تصدر خلال أيام ترجمة عربية لرواية الكاتب أمين معلوف الجديدة وعنوانها "بدايات" عن دار الفارابي في بيروت ودار "أينب" في الجزائر. عنوان الرواية بالفرنسية هو ORIGINES والعنوان بالعربية اختاره الكاتب نفسه وقد عمل مع المترجمة نهلة بيضون على إثبات الوثائق الاساسية والرسائل وسواها مما ورد مترجماً من العربية الى الفرنسية. والرواية التي سرعان ما لقيت رواجاً فور صدورها بالفرنسية تدور حول "جذور" أو "أصول" عائلة المعلوف ولكن في صيغة سردية تجمع بين التخييل والتوثيق التاريخي. هنا مقاطع من الفصل الأول وعنوانه "تلمّسات". - 1 - أولاً، بدأ بحثي بداية خاطئة: ذلك المشهد الذي عشته في سن الثلاثين، وكان لا يفترض بي أن أعيشه أبداً ولا أن يعيشه أي من أبطال الرواية أصلاً. كلما اعتزمت الحديث عنه، أفلحت في إقناع نفسي بأن الوقت لم يحن بعد. وبالطبع، حان الوقت، لا بل تأخر. كان يوم أحد، في الصيف، بإحدى قرى الجبل. توفي والدي قبيل الفجر وعهد إليَّ بأفظع المهام على الاطلاق: الذهاب الى بيت جدتي والإمساك بيدها لحظة يعلنون لها أنها فقدت أحد أبنائها. كان والدي ثاني أولادها، واتفق الجميع أن يتصل بها ابنها البكر هاتفياً ويعلمها بالنبأ. تبدو الأمور طبيعية إذا قيلت على هذا النحو. ولكن طبيعية الأمور في أسرتي مجرد مظاهر. فذلك العم مثلاً الذي بلغ من العمر السابعة والسبعين، رأيته مرة واحدة في حياتي قبل ذلك الصيف... وصلت إذن في الصباح، وعانقتني جدتي طويلاً كعادتها، ثم طرحت عليّ، بالضرورة، السؤال الذي كنت أخشاه أكثر ما أخشى: كيف أبوك اليوم؟ كان جوابي جاهزاً، وقد تمرَّنت على قوله طوال السكة: - أتيت مباشرة من البيت، ولم أمر بالمستشفى... كانت تلك الحقيقة بعينها، وكانت تلك أحقر الأكاذيب. بعد بضع دقائق، رنّ الهاتف. عادة، كنت أستعجل لرفع السماعة لئلا تضطر جدتي للنهوض. أما في ذلك اليوم فاكتفيت بسؤالها ان كانت تفضل أن أجيب بالنيابة عنها. - لو تقرِّب لي الهاتف... فعلت، ورفعت السماعة لأناولها إياها. لم أسمع بالطبع ما يقوله مخاطبها، ولكنني لن أنسى أول جملة تفوهت بها جدتي: - أجل، أنا جالسة. كان عمي يخشى أن تكون واقفة، فتتهاوى تحت وقع النبأ الذي يهمُّ بإعلانه على مسمعها. وأذكر كذلك نظرتها وهي تجيب: "أجل، أنا جالسة". كانت نظرة محكوم بالإعدام يلمح، بعيداً، شكل المشنقة، ولدى التفكير بالأمر لاحقاً، قلت لنفسي انها هي، بالتأكيد، التي أوصت أولادها أن يتأكدوا من جلوس الشخص قبل إعلامه بفاجعة، ولما طرح عليها ابنها السؤال، أدركت هي أن الفاجعة قد حصلت. فبكينا، أنا وهي، وقد جلس أحدنا قرب الآخر، وتعانقت أيدينا لدقائق طويلة. ثم قالت لي: - ظننتهم سيخبرونني أن أباك قد استفاق. - لا، فلحظة سقط أرضاً، انتهى كل شيء. كان والدي قد تهاوى على الطريق العام، قرب سيارته، قبل عشرة أيام. وسمعه الشخص الذي كان برفقته يتأوه متعجباً فقط. سقط مغشياً. وبعد بضع ساعات، رن الهاتف في باريس. أعلمني أحد الأقارب الذي لم يدع لي