تعتبر الشريعة الاسلامية خاتمة الرسالات السماوية التي تحمل الهداية الإلهية للبشر وتسعى لإسعادهم في معاشهم ومعادهم. وتشكل هذه الشريعة في مجموعها عقيدة وفقها وآداباً وأخلاقاً كلاً متكاملاً وتصوراً شاملاً للحياة به تنتظم علاقة الانسان بربه وعلاقته بالكون المحيط به وعلاقته بمجتمعه الذي يعيش فيه. وبهذا يقوى الاسلام على مسايرة الحياة بشتى تلوناتها ومنعرجاتها نظراً لما يفي به من آليات لاستيعاب المستجدات والأفكار والثقافات وإعادة صياغتها وتنزيل حكم الله عليها من خلال عرضها على ثوابت الدين التي عليها يتأسس ولها يدعو. ومن أسباب هذا البقاء والشمول التي امتاز بها الشرع الاسلامي ما جعل الله فيه من عوامل السعة والمرونة في النصوص، وما شرع لعلمائه من حق في النظر والاجتهاد فيما ليس فيه دليل قطعي من الاحكام. وليست هذه الاحكام المستنبطة من نصوص الوحي تشريعاً مستقلاً من الفقهاء، بل هي مجرد ما فهموه من هذا المصدر الإلهي سواء على موجب ضوابط اللسان العربي المبين أو على موجب أنواع الاستدلال المسموح بها في الشرع. فعمل الفقهاء ينحد في بذل الجهد او تحمل الجهد من اجل الوصول الى فهم نصوص الكتاب والسنّة. وتعتبر خطة الإفتاء من اجل الخطط الشرعية وأؤكد فروض الكفايات التي أولاها علماء الاسلام اهتماماً بالغاً، وأثروها بحوثاً ودراسات مستفيضة، نظراً لما يتوقف عليها في الواقع من انتظام مصالح الناس في أمور دنياهم وهدايتهم في مسائل دينهم. ولقد انعقد اجماع الفقهاء على رغم اختلاف مذاهبهم على ان للشريعة الاسلامية حكماً في كل فعل يصدر من الانسان وان المرء لا يحل له ان يقدم على عمل حتى يعلم حكم الله فيه ويسأل العلماء. ولقد بينت نصوص القرآن والسنّة جملة من الحوادث والحالات لقضايا مخصوصة اقتضت بيان احكامها حين وقوعها، كثباتها واستمرارها على الدوام. لكن اغلبها لم تبينه تلك النصوص وإنما أقيمت عليه الدلائل والصوى لتظهر احكامه وتنجلي حين الحاجة. فيهتدي بها أهل الذكر من العلماء ويسترشدون بها ليتعرفوا حكم كل ما يقع ويحدث مع مرور الأيام وحولان الحادثات. والإفتاء هو بيان حكم الله تعالى بمقتضى الأدلة الشرعية على جهة العموم والشمول. وتتعلق الفتوى باعتبارها حكماً شرعياً غير ملزم بالنازلة، أي الأمر الحادث الذي يتطلب نظراً واهتماماً بتنزيل الاحكام على الوقائع وصولاً لاستنباط الحكم المستجد. والفارق بين الاجتهاد والفتوى واضحٌ على هذا الأساس. يقول الشاطبي: "المفتي قائم في الأمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم والدليل على ذلك أمور: منها النقل الشرعي في الحديث "ان العلماء ورثة الأنبياء وان الانبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم". والثاني انه نائب عنه في تبليغ الاحكام لقوله: "ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب". والثالث ان المفتي شارع من وجه لأن ما يبلغه من الشريعة إما منقول عن صاحبها وإما مستنبط من المنقول، فالأول يكون فيه مبلغاً والثاني يكون فيه قائماً مقامه في انشاء الاحكام وإنشاء الاحكام إنما هو للشارع. فإذا كان للمجتهد انشاء الاحكام بحسب نظره واجتهاده فهو من هذا الوجه شارع واجب اتباعه والعمل على وفق ما قاله وهذه هي الخلافة على التحقيق. الى ان قال: "وعلى الجملة فالمفتي مخبر عن الله كالنبي وموقع للشريعة على أفعال المكلفين بحسب نظره كالنبي ونافذ أمره في الأمة بمنشور الخلافة كالنبي ولذلك سموا أولو الأمر وقرنت طاعتهم بطاعة الله والرسول". الموافقات، 4/226-246. ومما لا شك فيه انه يتعين اعتبار اقوال العلماء على كل مسلم سواء كان مقلداً او مجتهداً وذلك نظراً لما تؤسسه من أدلة وتوجهات قد تتنامى صعداً لتضحى سلطة مرجعية إجماع الصحابة وعلماء الأمة. ويستوي في ذلك الإلزام المقلد الصرف الذي يسترشد بأقوال علماء مذهبه، ولا يتجاوز منصوصها وجوباً، او المجتهد المطلق الذي يلزمه هو الآخر الرجوع كل حين الى أقوال سلفه من العلماء لئلا يخرق اجماعهم، وبالأحرى