Faleh A. Jabar and Hosham Dawod ed.. Tribes and Power: Nationalism and Ethnicity in the Middle East. القبائل والسلطة: القومية والإثنية في الشرق الأوسط. Saqi Books, London. 2003. 325 pages. أين تقع القبيلة في التكوين السياسي والإجتماعي في الشرق الأوسط، وما موقعها من السلطة، أو، وأيضاً، ما هي سلطتها الراهنة، وإلى أي حد ما زالت فاعلة في مشهد "الدولة-الأمة" الذي بدا وكأنه ورث كافة التكوينات ما قبل الدولتية في المنطقة كما في غيرها؟ ليس هذا ما تحاول الدراسات المعمقة التي يضمها هذا الكتاب تناوله فحسب، بل إنها تعيد النظر في مقولات ونظريات ومسلمات عدة إزاء القبيلة العربية تحديداً، وكيفية النظر إليها وموضعتها أنثربولوجياً وسوسيولوجياً في سياق التاريخ العربي، القديم والمعاصر. وإعادة النظر هذه ليست تمريناً أكاديمياً ترفياً، بل لها منعكسات عملية تفيد في فهم علاقة القبيلة بالسلطة في العديد من البلدان العربية، من المغرب الأقصى، موريتانيا والمغرب، حتى الخليج حيث الإمارات والسعودية، مروراً بالعراقوإيران. لكن الحالات الدراسية المذكورة تلك، التي يتعمق فيها مساهمو الكتاب مضيفين معرفة جديدة ومثيرة، لا تتوازى مع الإهتمام الكبير والإنحيازي الذي يكرسه الكتاب لحالة العراق. فالعراق، بقبيلته وسلطته وكرده وإستعماره وقوميته وبعثه، هو الخط الناظم للتحليل من الفصل الأول وحتى الأخير. وليس هذا عيباً في الكتاب، بل ربما مثّل ميزته الأهم إذ أتاح التعمق بشكل مدهش في كل جوانب "القبيلة العراقية" وعلائقها وتطوراتها وحتى "تبعيثها" الجزئي القسري في حقب تالية. لكن السؤال المركّب الذي يظل الكتاب على تناوُش طويل المدى معه، على مدار الفصول برمتها تقريباً، هو: كيف ولماذا تعود القبيلة العربية بقوة مدهشة إلى مسرح السياسة والإجتماع في السنوات الأخيرة؟ ما الذي يحدث وما العناصر الباعثة على حضور القبيلة ذات التشكيل الإثني الضيق الأفق والقائم على رابطة الدم، في عصر تفاقمت فيه الحداثة إلى عولمة متحللة من كل التشكيلات الضيقة والإثنية والدينية؟ كيف نصالح بين عصر معولم يُقال عنه إن الحدود فيه تتقزم وتنحل، وصعود محيّر للإثنيات والقوميات والأصوليات المنكفئة على نفسها والمتوترة ضد أي عالم بلا حدود؟ صحيح أن عملية ووطأة الحداثة ظلت على مدى عقود طويلة تستثير ردوداً وتوترات محلية تختلف أشكالها وأمداء رفضها أو عنفها ضد الحداثة وسياقاتها الهاضمة للمجتعات قسراً أو طوعاً. لكن تفاقم الرد القبلي في الحالة العربية، كما ترصده مباشرة أو تضميناً، مساهمات الكتاب تفتح أسئلة الحيرة على مصاريعها. فهنا، أي في الحالة العربية، دارت دولة الحداثة العربية الصاعدة من حضن وأنقاض بقايا الإستعمار في النصف الأول من القرن العشرين، والرافضة شكل القبيلة المتخلف من منظورها، دورة كاملة استمرت أكثر من نصف قرن لتنتهي في أحضان تلك القبيلة، متحالفة معها أو خاضعة لها أو موظّفة لإمكاناتها. فكأنما دورة إبن خلدون في صعود وإنهيار الدول حلت بالدولة العربية الحديثة بشكل بالغ القصر وبالغ الإدهاش. في أجزائه الأولى، يحاول الكتاب التأطير النظري للمقاربات العربية الإسلامية لمسألة القبيلة بشكل عام، في سياق التقليد العربي والإسلامي ومكوّنات القرابة والقبيلة، وتحليل رؤية إبن خلدون لكل ذلك. نقرأ هنا نقضاً لمسألة أساسية هي التوهم بأن عنصر القرابة الدموية لجهة الأب هو العنصر الحاسم في تشكيل العلاقات القبلية العربية. فالنظرة الخلدونية رأت، بالإضافة إلى تلك القرابة، معايير إجتماعية وتدخلات جغرافية وتسيسات كان لها أيضاً دور فعّال في تشكيل الولاءات القبلية وفق خطوط لا تتوافق دوماً مع خط النسب الأبوي. وفي نطاق توسيع معنى الولاء القبلي إلى جهوي وجغرافي ومصلحي ولائي، يجد بيار بونت، مدير البحث في نفس المركز والمختص في أنثروبولوجيا المغرب والصحراء الغربية، راهنية للبعد الإنثروبولوجي للفكر الخلدوني عن طريق تحليل دورات الإحلال القبلي والدولاتي في المغرب. فيرى بونت أن اهمية أبحاث ونظريات إبن خلدون لا تتوقف عند المعرفة التفصيلية والدقيقة التي تقدمها حول العصر الذي عاش فيه والجغرافيا التي كتب عنها وتأثر بها خاصة الشمال الأفريقي. بل إن خلاصاته تمتد زمنياً