عندما تقرر حكومة اسرائيلية يرأسها شخص مثل ارييل شارون"ابو الاستيطان"وأحد دعاة اقامة اسرئيل الكبرى، وصاحب التاريخ الاسود الحافل بالحروب والمغامرات والمجازر، والمعروف بالايمان بالقوة فقط لحل الصراع، ان اسرائيل ستنسحب من قطاع غزة وتخلي المستوطنات فيه وتضع هذا الهدف في مرتبة الاهداف الكبرى لاسرائيل، فهذا قرار مهم وتاريخي ولا يمكن التقليل من شأنه. صحيح ان القرار لا ينص على الانسحاب والاخلاء، لكنه يعني الانسحاب والاخلاء، وما منع النص بصراحة على ذلك ان القرار جاء كحل وسط للحفاظ على وحدة حزب ليكود والحكومة، بين شارون ومؤيدي خطة الفصل، ونتانياهو ومعارضي هذه الخطة. كما ان القرار يعني ان اسرائيل بدأت تدرك ان الاحتلال الاسرائيلي لغزة ليس مجدياً ولا مربحاً بل عامل استنزاف، وان القوة والقتل والمجازر وهدم المنازل، لم تحسم الصراع، ولن تستطيع حسمه مهما طال الزمن. خطة الفصل عن غزة محاولة اسرائيلية جادة جداً، وخطيرة جداً، لفك الارتباط بين الضفة وغزة، أي مقايضة غزة بالضفة واقامة عائق ضخم جديد امام حل الدولتين. اذ قال احد الوزراء الاسرائيليين المعارضين للخطة ان شارون أخبره لكي يقنعه بها، ان تضحيته بمستوطنات غزة تهدف الى عدم ابقاء أي اثر لقرار 242 . وقال له ايضاً: ان اسرائيل بعد الانسحاب والاخلاء من غزة وبعض مستوطنات الضفة تستطيع الارتياح والسكينة طوال خمسين سنة في تلميح لا تنقصه الصراحة الى انه ينوي الاحتفاظ بالضفة من خلال تكريس الاحتلال والاستيطان والتهويد والجدار. وحتى نفهم خلفية خطة الفصل واسبابها وأهدافها، علينا ان نتعرف على آراء البروفسور ارنون سوفير خبير الجغرافية والديموغرافية و"الاب الروحي"لهذه الخطة. فسوفير هو الذي بلور الخطة عام 2001، وبدأ يقرع جرس أنذار بشأن القنبلة الديموغرافية منذ عام 1975. وهو تحدث عن آرائه بكل صراحة في مقابلة اجرتها معه وسائل الاعلام الاسرائيلية اواخر ايار مايو الماضي. تقوم نظريته على ان الساعة الديموغرافية تتكتك، وانه اذا لم تقم اسرائيل باتخاذ قرارات جريئة فإن العد التنازلي لاسرائيل سيبدأ. فالفلسطينيون بسبب كثرة نسلهم سيصبحون غالبية في الارض الواقعة ما بين نهر الاردن والبحر الابيض المتوسط، وسيقضون على اسرائيل بوصفها دولة يهودية اعتماداً على رحم المرأة الفلسطينية. ولتفسير نظريته يقول سوفير ان تهجير الفلسطينيين كما يطرح اليمين المتطرف الاسرائيلي جنون وغير ممكن لأن المجتمع الدولي لن يسمح به، وان التوصل الى حل على قاعدة وثيقة جنيف جنون، كما يطرح اليسار الاسرائيلي، لأن اسرائيل لن تقبل به. وبالتالي لا يمكن التوصل الى سلام بل الى"ادارة نزاع". الفلسطينيون، يتابع سوفير، لن يقبلوا ما نفرضه عليهم. فاسرائيل تعرض عليهم سجوناً اسمها غزة والخليل ونابلس. وكل واحد من هذه السجون معزول عن البقية. واليهود لن يسمحوا للفلسطينين بامتلاك جيش ولا بحق العودة للاجئين. ويتساءل سوفير محقاً: لماذا على الفلسطينين التوصل الى اتفاق معنا اذا كان هذا هو اقصى ما يمكن ان نعرضه عليهم؟ علينا ان نقتل ونقتل ونقتل... تأسيساً على ما سبق يرى سوفير ان خطة الفصل احادي الجانب، التي ستعتمد على القوة لفرضها، هي الحل الوحيد. وهي خطة لا تضمن السلام بل تضمن قيام دولة يهودية - صهيونية ذات غالبية من اليهود، كما ستضمن امراً مهماً هو هجرة الفلسطينين الطوعية. كيف ذلك؟ يجيب بأن غزة بعد الفصل ستكون كارثة، وستدور حرب مروعة على السياج، وستتواصل عمليات قتل الفلسطينين حتى تنتهي اسطورة الديموغرافيا، وتصل الدراما في رؤية سوفير الى ذروتها بقوله: ان اهل غزة المغلقة، ستكون حياتهم كارثة انسانية، وسيتحول هؤلاء الاشخاص الى حيوانات اكبر مما هم عليه اليوم، بمساعدة من اسلام متشدد وغير عاقل، وسيصبح الضغط على الحدود فظيعاً وستكون هذه حرباً مريعة. وعلى اسرائيل ان ترد على كل صاروخ يطلقه الفلسطينيون ب10 صواريخ، تؤدي الى ان اطفالاً ونساءً سيقتلون ومنازل ستدمر. وهكذا، يتابع سوفير، اذا اردنا البقاء احياء فسيكون علينا ان نقتل ونقتل طوال اليوم وكل يوم. واذا لم نقم بالقتل ، فإننا سنتوقف عن البقاء. الشيء الوحيد الذي يخشاه سوفير ويهمه هو كيفية ضمان ان الرجال والفتية الاسرائيليين الذين سيذهبون لتنفيذ القتل سيتمكنون من العودة الى عائلاتهم وان يكونوا بشراً طبيعيين! ولضمان تحقيق الهجرة الطوعية، دعا سوفير الى عدم تمكين العمال الفلسطينيين بعد الفصل من العمل في اسرائيل فهم عندما لا يجدون العمل في تل ابيب وتصبح حياتهم في غزة جحيماً لا يطاق سيفكرون بالهجرة والبحث عن العمل في العراق والكويت ولندن وبقية انحاء العالم. وحتى لا يستخف أحد بالافكار التي يوردها سوفير عليه ان يطلع على نص خطة الفصل بصيغها كافة، ليرى انها اعتمدت بصورة شبه كاملة على ما طرحه سوفير. فالخطة تتحدث عن ان هدفها هو"جلب واقع امني افضل، وحقائق اقتصادية وديموغرافية ديبلوماسية"وجاء فيها"انه من الواضح بأن بعض اجزاء يهودا والسامرة الضفة الفلسطينية بما فيها مراكز الوجود الاستيطاني اليهودي المكثف، تجمعات مدنية، مناطق امنية واماكن سيكون لاسرائيل فيها مصالح اخرى ستبقى جزءاً من دولة اسرائيل". وتؤكد الخطة ان"دولة اسرائيل ستواصل بناء السياج الامني بما يتناسب مع قرارات الحكومة ذات الصلة"، وانها"ستشرف وترابط على الحدود الخارجية للقطاع من اليابسة، وستسيطر بشكل مطلق على المجال الجوي للقطاع وستواصل القيام بعمليات عسكرية في المجال المائي لقطاع غزة". وتضيف الخطة:"تحتفظ اسرائيل لنفسها بالحق الاساسي في الدفاع عن النفس، بما في ذلك القيام بخطوات وقائية وكذلك استخدام القوة ضد التهديدات التي ستنشأ في قطاع غزة"، وهذا يضمن لها ممارسة القتل كل يوم، كما يضمن حدوث الحرب المروعة التي تحدث عنها سوفير. وجاء في الخطة كذلك"ان دولة اسرائيل تطمح لتقليص عدد العمال الفلسطينيين الذين يدخلون اسرائيل وصولاً الى وقف دخولهم بالكامل الى اسرائيل"حتى تتحقق الكارثة الانسانية التي توقعها ونعق بها سوفير. وحتى نأخذ آراء سوفير بكل جدية علينا ان نعرف ان شارون طلب الاجتماع به يوم انتخب رئيساً للوزراء، وذلك للتعرف الى خطته للفصل التي طرحها بصورة مبلورة منذ العام 2001. وكما قال سوفير فإن افكاره لم تثر الاهتمام في البداية، لكنها وجدت كل الاهتمام منذ شهور لدرجة ان المراقب لمكتبه، كان يرى عدد السياسيين الذين اتوا لزيارته من اعضاء كنيست ووزراء وقادة احزاب وقادة عسكريين وامنيين. خطة معادية للسلام بعد قراءة خطة الفصل بكل الصيغ، يتضح كم هي بعيدة عن السلام بل هي