لآلاف السنين، كان "الهلال الخصيب"، تلك المنطقة الممتدة بين نهري دجلة والفرات والتي تمثل أهوار العراق جزءاً كبيراً منها، سلة الغذاء الرئيسية لجميع الشعوب المحيطة، وكان يشع نوراً وثقافة على العالم أجمع من خلال احدى أقدم الحضارات الإنسانية التي شهدت مولدها تلك الأرض المعطاءة. والأهوار، بحسب ما جاء في "لسان العرب" و"القاموس المحيط"، هي جمع هور، وتعني بحيرات تغيض بالماء الوفير وتزدهر فيها النباتات المائية. ومن الناحية الجغرافية، تشغل أهوار العراق المثلث الواقع بين مدن العمارة في الشمال والبصرة في الجنوب والناصرية في الغرب. وفي هذا الإطار تقسم إلى أهوار شرقية هور الحويزة وتقع شرق دجلة، وأهوار وسطى تمتد من غرب دجلة حتى الفرات، وأهوار جنوبية هور الحمّار وتشغل جنوب الفرات وغرب شط العرب. أما من الناحية البيئية، فيمكن تصنيفها إلى أهوار دائمة تنتشر فيها نباتات البوص والقصب بكثافة، وأهوار موسمية يغطي قصب البردي أقساماً كبيرة منها إلا أنها تجف في الخريف والشتاء، وأهوار موقتة يرتبط وجودها بحدوث الفيضانات وارتفاع مستوى المياه في الأنهار. ماض جميل وواقع مرير اشتهرت أهوار العراق لفترة طويلة بمميزات بيئية فريدة قلما تجتمع في منطقة أخرى. فهي تعد من أبرز نطاقات الأراضي الرطبة، ليس فقط في منطقة غرب آسيا بل في العالم أجمع. وفي الماضي القريب كانت هذه المنطقة تزخر بكل أشكال التنوع والثراء البيولوجي، تميزها بيئة معيشية خصبة وموائل طبيعية زاخرة بالكائنات الحية من طيور نادرة وحيوانات برية ومائية فريدة ونباتات متنوعة. وأتاح ثراؤها الطبيعي وموقعها الجغرافي أن تكون استراحة أو نقطة عبور رئيسية لملايين الطيور المهاجرة من روسيا حتى جنوب أفريقيا. ثم إنها منطقة توالد لأنواع كثيرة من أسماك الخليج العربي. وصنفها برنامج الأممالمتحدة للبيئة كأحد أهم مراكز التنوع الأحيائي في العالم. وتشير الدلائل إلى أن المنطقة تقبع فوق ثروات نفطية هائلة لم تكتشف بعد، حتى ان البعض يعتبرها بئراً بترولية ضخمة تحت طبقة غضة من الماء والنبات. وإلى كل هذا، للمنطقة إرث تاريخي لا ينكر ، فعلى أرضها عاش عرب الأهوار أو ما يعرف بإنسان المعدان الذي يصنف بأنه من أقدم السلالات البشرية على وجه الأرض. على هذا النحو، تضافرت للمنطقة في الماضي كل عوامل التميز والجاذبية، من خلفية حضارية رائدة ومصادر مياه وفيرة وصفات بيئية فريدة وثروات نفطية وطبيعية واعدة. لذا لم يكن غريباً أن يتغنى كثيرون بجمالها وثرائها إلى حد الإدعاء بأنها كانت في الماضي البعيد جنة عدن المفقودة. ورغم كل هذا الثراء التاريخي والبيئي والاقتصادي، طالتها يد الإهمال وجار عليها الزمن نتيجة تضافر عدد من العوامل البشرية، ما أحالها خلال أقل من ثلاثة عقود إلى أرض بور مقفرة يندر فيها النبت والماء. وهذه خسارة بيئية عظيمة، ليس فقط لمنطقة غرب آسيا بل للعالم أجمع، واعتبرها برنامج الأممالمتحدة للبيئة احدى أكبر الكوارث البيئية على مر التاريخ، ولا تقل في الحجم أو الفداحة عن كارثة جفاف بحر آرال أو تدهور غابات الأمازون. أسباب التدهور البيئي للأهوار ولا يعني هذا التدهور في مجمله إلا أن الإنسان، بقصد أو من دونه، ارتكب جرماً بيئياً