وتصل إلى الحاضر محافظة على فعالية ووظائفية تفيد في فهم وتفكيك كثير من الحالات الإجتماعية والأنثروبولوجية القبلية وعلاقتها مع السلطة. على أن تلك العلاقة تتجسد بأفضل تجلياتها الملتبسة وتحليلاتها البحثية المعمقة في الجزء الخاص بالعراق، حيث معالجة "الدكتاتورية والقبلية: نظام البعث والقبائل"، المتضمن ثلاث مساهمات تركز على مسألة القبيلة والسلطة في العراق: "الشيوخ والمنظّرون: تفكيك وبناء القبائل تحت حكم الدكتاتورية في العراق بين 1968 و1998"، لفالح عبد الجبار، و"دولنة القبيلة وقبلنة الدولة في حالة العراق"، لهشام داوود، و"القبيلة كأداة للسيطرة الحكومية في العراق: ملاحظات حول الجيش والحكومات والمجلس الوطني" لكيكو ساكي. ففي العراق الحديث، كما يرى فالح عبد الجبار وهشام داوود، إلتقطت الحكومات الأيديولوجية أهمية الحضور القبلي فحاولت التعامل معه وفق أكثر من سياسة. أولها سياسة الإحتواء والسيطرة وتقريب القبائل من السلطة بحيث تصبح أحد أركان النظام القائم. فكان أن نشأت "قبلية حكومية" هي المتحالفة والمستفيدة من النظام، والتي يستفيد النظام منها. مقابلها، كانت هناك "قبلية إجتماعية"، أو ثقافية، ظلت بعيدة شيئا ما عن الحكم لكنها بقيت تسيطر على فضاءات إجتماعية خاصة بها ولها سيطراتها المميزة المختلطة بشرعيات دينية خاصة في الجنوب الشيعي. وبين هاتين القبليتين هناك قبلية عسكرية وسطية، تمثل أحيانا تطور الثانية إلى الأولى، أو جسر مرور العناصر القبلية من القاع الإجتماعي إلى دوائر النخب الحاكمة. فالجيش في نهاية المطاف هو قلب الصراع السياسي في العراق حيث السيطرة عليه مفتاح السيطرة على البلد. لذا فإن تسنّم عناصر قبلية مناصب فيه كان يخلع عليها شرعيات ونفوذاً سرعان ما يُستثمر ليكون الرافعة للوصول إلى النخبة الحاكمة. ويغوص عبد الجبار في التركيبات والتراتبيات الداخلية للقبائل، فيرسم علاقات القوة، والنفوذ، والمبادلات السياسية. ويرى أن "القبلية الحكومية" تميزت بسمات أربع، أولاها الإنحدار من مناطق شبه قبلية ومدن وقرى صغيرة، حيث الولاءات الأبوية والإثنية في أشد صورها قوة. وثانيتها، أن الشريحة المدنية من هذه "القبلية" كانت على وعي كامل بمركزية دور الجيش، وثالثتها، أنها كانت قيادية على مستوى التسيس الشعبي والقدرة على التنظيم، ورابعتها، أنها أيضا كانت واعية بتكوينها المفتت وضعف سماكتها السياسية. وفي نهاية فصله يرسم عبد الجبار مخططاً للقبائل المسيطرة على الحكم، وتحديداً قبيلة الرئيس المخلوع صدام حسين، وكان قد لاحق كيف توزعت السلطة على الدائرة القبلية الضيقة للرئيس حيث أصبحت القبيلة في سنوات حكمه الأخيرة الدرع الوحيد الذي يأمل أن يوفر له الحماية ضد خصومه الكثر. وبشكل عام، وكما يتوسع فصلا هشام داوود وكيكو ساكي، فإن الذي حدث خلال حقبة حكم البعث أنه تمت "قبلنة" الدولة، أي جعل القبيلة من مراكز القوى الأهم فيها، إن لم تكن الأقوى، كما تمت في الوقت نفسه "دولنة القبيلة"، حيث أنهي شكلها ومضمونها العفوي، لكن المحكم، القائم على بنية داخلية تتحدد وفقها مسؤوليات وولاءات ووظائف إجتماعية وثقافية ورعوية. وأعيد تشكيل تلك البنية وفق "تبعيث" كل ما له علاقة بالفضاء السياسي والإجتماعي فارتبك المضمون وتشتت الدور, وصارت بوصلة الوظائف مربوطة ببرامج فوقية وقادمة من خارج الإطار الذاتي والمحلي للقبيلة. ومع ضغوطات الخوف وفرض الولاء وتصنيف القبائل وشيوخها تبعاً لدرجة التبعية للبعث، تم تفكيك النظام القبلي وإعادة تشكيله وترتيب القبائل اعتماداً على معطيات لا علاقة لها بتواريخها وتطورها الطبيعي وجغرافية وجودها. وفي حقبة ما بعد الحرب العراقيةالإيرانية، ثم بعد حرب الخليج الأولى، انتهى النظام عمليا إلى الإعتماد الكلي على عدد محدود ومتناقص من القبائل والعوائل. وأصبحت الدوائر الضيقة في الحكم بيد شبكات من الأقارب المخلصين للنظام. أما القبائل الأبعد والأقل استفادة من الوضع القائم، فكانت هي الأخرى يعاد إنتاجها وتثار حميتها "للدفاع عن الوطن"، إن ضد إيران أو ضد الولاياتالمتحدة. لكن في كل الأحوال، فإن التلاعب بالقبلية كان قد أدى إلى تعزيز نفوذها وإعادة كثير من المجد الضائع لها، على حساب أشكال تنظيمات الدولة المدنية نفسها.