مجالاً للتفاؤل: "حالته سيئة بل متدهورة". ألفيت والدي، بعد وصولي على متن أول طائرة، في غيبوبة. كان يبدو غافياً قرير العين، يتنفس ويحرك أحياناً يده، فيصعب على المرء أن يتخيل بأنه قد فارق الحياة. توسلت الى الأطباء أن يفحصوا الدماغ مرة ثانية، وثالثة، دون جدوى. فتخطيط الدماغ كان مسطحاً لأن النزيف كان قاتلاً. وسلّمت بما جرى... تمتمت جدتي التي لم يجرؤ أحدهم حتى الحين على إعلامها بالحقيقة: - كان لديّ بعض الأمل. وسرعان ما غرقنا في الصمت، ملاذنا. لا يتكلم أهلي كثيراً، ولو تكلموا، فببطء، وبحرص دائم على التحفظ، واللباقة، والمهابة. وهذا مزعج أحياناً للآخرين، أما هذه العادة فقد تجذّرت لدينا منذ عهد بعيد، وسوف نظل نتوارثها. إلا أن أيدينا ظلت متلاحمة. ولم تفلتني إلا لنزع نظاراتها، وتنظيفها بثنية ثوبها. انتفضت وهي تهمُّ بوضعها ثانية: - أي يوم نحن؟ - 17 آب / أوت. - جدك أيضاً توفي في 17 آب / أوت! قطبت جبينها تقطيبة كنت ألمحها على وجهها في بعض الأحيان. ثم بدا عليها أنها عادت من حالة التمرد الى حالة الإذعان، ولاذت بالصمت. احتضنت يدها في يدي ثانية، وشددت عليها بدون أن أنبس ببنت شفة بدوري. ولئن كان الحزن نفسه يعتمل في قلبنا، فذهننا لا يحتوي على الصور عينها. لم أفكر كثيراً بجدي في ذلك اليوم، ولا بالتأكيد في الأيام القادمة. كان في ذهني أبي، بوجهه العريض، ويديه الشبيهتين بيدي فنان، وصوته الهادئ، ولبنانُه، وأحزانه، ثم الفراش الأخير الذي غرق فيه في سبات عميق... كان رحيله عندي، وعند أهلي، بمثابة كارثة عاطفية، وكونه "تواعد"، نوعاً ما، مع والده في تاريخ محدد، لم يشكل لدى الذين ذكرت هذا الأمر أمامهم سوى مناسبة لتأمل مقتضب وسخيف حول سخرية القدر وأحكام السماء الخفية. هذا ما حصل، وانتهت الحكاية! كان لا بد من تتمة لم تحصل. وكان لا بد أن أثير مع جدتي، يوماً ما، حديثاً مطولاً عن ذاك الذي كان شريك حياتها، ولكنها توفيت بعد خمس سنوات دون أن نعاود الحديث بالأمر. والحق يقال إننا لم نعد نعيش في البلد نفسه، فقد كنت مقيماً في فرنسا، وهي لن تغادر لبنان أبداً. إلا أنني كنت أعود لزيارتها بين الحين والآخر. وكان بوسعي أن أنتهز فرصة لسؤالها عنه. لم أفعل. وبكل صراحة، لم يخطر حتى الأمر ببالي. بكل بساطة... كان سلوكاً غريباً لا بد أن يجد له تعليلاً في لغة النافذين الى مكنونات النفوس، وسوف أندم عليه حتى مماتي. فأنا الذي أتميز بطبعي المنقّب، أنا الذي أقوم خمس مرات عن المائدة للتحقق من أصل كلمة ما، أو من تهجئتها الصحيحة، أو من تاريخ مولد موسيقار تشيكي، كيف أظهرت، ازاء جدي، تلك اللامبالاة المفجعة؟ مع العلم انني سمعت، منذ نعومة أظفاري، عن هذا الجد - واسمه بطرس - قصصاً ونوادر يفترض بها أن تثير فضولي. لا سيما تلك الرواية: في أحد الأيام، وقع أحد أشقائه، وكان يعيش في كوبا، في محنة، فكتب لشقيقه، أي جدي، رسائل محمومة يرجوه فيها ان يهبَّ لإنقاذه. وقد وصلت رسائله الأخيرة محترقة الزوايا، دليلاً على الخطر الماحق وشدة المحنة. فتخلى جدي عن وظيفته وأبحر، وتعلم الاسبانية في أربعين يوماً أمضاها على متن الباخرة، فتمكن لدى وصوله الى كوبا من المثول أمام المحاكم وانتشال شقيقه من كبوته. هذه الرواية سمعتها منذ أبصرت النور، ولم أسع أبداً للتحقق من كونها مجرد أسطورة متبجحة كتلك الأساطير التي يحلو للعائلات أن تردِّدها، أو من المآل الذي آلت اليه مغامرة أجدادي الكوبية. والآن فقط بتُّ أعلم... قيل لي أيضاً: "كان جدك شاعراً عظيماً، ومفكراً جريئاً، وخطيباً مفوَّهاً، يأتي الناس من كل حدب وصوب للاستماع اليه. وللأسف، فقد ضاعت كل كتاباته!". ومع ذلك، كان يكفي أن أرغب بالبحث عن تلك الكتابات! فجدي جمع كل أوراقه وقام بتأريخها، ونسخها بخط أنيق، وحتى آخر يوم في حياته، اهتم بنصوصه -، ولطالما أراد أن يطلع عليها الآخرين. ولكنه توفي ولم ينشر منها شيئاً، كما يموت بعضهم بدون أن يتركوا وصية، وظل مغموراً. وثمة شائعة تتردد كذلك ومفادها أن بطرس لم يشأ أبداً أن يعمِّد أولاده، وكان لا يؤمن بالله ولا بالشيطان، ولا يجد حرجاً في قول ذلك جهاراً، ويثير في القرية فضيحة دائمة... وفي هذا المجال أيضاً، لم أسع يوماً لتحري الأمر. ففي أسرتي، يحرص الجميع على التكتم حول هذه المسألة. هل أجرؤ وأعترف أيضاً أنني أمضيت كل شبابي في لبنان، ولم أذهب مرة واحدة لزيارة ضريح جدي، وأصلاً، لم أعرف أين يوجد ضريحه، بل لم يعترني الفضول للبحث عنه. لدي أسباب كثيرة للاعتراف بالذنب، وسوف أمتنع عن ذكرها - فما الفائدة؟ وأكتفي بالقول انني كنت بقيت على الأرجج الى الأبد سادراً في جهلي لو لم يتقاطع مسار أجدادي مع مساري، في باريس نفسها، بواسطة منعطف. - 2 - بعد هذه البداية الزائفة - إنما إثر انقضاء سنوات عديدة! - ثمة بداية أخرى، حقيقية. ولا يرجع الفضل فيها إليّ، أو بالكاد. لا شك انني أعربت، منذ رحيل والدي، عن رغبتي بمعرفة المزيد عن تلك الفصول من ماضي أسرتي، ولا شك انني طرحت على بعض الأقارب سبعة أو ثمانية أسئلة اضافية حول جدي أو أسلافي الآخرين، إنما لم أفعل من قبيل ذلك الهوس الدؤوب الذي يجتاحني بانتظام لدى انصرافي الى أبحاثي الحقيقية. كما لو انني أستعيد، بمجرد أن يتعلق الأمر بأصولي، شيئاً من تلك السكينة الوراثية ومهابة الصمت العقيمة. يعود الفضل، كل الفضل، الى ذلك الصديق الديبلوماسي الذي سألني يوماً، في معرض حديثنا، ان كنت أمت بصلة قربى مع مسؤول كوبي يحمل شهرتي. طلبت منه أن يكرر الاسم على مسمعي - أرنالدو؟ - لا، لا يعني لي هذا الاسم شيئاً. إلا أنني أخبرته، عرضاً، أن بعض أقاربي عاشوا فيما مضى في هافانا. كما لو انني أخبر نفسي بذلك، في تلك اللحظة، ومن فمي. تعرفت الى لويس دومينغو في بيروت أوائل السبعينات، وكنت آنذاك صحافياً شاباً، وهو ديبلوماسي شاب في سفارة إسبانيا. ومنذ ذلك الحين، لم نقم في المدينة نفسها أبداً، ولكن صداقتنا استمرت. كلما كان يزور باريس، نلتقي ونمضي في نزهات طويلة ثرثارة عبر الشوارع، تستمر