Moncef Marzouki. Le Mal Arabe entre Dictatures et Integrismes: la Democratie Interdite. الداء العربي بين الديكتاتوريات والأصوليات: الديموقراطية المحظورة. L'Harmattan, Paris. 2004. 192 pages. اذا كانت بعض الكتابات تشف عن نفس كاتبها، فان قارئ هذا الكتاب لا يملك الا ان يقر بأنه يندر ان يحب أحد الديموقراطية ويكره الديكتاتورية حب مؤلفه للأولى وكراهيته للثانية. هذه الدرجة العالية من الوجدانية الذاتية التي يصدر عنها منصف المرزوقي لا تمنعه من ان يتعامل مع موضوعه بدرجة عالية من الموضوعية ايضاً. فهذا الناشط التونسي في مجال حقوق الانسان يوظف تكوينه المهني كطبيب ليشخص بدقة لامتناهية "الداء العربي": اي الديكتاتورية، وليحدد له الدواء الذي لا شفاء له الا به وحده: اي الديموقراطية. ولكن إن يكن هذا هو الداء وهذا هو الدواء، فلمَ تسميته في هذه الحالة ب"الداء العربي"؟ "عروبة" هذا الداء تأتي من استعصاء العالم العربي بملايينه الثلاثمئة وبدوله الثلاث والعشرين على موجة من الديموقراطية التي اجتاحت كل مكان من العالم باستثناء تلك المنطقة الممتدة "من الخليج الى المحيط". فتاريخ العالم، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية هو تاريخ التقدم الوئيد احياناً، والصاعق احياناً أقل، لموجة الديموقراطية. ومنذ السبعينات من القرن العشرين تسارع تدفق هذه الموجة لتكتسح عدداً كبيراً من بؤر الديكتاتورية في اميركاالجنوبية اولاً، ثم في اوروبا الشرقية ثانياً، وثالثاً واخيراً في افريقيا الجنوبية وآسيا الشرقية. وخلال الثلاثين سنة الأخيرة تبنت نحو من مئة دولة في العالم النظام الديموقراطي. وفي مطلع القرن الحادي والعشرين تفككت آخر بؤرة مستعصية للديكتاتورية في اوروبا هي البؤرة اليوغوسلافية. وباستثناء دينوصورات الشيوعية التي تمثل جزراً معزولة للديكتاتورية في كوبا وكوريا الشمالية وفيتنام، فان المنطقة العربية، كمنطقة كبرى من مناطق الاجتماع البشري في العالم، لا تزال هي وحدها المستعصية على تلك الظاهرة الكونية، علماً ان معظم بلدان هذه المنطقة، لا سيما منها الممتدة على ضفاف المتوسط، قد ادرك منذ الخمسينات في المشرق والسبعينات في المغرب، ذلك المستوى من التعقيد الاجتماعي الذي يجعل من الديموقراطية على حد تعبير الفيلسوف السياسي الفن توفلر، "مطلباً عاجلاً تقنياً، وليس فقط اخلاقياً". هذه المفارقة الكبرى التي تميز العالم العربي عن باقي عوالم العالم، تجد ما يعززها في مفارقة صغرى. فمؤلف "الداء العربي" يلاحظ ان القارة الافريقية شهدت في السنوات العشرين الاخيرة ظاهرة باعثة على القلق الشديد هي ظاهرة الشعوب التي بلا دول، كما هو واقع الحال اليوم في الصومال والكونغو وليبيريا وانغولا وساحل العاج، واخيراً هاييتي التي يصح وصفها بأنها امتداد اميركي لافريقيا. والحال ان ما يشاهد في العالم العربي هو عكس تلك الظاهرة، اي ظاهرة الدول التي بلا شعوب. فالطلاق ما بين جملة الديكتاتوريات التي استلحقت بها هذه الدول وبينها الشعوب العربية، قد بلغ اليوم درجة باتت معها هذه الشعوب تعتبر تلك الديكتاتوريات بمثابة قوى احتلال داخلي. فاليوم واكثر من اي وقت مضى، ما زال العرب رعايا، لا مواطنين. ولكن بخلاف واقع الحال في عهد الدولة العثمانية او في عهد الاحتلال الكولونيالي، فانهم لم يعودوا رعايا الدولة الاجنبية، بل رعايا الدولة الوطنية. فمواقعهم اليوم في دولهم اشبه ما يكون بواقع الفلسطينيين في الاراضي المحتلة وقد بلغ من يأسهم في بعض الحالات، كما في عراق صدام حسين، ان باتوا يطلبون الخلاص ولو عن طريق الاحتلال الاجنبي. هذا الانسداد التام للأفق، وغياب اي مشروع للتغيير في المستقبل المنظور، عدا المزيد من الغرق في هوة التخلف والفساد ونهب المال العام ومصادرة الحريات والقمع الفظ لكل معارضة وحرمان المجتمع المدني من ادنى حقوقه في التعبير نفسه، فضلاً عن العبادة الهذائية لشخص الرئيس وميل