عندما رأيت صور الجندية ليندي انغلاند، وهي واحدة من تلك الحفنة من الساديين الأميركيين في قلب فضيحة تعذيب السجناء العراقيين في أبو غريب، بدا وكأني اعرفها. ثم رأيت مقابلة تلفزيونية معها وقلت لنفسي:"اعرفها بالتأكيد!". أو بالأحرى لا أعرفها شخصياً، لكنني قبل سنين، هنا في وسط ولاية فرجينيا، كنت أقوم ببعض النشاط الاجتماعي الخيري والتقيت شابة تشابهها تماما - سأسميها"سوزان". سوزان مثل الجندية انغلاند في أوائل العشرينات من العمر، ونشأت في اسرة مدقعة في بلدة صغيرة في الريف الأميركي. ومثل انغلاند أيضا وجدت سوزان نفسها في ظروف لم تعرف كيف تتعامل معها، ولم تمتلك بوصلة أخلاقية تهديها السبيل. لكن كان لها شخصية صلبة متحدية، وهو ما ساعدها على التعامل مع عالم كان غالبا معاديا. وما ميزته فورا عند مشاهدتي صورة الجندية انغلاند كان ذلك الحنك المرفوع بصلافة، والفم المزموم المعاند، واسلوبها في الكلام الذي يمزج بين العدوانية والانغلاق. هناك شابات كثيرات مثل انغلاند في بلدات أميركا. وكانت صديقتي سوزان تعرضت منذ صباها للاعتداء الجنسي من قبل والدها ورجال غيره، ولن استغرب اذا كان هذا يصح أيضا على انغلاند. النتيجة ان فتيات مثلهن يدخلن مرحلة الشباب بأفكار غريبة ومحزنة عن قضايا الجنس. القصد بالتأكيد ليس ايجاد الاعذار للمارسات البشعة من قبل انغلاند وزملائها في أبو غريب. ويمكن وصف سلوكهم بأنه"حيواني"، سوى ان ليس من حيوان يعامل أبناء جنسه بهذه السادية والوحشية. لكن اذ احملها وبقية زملائها المسؤولية الكاملة عن الانتهاكات فمن الواضح في الوقت نفسه أن التعليمات بإذلال السجناء العراقيين جاءت من مراتب أعلى بكثير. مع ذلك لم يقدم الى المحاكم العسكرية حتى الآن سوى حفنة من الجنود وضباط الصف. والسؤال هو متى يمثل أمام تلك المحاكم الكولونيلات والجنرالات وكبار المسؤولين المدنيين في البنتاغون الذين أمروا الجنود بارتكاب هذه الانتهاكات؟ *** قد نرى هذا في وقت أقرب مما نعتقد. ففي منتصف الشهر الماضي، عندما كانت الجندية انغلاند وزملاؤها يهيئون انفسهم لمواجهة المحكمة العسكرية، برزت معلومات كثيرة عن أوامر حول معاملة المحتجزين أصدرتها جهات مدنية في الادارة منذ أوائل 2002 . وأوضحت المعلومات أن الأوامر خرقت في شكل فاضح مواثيق جنيف لانها شملت تعريض المحتجزين الى التعذبب الجسدي والنفسي، وخلقت بذلك الظروف التي تمت ضمنها الانتهاكات التي مارستها انغلاند وزملاؤها ضد المحتجزين بتشجيع مباشر من رؤسائهم. وأشارت المعلومات على وجه الخصوص حسب تقرير سيمور هيرش الى قرار وزير الدفاع دونالد رامسفيلد ووكيل الوزارة لشؤون الاستخبارات ستيفن كامبون بتشكيل فرق سرية للتحقيق لا تتقيد بمواثيق جنيف، ما أدى في شكل مباشر تقريبا الى ما حدث في أبو غريب. وكانت الأوامر قصرت ممارسات هذه الفرق في البداية على معتقل غوانتانامو ومعتقلات أفغانستان، لكنها وسعت الممارسات خريف السنة الماضية لتشمل أبو غريب وغيره في العراق. وتم ذلك من قبل الجنرال السيء الصيت جيفري ميللر الذي كان قائد معتقل غوانتانامو، وذهب الى العراق ليوصي حسب تقرير الجنرال أنتونيو تاغوبا بأن على"عمليات الاحتجاز أن تهيء المحتجزين للاستجواب". وجاء في تقرير هيرش أن كامبون من قرر ان على بعض ضباط الاستخبارات العسكرية العاملين في سجون العراق استعمال أساليب مطابقة لتلك التي تستعملها الفرق السرية في غوانتانامووأفغانستان... من بينها استعمال الابتزاز ل"اقناع"السجناء العراقيين بالعمل بعد اطلاقهم مخبرين للقوات الأميركية، ومن هنا استعمال الكاميرا للامعان في اذلال السجناء وابتزازهم لاحقا. المؤكد ان محامي انغلاند وغيرها سيستعملون هذه التقارير للدفاع عن موكليهم. والمتوقع تماما أن يأمر القضاة العسكريون باجراء تحقيقات شاملة في كل التقارير والأدلة. السبب هو تمسك قطاعات مهمة من المؤسسة العسكرية