عادة حتى مطلع الفجر، نتذكر، ونتكهن، ونعيد بناء العالم - بناء مصير لبنان تحديداً، وكذلك مصير كوبا التي عمل فيها لويس دومينغو طويلاً في السلك الديبلوماسي، وكان مستقبلها يقض مضجعه، ومع ذلك، لم يخطر ببالي ولو مرة واحدة أن أذكر له المغامرة الكوبية التي خاضتها أسرتي. وكنت لن أذكر عنها شيئاً لو لم يدفعني صديقي، في تلك الأمسية، بإصرار. وأمام سيل أسئلته، بذلت جهداً لتجميع نتف اتلحكايات التي تناهت الى مسمعي خلال السنين الماضية، فاكتشفت، لدهشتي، ان ذاكرتي تعج بمسارات كاملة، إنما بصورة متعرجة. ذكرت أولاً، بفخر واعتزاز، رحلة جدي الى هافانا، لا سيما انجازه اللغوي، ومرافعته الظافرة أمام محاكمها. - هل كان محامياً؟ - كان مدرِّساً، على حد علمي، ومدير مدرسة، إنما يبدو أنه قد درس الحقوق أيضاً! - وأخوه؟ - كان يدعى جبرايل، وهو مرادف "غبريال" عندنا. كان تاجراً جنى ثروة طائلة في كوبا، وكانت لديه فيها، على ما يبدو، طموحات سياسية عظيمة. ولكنه جلب لنفسه الخصوم والأعداء، ومات مقتولاً في ظروف غامضة. - أي سنة؟ - حوالى عام 1900، أو في العشرينات، لست متأكداً... - لا بد أن لديه أولاداً في كوبا، أو أحفاداً... فاضطررت للإقرار، بهذا الصدد كذلك، انني لا أعلم شيئاً على الاطلاق. لاحقاً، خلال السهرة، تذكرت اسطورة من الأساطير التي تتناقلها أسرتي، كدت أرويها للويس دومينغو قبل أن أحجم. خشيت ألا يصدِّقها صديقي، أو يظهر بعض الازدراء لو شكَّ بأنني أصدِّقها. كنا نسخر عادة من اللاعقلانية وأتباعها، وتلك الحكاية لا مكان لها صراحة وسط يقيننا المشترك. وبطل تلك الاسطورة شقيق آخر لجدي، كان كاهناً ملكياً يحمل اسماً كهنوتياً هو تيودوروس. ظل طوال حياته يكتب يومياته وينصرف لها بانتظام حريص: فيخط هذه الصفحات اليومية كما يتلو صلواته، في ساعات محددة. كانت التواريخ وبدايات الفصول في يومياته مخطوطة بالحبر الأحمر، والنص بالحبر الأسود. في إحدى الأمسيات. فيما كان جالساً يكتب يومياته، انكسرت الدواة فجأة، وسال خيط أحمر رفيع، كما قيل، على الطاولة، ثم على الورقة. تبعه القس بنظرته، مرعوباً، وقد غصّ حلقه، وشلّت أطرافه. وبعد برهة، استعاد رباطة جأشه، وأمسك بريشته ليروي الحادثة، فذكر تاريخ ذلك اليوم، وسحب ساعة جيبه من سلسلتها ليدوِّن الساعة. فألفى عقاربها قد توقفت. كان العم تيودوروس يعيش وقتئذ في أحد أديرة الجبل، فخرج من صومعته، ونادى القساوسة الآخرين، وطلب منهم أن يشاركوه صلاته. هل ثمة حاجة لأضيف ان ما حصل بعد ذلك يحصل دائماً في الحكايات التي تستهل على هذا النحو؟ أي، وبعد مرور أشهر عديدة على هذه الواقعة، وصلت رسالة من كوبا تعلن وفاة جبرايل في اللحظة عينها التي انكسرت فيها دواة شقيقه الحمراء... لا يسألنَّ أحدهم عن إيماني بهذه الاعجوبة! لا أعلم... على الأرجح لا... فملاك العقل يقف دائماً خلفي ويمسك بكتفيَّ. وبالمقابل، من المؤكد ان تيودوروس لطالما روى هذه الحكاية، حتى مماته، فآمن بها كل الذين سمعوها. قبل أن نفترق تلك الليلة، سألني لويس دومينغو ان كنت أرغب بالاتصال بهذا "القريب" الهافاني المدعو أرنالدو، وتوجيه رسالة اليه، وسوف يسعى صديقي لإيصالها. فذهبت الى مكتبتي باحثاً عن كتاب بالإسبانية يتحدث عن الوطن، ويذكر بإيجاز أسرتنا، وأضفت بعض العبارات اللائقة، وسلَّمتُ الكتاب الى صديقي، يخالجني الشعور انني لا أرمي بزجاجة في البحر، بل بحجر في بئر الأشباح. - 3 - في الليلة التالية، وأثناء سهادي اليومي، طفقت أجترُّ هذا الحديث، وفي الصباح، رغبت بمعرفة المزيد من ذلك العم الذي رحل ليتوه ويقضي نحبه في تلك الجزيرة النائية... لا حاجة بي لتحقيق بكل ما للكلمة من معنى، بل قررت فقط أن أتصل، في بيروت، بقريبة لنا تبلغ من العمر تسعة وثمانين عاماً، حافظت على صفاء ذاكرتها، لأطرح عليها بعض الأسئلة البسيطة التي لم تخطر ببالي حتى ذلك الحين، أو تتردد على شفتي. وأولاً: هل تعلم أي سنة توفي جبرايل؟ اعترفت لي ليونور: "ليس بالضبط". ولكنها تذكر أنها علمت، في نهاية الحرب العالمية الأولى، حين صارت الأسرة تتلقى الرسائل البريدية مجدداً، بوفاة عدد من أقاربنا المغتربين في الأميركيتين. وكان جبرايل أحدهم: "أجل، مات مقتولاً، إنما ليس بسبب الحرب. كان حادثاً...". وبالعكس، كررت أمي التي اتصلت بها بعد اتصالي بليونور تلك المقولة الأخرى التي ظلت الأكثر شيوعاً في أسرتنا: "كان اغتيالاً! لطالما أكد لي أبوك ذلك، عملاً تخريبياً، أو شيئاً من هذا القبيل...". جرت تلك الأحاديث المقتضبة في شهر حزيران/ جوان. وبعيد ذلك، رحلت أمي لقضاء اجازة الصيف. منذ حوالى عشرين عاماً، اعتادت ان تمضي الشتاء في فرنسا، والصيف في لبنان، كما كنا في الماضي نقضي الشتاء في بيروت والصيف في الضيعة. ولدى عودتها الى باريس في أيلول/ سبتمبر، أعلنت انها أحضرت معها شيئاً لا بد أن يثير اهتمامي: رسائل، رسائل من "تلك الفترة". - سلَّمتني إياها جدتك مع أشياء أخرى. وقالت لي: "أعرف انك ستحافظين عليها!". وبما أنك طرحت عليَّ بعض الأسئلة، فقد قلّبت في هذه الأوراق قليلاً. لم يكن الأمر سهلاً، لأنها تملأ صندوقاً كاملاً! - صندوقاً مليئاً بالوثائق؟ عندنا؟ - أجل، في الخزانة الكبيرة بغرفتي، رسائل، وصور، ودفاتر، وقصاصات جرائد، وإيصالات، وصكوك رسمية... كنت أنوي ترتيبها، ثم عدلت عن القيام بذلك، بسبب صعوبة المهمة، فتركتها كما هي. واكتفيت بإحضار هذه الرسائل لك لأنها من جبرايل. من جبرايل! ندَّت عني صرخة، صرخة صامتة لم يسمع منها، على ما أظن، سوى ارتعاش خفيف في الشفتين. سحبت أمي الرسائل من حقيبة يدها، وناولتني إياها، بدون اكتراث، وكأن الأمر يتعلق ببريد الأمس. كانت ثلاث رسائل. مرسلة ثلاثتها من هافانا، عام 1912. وبلمح البصر، لم يعد جبرايل طيفاً اختفى في ماض غير محدد. كنت أمسك بين يديّ أوراقاً تحمل خطه، ولهجته، وأنفاسه، وعرقه. رسائل موجهة الى جدي الذي احتفظ بها، ثم تركها لأرملته التي سلَّمتها الى كنتها التي ناولتني إياها بتلك الحركة...