خطة معادية للسلام. وشارون بإقرارها لا يدخل التاريخ كما يتمنى بل يحاول ايقاف عقارب التاريخ. وذلك يتضح مما يأتي : اولاً: خطة الفصل تقفز على اسس وجوهر ومرجعية عملية السلام والمفاوضات والقانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية بما في ذلك الاتفاقات الفلسطينية- الاسرائيلية الثنائية، وخريطة الطريق، فكل ما في الخطة، اضافة الى وجود نص واضح في الرسالة التي سلمها شارون لبوش اثناء لقائهما في الرابع عشر من نيسان ابريل الماضي، يدل الى ان خطة الفصل خطة مستقلة . ثانياً: خطة الفصل تسقط الحل المتفاوض عليه، وتلغي الطرف الثاني من الصراع، والذي هو الشعب الفلسطيني وقيادته الشرعية والوطنية، وتفصل حلاً اسرائيلياً احادياً وتسعى الى تطبيقه من جانب واحد، وما على الفلسطينيين سوى تكييف انفسهم على مقاس شروطه واهدافه، وذلك اذا ارادوا الاعتراف بهم كشريك في مرحلة لاحقة . فقد نصت الخطة بأنه لا يوجد شريك فلسطيني حالياً. واحد اهداف الخطة كما اعلن شارون بعظمة لسانه توجيه ضربة قاصمة للفلسطينين!! ثالثاً: خطة الفصل، تضرب في الصميم وحدة الارض الفلسطينية المحتلة عام 1967، كما تقسم الشعب الفلسطيني، وتتجاوز كلياً وحدانية التمثيل الفلسطيني، الامر الذي يهدد اذا ما وجدت هذه الخطة طريقها الى النجاح الى اعادة القضية الفلسطينية عشرات السنين الى الوراء، الى مرحلة الضياع والتشتت وسيادة سياسات الاحتواء والبدائل والوصاية على الشعب الفلسطيني. رابعاً: تكرس خطة الفصل مشروع شارون للحل الانتقالي طويل الامد متعدد المراحل . وتقفز عن ضرورة التوصل الى اتفاق نهائي، بما يساعد اسرائيل على تصفية القضايا الاساسية التي تتعلق بالقدس والحدود واللاجئين والاستيطان، عن طرق كسب الوقت وخلق امر واقع / احتلالي استيطاني عنصري في الضفة يجعل أي مفاوضات تتناول الوضع النهائي مستحيلة او محكومة بحقائق على الارض لا يمكن تجاوزها. خامساً: تقضي خطة الفصل على أية امكانية لاقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة عاصمتها القدس تقوم على الاراضي المحتلة عام 1967، واقصى ما يمكن ان تؤدي اليه، هو قيام"دويلة فلسطينية"في غزة تتفاوض مع اسرائيل على مصير الضفة، وتصل بعد عمر طويل الى بلورة واقرار خطة تقاسم وظيفي فلسطيني _ اسرائيلي، ويمكن ان يشارك بها اطراف اخرى، تقوم فيها"الدويلة الفلسطينية"بالاشراف على شؤون السكان وبعض الوظائف الاخرى، بينما اسرائيل تحتفظ بالسيادة والسيطرة على الامن والدفاع والشؤون الخارجية! ... على جثة"خريطة الطريق" على رغم كل ما سبق، تتحول خطة شارون للفصل احادي الجانب، بسبب تعددية الموقف الفلسطيني وغياب استراتيجية فلسطينية واحدة والعجز العربي والسيطرة الاميركية على السياسة الدولية، الى خطة دولية بعد اقرارها من جانب اللجنة الرباعية الدولية، حتى بعد اقرارها بصورة ملغومة داخل الحكومة الاسرائيلية اي بإقرارها من ناحية المبدأ فقط، فإنها ستحتاج الى قرار جديد ينص على الانسحاب واخلاء المستوطنات بعد تسعة اشهر. وتم تقسيم عملية الانسحاب والاخلاء الى اربعة مراحل بعدما كانت في الخطة الاصلية مرحلة واحدة، وكل مرحلة من المراحل الاربعة بحاجة الى مصادقة جديدة من الحكومة الاسرائيلية. وهذا كله يجعل مصير الخطة