الأميركية بمواثيق جنيف نصاً وروحاً، وتصميمها على ان الجنود الضباط وضباط الصف الماثلين أمام المحاكم لن يكونوا الضحايا الوحيدين لقرارات سادية اتخذتها أطراف غير عسكرية في وزارة الدفاع. *** كتبت في السابق عن الصراعات داخل البنتاغون بين القادة العسكريين والمدنيين هناك. ويبدو بوضوح الآن أن هناك حملة يقوم بها قادة الجيش الأميركي ضد مكتب وزير الدفاع من جهة، ومن الثانية ضد ضباط كبار في الأسلحة الأخرى كان لقراراتهم تأثيرات سلبية على الجيش. من هؤلاء الضباط الجنرال ميللر، وهو من سلاح مشاة البحرية، وجنرال الجو ريتشارد ماير الرئيس الحالي لهيئة الأركان المشتركة. وكان سيمور هيرش ذكر ان مايرز وميللر كانا من مجموعة صغيرة من كبار الضباط أطلعها رامسفيلد ومايرز على مؤامرتهما لانتهاك مواثيق جنيف عن طريق تشكيل فرق سرية للتحقيق. الجيش الأميركي هو السلاح الأكبر من بين الأسلحة الرئيسية الأربعة، ويبلغ تعداد قواته العاملة والاحتياط المتأهب للخدمة مليون و185 ألف جندي الجندية انغلاند ومجموعتها من احتياط الشرطة العسكرية التابعة للجيش. بالمقارنة هناك 400 ألف عسكري في البحرية، و477 ألفاً في سلاح الجو، و174 ألفا في مشاة البحرية. وتقع مسؤولية ادارة الاحتلال العسكري للعراق في الدرجة الأولى على الجيش. وللجيش خبرة واسعة عبر عقود في خوض الحروب البرية وادارة أراض محتلة، وقد علمته هذه الخبرة بالتأكيد أهمية مراعاة قوانين الحرب، أي مواثيق لاهاي وجنيف. ذلك ان الجنود هم المعرضون للأسر أكثر من غيرهم من العسكريين. اضافة الى ذلك فقد أدرك الجيش من خلال خبرته بادارة الاحتلالات أهمية معاملة المحتجزين بشكل سليم، لأن القسوة عليهم تؤدي دوماً الى مفاقمة المصاعب أمام الاحتلال. كل هذه الدروس عمّا يتطلبه احتلال ناجح، وضرورة مراعاة قوانين الحرب، توارثتها أجيال بعد اجيال من الضباط. وكان الجنرال اريك شينيسكي، رئيس هيئة الأركان المشتركة وقتها، أخبر الكونغرس في شباط فبراير 2003 أن ادارة الاحتلال العسكري للعراق تتطلب"مئات الألوف"من الجنود وتستغرق وقتا طويلا. إلا أن نائب وزير الدفاع بول ولفوفيتس وجماعته لم يريدوا لأعضاء الكونغرس الانصات لتوقعات من هذا النوع. وقال لهم ولفوفيتز الذي لم يخدم في أي سلك عسكري ان تصريحات شينيسكي"عجيبة". وجاء ذلك بعدما بذل ولفوفيتز ورامسفيلد أقصى الجهد للنيل من سمعة وتأثير الجنرال شينيسكي وقالا علنا انه"على وشك التقاعد". الا ان رامسفيلد احتاج الى فترة طويلة قبل العثور على ضابط، من أي من الأسلحة الأربعة، يحل محل شينيسكي وينصاع لاملاءات رامسفيلد. وعثر في النهاية على جنرال الجو ريتشارد ماير، الذي اعتبر دوما من صنائع وزير الدفاع وافتقر الى الاستقلال والمهنية التي يقدرها شينيسكي وبقية قادة الجيش. وفي الآونة الأخيرة برز ضابط مرموق آخر من الجيش، الجنرال أنتونيو تاغوبا، ليكتب التقرير الأكثر نزاهة عن الانتهاكات في أبو غريب. وحاول رامسفيلد معاقبة تاغوبا على صدقه واستقلاليته، تماما مثلما فعل مع شينيسكي. وهناك الآن مؤشرات الى ان القضاة العسكريين في المحاكمات الحالية، بتشجيعهم محامي الدفاع على الذهاب أبعد ما يمكن في متابعة الأدلة وصولا الى الذين اعطوا التعليمات بالقيام بالانتهاكات، قد يتمكنوا من توجيه تهم بارتكاب جرائم الحرب الى مسؤولين قريبين تماما من رامسفيلد. *** ومن يعرف ما الذي سيقود اليه هذا؟ فضيحة أبو غريب، كما تبين الاستطلاعات، أصابت شعبية الرئيس جورج بوش بضرر فادح. وهو يستمر حتى الآن في دعمه القوي لرامسفيلد. لكن هذا قد يتغير. اضافة الى ذلك فإن جون كيري لم يطلق حتى الآن تحدياً مهماً لبوش. في أي حال، يمكن للكثير ان يحدث الشهور السابقة على انتخابات الرئاسة في تشرين الثاني نوفمبر. أما الوضع ابتداء من 30 حزيران يونيو، فهو بدوره بالغ الغموض. * كاتبة بريطانية متخصصة في شؤون الشرق الاوسط،