً. الاقرب الى المنطق هو ان طه حسين وغيره من الكتّاب والمفكرين العقلانيين المصريين اكتشفوا خلال النصف الاول من ثلاثينات القرن الفائت خطورة استيلاء المتشددين الدينيين، واستشراء ظاهرة الاحزاب الدينية وخصوصاً الاخوان المسلمين واستجابة قطاعات عريضة من الناس لأفكارها، فوجدوا ان من الخطورة مواصلة الغوص في حداثة علمانية - مؤمنة على اي حال - وترك ساحة استخدام النصوص التراثية والفكر الديني للمتشددين يفسرونها على هواهم وضمن اطار افكارهم الظلامية، لذلك التفتوا الى ذلك التراث وراحوا ينهلون منه، ليس للتأكيد على صواب عقلانيتهم هم، بل خصوصاً من اجل كشف الجوانب المتقدمة والعقلانية والمشرقة من الدين الاسلامي، وهي جوانب راح المتشددون في ذلك الحين يتفننون في طمسها. وضمن هذا الاطار، كما يبدو، جاءت كتب لتوفيق الحكيم ومحمد حسين هيكل... وكذلك لعباس محمود العقاد. وضمن الاطار نفسه يمكن موضعة "على هامش السيرة". ولعل ما يؤكد هذا تأكيد طه حسين انه كتب هذا الكتاب لعامة القراء، مضيفاً: "... واذا استطاع هذا الكتاب ان يُلقي في نفوس الشباب حب الحياة العربية الاولى، ويلفتهم الى ان في سذاجتها - ويقصد هنا "في بساطتها" - ويسرها جمالاً ليس اقل روعة ولا نفاذاً الى القلوب من هذا الجمال الذي يجدونه في الحياة الحديثة المعقدة، فأنا سعيد موفق لبعض ما اريد". ولفت طه حسين هنا - وفي هذه النقطة يكمن لب معركته الفكرية من دون ادنى ريب - الى انه يعلم "ان قوماً سيضيقون بهذا الكتاب، لأنهم محدثون يكبرون العقل، ولا يثقون الا به، ولا يطمئنون إلا اليه. وهم لذلك يضيقون بكثير من الاخبار والاحاديث التي لا يسيغها العقل ولا يرضاها. وهم يشكون ويلحون بالشكوى حين يرون كلف الشعب بهذه الاخبار، وجده في طلبها، وحرصه على قراءتها والاستماع لها. وهم يجاهدون في صرف الشعب عن هذه الاخبار والاحاديث...". فما الذي في هذا الكتاب اذاً؟ ان فيه، بحسب تحليل حسن محمود انتقال ب"احداث السيرة من الناحية الاخبارية الى الناحية التشويقية التأثيرية، مع الاحتفاظ بجميع عناصر القصة او الخبر". ومن هنا يمكننا ان نقول ان الكتاب يتألف من حكايات متفرقة وأخبار دونها طه حسين على هامش قراءاته التراثية... ولكن قراءتها معاً، وضمن المنطق الذي شاءه ذاك الذي يعتبر دائماً عميد الادب العربي من دون منازع، تضعنا امام منظومة فكرية متكاملة تستخدم ذلك القصص التراثي لايصال رسالة فكرية - ايمانية واضحة... عبر مقطوعات ونصوص يسميها هو "الأدب الحي" أي الأدب المستقى من التاريخ كما تداوله اصحابه ورووه، وليس فقط كما عاشوه، انطلاقاً من ادراك طه حسين الى ان المروي، حتى ولو كان بعيداً من الواقع، يشكل جزءاً اساسياً من حياة الشعوب وتاريخها، لذلك يكون بالنسبة اليه "ادب قادر على البقاء ومناهضة الايام"... وذلك في مقابل أدب آخر "ينتهي اثره عند قراءته. فقد تكون له قيمته، وقد يكون له غناؤه، ولكنه أدب موقوت يموت حين ينتهي العصر الذي نشأ فيه". وهذا القول هو ما يجعل طه حسين يستطرد قائلاً: "وليس خلود الالياذة يأتيها من انها تُقرأ فتحدث اللذة وتثير الاعجاب في كل وقت وفي كل قطر، بل هو يأتيها من انها قد ألهمت وما زالت الكتاب والشعراء، وتوحي اليهم اروع ما انشأ الناس من آيات البيان...". وهكذا يبرر طه حسين كتابه ويفسره ما اراده منه مضيفاً "... فليس في هذا الكتاب - اي في "على هامش السيرة" - اذاً تكلف ولا تصنع، ولا محاولة للاجادة، ولا اجتناب للتقصير. وانما هو صورة يسيرة طبيعية صادقة لبعض ما اجد من الشعور حين اقرأ هذه الكتب التي لا اعدل بها كتباً اخرى مهما تكن، والتي لا امل قراءتها والانس اليها، والتي لا ينقضي حبي لها واعجابي بها، وحرصي على ان يقرأها الناس. ولكن الناس مع الاسف لا يقرأونها لأنهم لا يريدون او لأنهم لا يستطيعون. فاذا استطاع هذا الكتاب ان يحبب الى الشباب قراءة كتب السيرة خاصة، وكتب الادب العربي القديم عامة والتماس المتاع الفني في صحفها الخاصة فأنا سعيد حقاً، موفق حقاً لأحب الاشياء اليّ وآثرها عندي". حين نشر طه حسين هذا الكتاب كان في الرابعة والاربعين من عمره. واذا كان هذا الكتاب يحمل الرقم 11، تاريخياً بين مؤلفاته، فإنه - اي طه حسين - كان قد سبق له ان اكد مكانته الفكرية الادبية، مع عدة كتب مهمة كان اصدرها من قبله مثل "ذكرى ابي العلاء" و"حديث الاربعاء" و"في الشعر الجاهلي" الذي صار لاحقاً "في الادب الجاهلي"، ثم خصوصاً في الجزء الاول من "الايام" كتاب سيرته الذاتية الكبير. ونعرف ان طه حسين لن يتوقف عن الكتابة والنشر بعد "على هامش السيرة"، حيث ان قائمة كتبه الفردية تصل الى اكثر من ستين كتاباً يمكن القول ان معظمها انما هو - على شاكلة "على هامش السيرة" - عبارة عن نصوص نشرت اولاً متفرقة ثم جمعت في كتب. وهنا لا بد من الاشارة الى ان من اول اهتمامات طه حسين كان اهتمامه بابن خلدون الذي وضع عنه بالفرنسية اطروحته لشهادة الدكتوراه، كما ان اهتمامات شملت الادب والفكر اليونانيين وأدب التمثيل بشكل عام واساطين الشعر العربي كتبه عن ابي العلاء والمتنبي والتحديث الفكري "مستقبل الثقافة في مصر" ناهيك بخوضه الادب الروائي أديب"، "دعاء الكروان"، "الحب الضائع". وهو كان في كل المجالات التي خاضها مجلياً مشاكساً وعقلانياً... كما نعرف.