مجهولاً ومرتبطاً بسير الخلافات والتجاذبات داخل ليكود والحكومة الاسرائيلية، وبقاء او عدم بقاء شارون على سدة الحكم في اسرائيل. فاذا لم يبق وخلفه نتانياهو سيعني ذلك ان الخطة ستتعرض لمزيد من الشروط الاسرائيلية مما يجعلها أكثر فأكثر دعوة مفتوحة الى الحرب وليست فرصة تاريخية لصنع السلام. واذا استمر شارون وضم حزب العمل الى حكومته بدلاً من حزبي الاتحاد الوطنيالذي اخرجه شارون من الحكومة والمفدال الذي استقال اثنين من قادته من الحكومة وبقي فيها البقية سيمضي في خطته الى النهاية. ان اعلان اللجنة الرباعية الدولية عن ترحيبها بخطة الفصل احادي الجانب، عن طريق النظر اليها كجزء من خارطة الطريق، لا يغير من طبيعتها ولا من حقيقتها واهدافها، ولا يغير ما يجري عملياً على ارض الواقع، والذي يوضح انها خطة احتلالية عنصرية توسعية تقدم"الانسحاب"من غزة كطعم لتكريس احتلال الضفة. كما ان اعلان السلطة الوطنية الفلسطينية عن استعدادها لتحمل مسؤولياتها عن جميع الاراضي التي قد يتم الانسحاب الاسرائيلي منها، هو امر ضروري وصحيح، لكنه لا يكفي وقد يظهر كأنه تسليم بخطة شارون والامر الواقع الذي سينجم عنها. ان المصلحة الوطنية الفلسطينية تفرض اتخاذ موقف قاطع يرفض خطة شارون والعمل والدعوة لاسقاطها قبل ان تبدأ عملية تطبيقها وهذا لا يعني رفض الانسحاب الاسرائيلي، وانما فصلاً ما بين الترحيب بالانسحاب ورفض خطة الفصل. كما تفرض المصلحة الوطنية الفلسطينية اتخاذ موقف جوهره ربط مشاركة السلطة بأي خطة او خطوات مقبلة بمدى قدرتها على انجاز الحقوق الوطنية الفلسطينية المكرسة في قرارات الشرعية الدولية ومرجعيات عملية السلام المستندة الى قراري مجلس الامن 242 و338 ومبدأ الارض مقابل السلام . اما الاكتفاء بالحديث عن ربط خطة شارون بخريطة الطريق، أو بوضع قائمة طويلة من الشروط المستحيل ان يأخذ بها شارون، او بتركيز الاهتمام فقط بتأمين المشاركة الفلسطينية التي ترتبط بالاعتراف بالحقوق الفلسطينية لا معنى لها سوى الاستعداد للتكيف مع الحل الاسرائيلي المنفرد عن قصد او بدون قصد! لقد اضطر شارون لبلورة خطة الفصل احادي الجانب في قطاع غزة، لأنه لم يحقق وعده للناخب الاسرائيلي بتوفير الامن والسلام، ولم يهزم الفلسطينين عسكرياً، ولم يغير وعيهم وقراراتهم ولا عزيمتهم واصرارهم على تحقيق الحرية والاستقلال. وما كان لشخص مثل شارون ان يقدم على ما أقدم عليه لولا أنه ادرك انه لن يستطيع دحر المقاومة الفلسطينية عن طريق القوة، وان اسرئيل ستواجه الحل في نهاية المطاف. فالعوامل الضاغطة لفرض الحل اقليمياً ودولياً تتزايد. ولكن الحل المفروض على اسرائيل في هذه الحالة سيكون حلاً مؤلماً لها، ستضطر فيه الى الانسحاب من الاراضي المحتلة عام 1967، ويمكن من خلاله ان تفقد الكثير. ولكن الحل الذي تبادر اسرائيل الى طرحه، وتسعى الى تطبيقه ستقدم من خلاله القليل، وتأخذ الكثير. ان من يبادر يمسك بزمام الامور، ولا تملك الاطراف سوى: اما رفض مبادرته والظهور بصورة سلبية، او تقدم على تعديل مبادرته وبالتالي تضطر الى قبولها؟ وفي الحالين يبقى المبادر هو الرابح دائماً. فهل نتعظ ونعرف اهمية المبادرة؟ ونبادر بحيث تصبح المبادرة الفلسطينية في مواجهة المبادرة الاسرائيلية! * كاتب فلسطيني.