مجتهد المذهب ومجتهد الترجيح. هكذا ظل الإفتاء باباً متسعاً ومنهلاً موروداً باعتباره آلية تنتج الاحكام من طريق الربط المؤسس بين السياقات المتغيرة والمبادئ الثابتة، إذ "الوقائع - كما يقول ابن رشد - بين الاشخاص غير متناهية والنصوص والأفعال والإقرارات متناهية ومحال ان يقابل ما لا يتناهى بما يتناهى". وتتعدد الشروط والضوابط التي ارتآها علماء الشرع ضرورية لمن يضطلع بخطة الافتاء ويبت في أمور المسلمين. ولا شك ان هذا التشديد الصارم على المتصدرين لهذه الخطة الشرعية، يرجع بالأساس الى خطورة هذا المنصب ودافع المحافظة على امر الدين فالمفتي قائم في الأمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم ونائب عنه في تبليغ الأحكام. ويمن تقسيم الشروط المطلوبة في المفتي الى شرطين: شرط علمي: ومقتضاه ان الأصل في المفتي ان يكون واصلاً لدرجة الاجتهاد إذ أغلب العلماء قد قالوا بضرورة الاجتهاد طارئة غير ان المعرفة المطلوبة من هؤلاء المفتين قد تختلف كثيراً عن ما هو المثال المرتجى نظراً لاختلاف الفقهاء في التحصيل والضبط والملكة وسعة الاطلاع، وتباين المجتمعات في التفقه والتيقظ والتعمق في علوم الشرع. اما الشرط الثاني فأخلاقي وهو العدالة. وقد اشترطها الفقهاء لئلا يرتكب المفتي ما لا تجوز به الفتوى قصداً او تساهلاً. ويعرف العالم الإسلامي اليوم تنامياً ملحوظاً في انماط الخطاب الإسلامي وفي المسلكيات والتصورات. ولا غرابة في ذلك ما دام المسلمون يتأثرون بما يحيط بهم من ثقافات تسود العالم وتميزه. فالعالم اليوم يعرف برمته والغرب بالخصوص الكثير من النحل المختلفة المشارب والمذاهب التي تفاحشت إثر احتكاك وتداخل ثقافات الشعوب المختلفة والتقدم العلمي الكبير والقلق الحضاري الطاغي. كما ان انماط تحدي "الآخر الغالب" كثر ما نجم عنها تشتت كبير في نمط الاستجابات والردود ظهر على جميع الأصعدة وفي شكل اكثر حدة على المستوى الديني. لهذا بدت آراء جديدة تسود في مواطن كثيرة من بلاد الإسلام تدعو الى التخلي عن الموروث الفقهي إذ هو من كسب القرون التي خلت. وكانت الدعوة الإحيائية من اهم هذه الآراء. وهي ترى انه بالرجوع الى الأصول اي الى الإسلام في صفائه ومصادره الأولى يتجدد حال الأمة وتنهض من كبوتها وتقوى على رد الصاع صاعين لمن يريد بها الشر او يسمها سوء الهوان. وقد اخذت هذه الدعوات "الإحيائية" من التراث موقفاً خاصاً يقوم على اساس الرفض المؤسس لآراء الفقهاء السابقين والاعتماد المباشر على نصوص الوحي والأخذ منها في الدرس والتدريس والإفتاء والحكم. فأصبحت الفتاوى تأتي من كل مكان من دون اي نظام ومن مرجعيات مختلفة وفهوم متفاوتة. فكان ان سبب ذلك بالغ الضير للمسلمين وشديدة البلبلة لعقول الشباب. ان تجاوز المذاهب الفقهية من دون الإفادة منها او تقييمها وأخذها في الاعتبار ليبدو خللاً كبيراً حدث في البنيان العقدي والحضاري للمسلمين. فهذه المذاهب هي الطرق الذي ذهب إليها ائمة الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية اعتماداً على مجموعة من الأصول والمبادئ التي أذن فيها الشارع او وضع عليها الدلائل والأمارات. ولقد نضجت هذه المذاهب الفقهية بفعل التحوير والمراجعة الدقيقين اللذين تناولاها عبر الأجيال. وهي تمثل بفروعها الكثيرة وأصولها المنتجة رصيداً فكرياً كبيراً للأمة الإسلامية يدل على غنى الشريعة وصلاحيتها. ولقد اتجه اكثر المفتين المعاصرين النابذين للفروع الفقهية الى اعتماد مبدأ المصالح. وهو يقوم على تشريع الحكم في واقعة لا نص فيها ولا إجماع، بناء على مراعاة مصلحة لم يرد عن الشارع في اعتبارها او إلغائها اي دليل ذلك ان وسائل المنفعة تعطى حكم المنفعة ذاتها. والمصالح من الأصول المرنة ذات القيمة التشريعية الكبرى، سواء في كونها مستنداً للكثير من الأحكام العملية التفصيلية او في سلطانها الواسع في عملية استنباط الأحكام وتجديدها وتعديلها اطلاقاً وتقييداً، وتعميماً وتخصيصاً. * أستاذ جامعي من موريتانيا.