بإعلانه الهدنة من جانب واحد، مساء أول من أمس، في مدينة الصدر، وتأكيده استجابة طلب الوسطاء من "البيت الشيعي، لأن قرار وقف اطلاق النار الأحادي هدفه تفويت الفرصة على الارهابيين والمخربين ومنعهم من احداث فوضى عارمة وانفلات أمني خطير يتزامن مع عملية نقل السلطة"، يكون تيار الصدر كرس انخراطه في اللعبة السياسية في العراق. ويقول سياسي عراقي يشارك في جلسات الحوار بين المسؤولين الأميركيين والعراقيين: "منذ البداية كان السيد مقتدى الصدر مصدر ازعاج للأميركيين، لكن النصائح التي أسديت لهم باستمرار من أصدقائهم العراقيين، كانت تصب في اتجاه ردعهم عن ارتكاب الخطأ القاتل الذي سيشكله اعتقاله أو تصفيته. وكانت النصائح ترد منذ البداية وقبل ان يدرك احد أنه يحظى بهذه الشعبية وبهذا الحضور الهائل في الشارع الشيعي. لقد اخطأ مقتدى الصدر في حساباته واستراتيجيته، لكنه يبقى أحد أكثر الزعماء شعبية. وهذا ما بات يدركه الأميركيون والجميع في العراق الآن". ويختفي مقتدى الصدر في مكان سري في مدينة الصدر، بعد نجاته من محاولة اغتيال استهدفته قبل نحو ثلاثة أسابيع. إلا أن المواقف المتتابعة التي صدرت عنه وعن مساعديه اتسمت بالاعتدال إلى درجة أدهشت الوسطاء العراقيين الذين ضاقوا ذرعاً بالتعنت والصلف اللذين أظهرهما الأميركيون سواء في محافظة النجف أو في بغداد، إلى حد كاد يهدد التسوية المبرمة. ويبدو التغير الذي طرأ على تيار الصدر منذ 9 نيسان ابريل 2003 تاريخ سقوط النظام السابق وحتى اليوم مذهلاً. واستطاع هذا التيار ان يضع لنفسه مبادئ واضحة تقوم على رفض الاحتلال وضرورة خروج المحتلين وعدم التعامل معهم. إلا أن اعتماده على الزخم الشيعي اكثر من تركيزه على بناء قوة شبه عسكرية حقيقية جعله يدفع الثمن غالياً في مواجهاته اللاحقة مع القوات الاميركية. وساهم امتعاض المرجعية الشيعية من مواقف الصدر البعيدة عن الحنكة السياسية في احيان كثيرة، في اتاحة الفرصة للاميركيين لتقليم اظافر "جيش المهدي" من دون معارضة. ويتابع السياسي العراقي الذي اشترط عدم ذكر اسمه: "كانت النصائح المقدمة للاميركيين تؤكد ضرورة عدم اخلاء الساحة للفصيلين الشيعيين الكبيرين اللذين يحظيان بدعم من ايران وهما المجلس الاعلى للثورة الاسلامية، وبدرجة اقل بكثير، حزب الدعوة. وقد اثبتت الاحداث ان تيار الصدر كان تياراً يبعث الخوف في قلوب مسؤولي هذين التنظيمين. والأميركيون مسرورون حتماً الان لان تيار الصدر لا يزال موجوداً، والا لسيطر المجلس الاعلى وحزب الدعوة على الساحة، وهما اللذان عرقلا كثيراً مشاريع مجلس الحكم وسعيا الى تطبيق احكام الشريعة". ويبدو التباين الشيعي - الشيعي واضحاً كما يظهره البند الرابع في البيان الذي حمل "قرار وقف العمليات العسكرية والقتالية داخل مدينة الصدر" اعتباراً من اول من امس والذي اشار الى ان "هذا القرار يوضح بجلاء حجة الطاعة والتمسك بخط الشهيد الصدر وسيكشف ويمنع حالات الخرق والعصيان ويكشف المخربين والمتنفعين، او من يعمل لجهات خارجية او داخلية تحاول الاستفادة من الدم الصدري". وقال علي اللامي، ممثل الشيخ عبدالكريم المحمداوي، في مجلس الحكم المنحل ل"الحياة": "حتى الآن هناك التزام كامل باخفاء كل مظهر مسلح داخل مدينة الصدر، والاطراف كلها ملتزمة فيما تنتشر قوات الشرطة بشكل طبيعي في مراكزها". وكان إعلان وقف اطلاق النار شكل الخطوة الاخيرة في سلسلة اجراءات دفعت اليها مبادرة سياسية اطلقها "البيت الشيعي" منذ ستة اسابيع واستطاعت ان تكسب اليها السيد مقتدى الصدر. وبعد اقناع الأخير بضرورة عدم تفتيت القوى الشيعية في الساحة السياسية وعدم جدوى الاحرار على المطالبة باخراج الامركيين في وقت يقترب موعد تسليم السيادة، لم يعد البحث عن تسوية وترتيب تفاصيلها سوى مسألة وقت. وعلمت "الحياة" ان مستشار الامن القومي موفق الربيعي عقد مساء أول من امس اجتماعين كرسا لمناقضة الهدنة في مدينة الصدر: الاول، مع بعض اعضاء الحكومة. والثاني، مع اعضاء اللجنة الوزارية للامن الوطني. وتم التفاهم على ابلاغ الاميركيين ضرورة التجاوب مع خطوة حسن النيات التي تمت بمبادرة شيعية. وقال اللامي الذي لعب دور الوسيط: "ما اردناه هو تفويت الفرصة على فلول النظام السابق والزرقاوي واتباعه والوقوف صفاً واحداً ضد العمليات الارهابية. وهذه الحجة هي التي اقنعت قيادات جيش المهدي بالتخلي عن مقاومة الاحتلال بالطريقة المسلحة التي كانت تسير عليها حتى الآن". وأضاف: "النتائج طيبة حتى الآن وهناك تجاوب واضح من الجانب الاميركي، لكنهم لم يعلنوا أي شيء رسمي حتى الآن". ورحب وزير الداخلية فلاح النقيب بعرض "جيش المهدي" مساهمة عناصره في حماية المؤسسات الحيوية في البلاد، إلا أنه قال إن أي دور للميليشيا المسلحة لا يمكن ان يتم إلا من خلال اجهزة الامن الرسمية. وعلمت "الحياة" ان قادة "جيش المهدي" لم يقدموا أي شرط مسبق لإعلان وقف النار، في وقت أكدت مصادر في مدينة الصدر وجود قلق حقيقي من احتمال قيام القوات الاميركية بعمليات دهم لاعتقال بعض المطلوبين "وهو ما سيؤدي الى ضربها والاشتباك معها". وبانتهاء ملف مدينة الصدر، تطوى صفحة من تاريخ الصراع السياسي الشيعي، لتبدأ حملة صراع سياسي داخل الطائفة نفسها.