الديكتاتوريات الرئاسية الى تأسيس نفسها في "جمهوريات وراثية" او "جملكيات" على حد التعبير الذي ابتدعه المشارقة العرب، كل ذلك لم يترك من مخرج آخر للمجتمعات العربية، القانطة من كل امكانية للخلاص سوى اللجوء الى الارهاب، والى التعاطف مع القوى السياسية التي احتكرت في العقد الاخير ممارسته، اي الاصولية الاسلاموية. والحال ان هذا المخرج، كغيره من المخارج الكاذبة، لا يفعل اكثر من ان يغلق الدائرة بدل ان يفتحها. فالارهاب الاصولي الاسلاموي غدا، بيد الديكتاتوريات العربية القائمة، ذريعة وفزاعة في آن معاً. ذريعة لممارسة المزيد من القمع وفزاعة لتخويف القوى الديموقراطية في المجتمعات العربية من التمادي في طرح مطلبها الديموقراطي. وبمعنى من المعاني، يمكن القول انه لو لم توجد الاصولية الاسلامية، لبادرت الانظمة الديكتاتورية العربية الى اختراعها. والواقع انها قد اخترعتها فعلاً، في بداياتها على الاقل. فابتداء من السبعينات وبهدف مقاومة الاشتراكية والقومية العربية، عملت شتى الانظمة القائمة - بما في ذلك اسرائيل في الاراضي المحتلة - على تشجيع وتمويل الردة نحو التدين، لا سيما في المدارس والجامعات. ولئن انقلب اليوم السحر على الساحر، بعد ان ترعرعت الافعى في حضنه، فانه لن يفعل سوى ان ينتهزها فرصة جديدة ليتخذ من الاصولية التي طالما رعاها فزاعة لتخويف الفئات الاجتماعية والقوى الديموقراطية الحريصة على مكتسبات الحداثة، لا سيما منها ما يتصل بحقوق المرأة وقوانين الاحوال الشخصية. وعلى هذا النحو باتت الانظمة تداور الاصولية الاسلامية كسلاح للابتزاز، ولسان حالها يقول اما نحن واما هم، اما قمعنا السياسي واما ظلاميتهم الاجتماعية، اما رجال مخابراتنا وأقبيتهم واما ذوو اللحى وسكاكينهم! وبديهي ان المحصلة المنطقية لهذا الابتزاز هي تعليق تلبية المطلب الديموقراطي، المتزايد الحاحاً في المجتمعمات العربية، الى أجل غير مسمى. الى هنا نسجل لعاشق الديموقراطية وكاره الديكتاتورية الذي هو مؤلف "الداء العربي" انه ينتزع تمام اقتناعنا بصدد كل تشخيصه. ولكن الى هنا فقط. ذلك ان احد الفصول الختامية من كتابه يتخذ مداراً له بعد "الديكتاتورية العربية" و"الاصولية الاسلامية" ما لا يتردد في ان يسميه ب"الاصولية العلمانية" وهذا مفهوم يصعب علينا كديموقراطيين وعلمانيين معاً، ان نقبل به. اولاً لأنه مفهوم متفارق، بل متناقض ابستيمولجياً: فالعلمانية هي محض موقف مبدئي سالب يقول بالفصل بين السياسة والدين، وبحمولته الدلالية السالبة هذه، فانه لا يصلح ركيزة لأية اصولية، لأن الاصولية - ايما كانت - هي بالتعريف اثبات لمنظومة عقائد. ثم ان الكلام عن "اصولية علمانية" يضعها على قدم من المساواة لا من حيث الحمولة الدلالية فقط، بل ايضاً من حيث درجة الخطورة الايديولوجية والفاعلية التاريخية، مع "الاصولية الاسلامية". فالعلمانيون العرب - لنعترف بذلك - لا يزنون وزن ذبابة بالمقارنة مع وزن الفيل الذي يزنه الاصوليون الاسلاميون في المجتمعات العربية المعاصرة. واذا كنا نفهم تخوف مؤلف "الداء العربي" من ان يدخل العلمانيون العرب - على قلتهم - في اللعبة الابتزازية للديكتاتورية العربية، فاننا نخشى ان يتأدى الكلام عن "اصولية علمانية" الى الدخول في اللعبة الابتزازية للاصوليين الاسلاميين. الواقع ان العلمانيين العرب هم في كلتا الحالتين ضحايا اللعبة والخاسرون الرئيسيون فيها. فليس من كلمة رجيمة اليوم في الثقافة العربية المعاصرة مثل كلمة "العلمانية"، وأخشى ما نخشاه هو ان يكون الكلام عن "اصولية علمانية" ذريعة اضافية لابقاء العلمانية العربية اسيرة غيتو الرجامة، وهو الغيتو الذي بنى أسواره وأوصد ابوابه التواطؤُ الطويل الامد بين الديكتاتوريات العربية والاصوليات الاسلامية في ظل سياق ثقافي عام يحمل بعمق بصمة رثاثة الانتلجنسيا العربية ونزعتها الوسطية والشعبوية، وإضرابها عن أداء وظيفتها في ممارسة العقل النقدي.