كبيراً يصعب محوه أو علاجه. أما الأسباب فيمكن إيجازها بالآتي: بناء السدود وتغيير أنظمة التصريف السطحي: أقامت تركيا وسورية منذ أوائل الخمسينات، ومن بعدهما إيرانوالعراق، عدداً من السدود والخزانات على نهري دجلة والفرات، لا سيما بالقرب من المنبع، بغرض التحكم في سريان وكميات المياه الجارية في النهرين. ويقدر عدد السدود التي تم بناؤها خلال هذه الفترة بما لا يقل عن 60 سداً، في ما يعتبره البعض أكبر حركة بناء سدود عرفتها البشرية وبادرة غير مسبوقة لقدرة الإنسان على التحكم في طاقة الأنظمة النهرية. وللدلالة على مدى تأثير هذه السدود، كان معدل سريان المياه في نهر الفرات بين عامي 1938 و1973 يقدر بنحو 2600 متر مكعب في الثانية، فتدنى إلى أقل من 830 متراً مكعباً بين 1973 و1998 وهي الفترة التي تعرف بعصر السدود. ولم تقتصر عواقب بناء السدود على حجز المياه ومنع تدفقها عن منطقة الأهوار، بل امتدت الى جوانب سلبية أخرى شملت تملح التربة وانخفاض جودة المياه وتغير طبيعتها وافتقارها، على قلتها، للطمي والعناصر الغذائية الأساسية التي كانت تعطي تربة الأهوار خصوبة كبيرة. التجفيف المتعمد: في سبيل القضاء على ثورة عرب الأهوار، دهست قوات صدام مقدرات البيئة في المنطقة بغير رحمة. فدرجت على التهجير القسري للسكان، وحرق قراهم، وتغيير أنظمة التصريف في المنطقة بغرض حجب المياه عنها وتجفيفها من أجل تسهيل تعقب الفارين والثوار. وكانت مشاريع التنمية الزراعية غير المدروسة جففت مساحات كبيرة من الأهوار خلال السنوات الثلاثين الماضية. هذا التلاعب بالانظمة الطبيعية كان له أفدح الأثر في ثروات الأهوار وموائلها. الحروب المتتالية: كانت منطقة الأهوار، مثل بقية أراضي العراق، مسرحاً للاقتتال والمعارك الطاحنة خلال عدة حروب، بدءاً بالحرب العراقية - الإيرانية خلال الثمانينات، فحرب الخليج في بداية التسعينات، وأخيراً الحرب على العراق عام 2003 وتداعياتها. ونالها تدمير مباشر من جراء القصف والتفجير ونثر الملوثات والنفايات. تصريف النفايات والملوثات مباشرة في الأهوار: ساهمت العادات الخاطئة وأساليب الإدارة البيئية غير الرشيدة المتبعة في المنطقة، مثل تصريف المخلفات الآدمية والنفايات الصناعية والأسمدة الزراعية دون معالجة، في تفاقم الوضع نظراً للضغوط التي تسببها تلك الملوثات على النظام البيئي الهش للأهوار. وكان نتيجة اجتماع كل هذه العوامل أن تراجعت الحالة البيئية لمنطقة الأهوار بشكل غير مسبوق. فمساحتها الإجمالية تقلصت إلى أقل من 15 في المئة من مساحتها الأصلية التي كانت عليها قبل ثلاثة عقود. كما تعرض أكثر من 40 نوعاً من طيورها وعدد غير محدود من أسماكها لخطر الانقراض، وانقرض منها فعلاً ما لا يقل عن سبعة أنواع. وامتد هذا التدهور إلى قطاعات أخرى حيوية، اذ تأثرت الزراعة عموماً، وانخفضت جودة المياه، مما حدا بأعداد غفيرة من عرب الأهوار لهجر منازلهم بحثاً عن مناطق أخرى طلباً للرزق والاستقرار. وإذا أضفنا هذه الأعداد الى عشرات الآلاف الأخرى التي هجّرها النظام البائد في أوائل التسعينات، فلا عجب أن ينخفض عدد عرب الأهوار إلى أقل من 40 ألف شخص بعد أن كان تعدادهم يربو على 300 ألف منذ أقل من ربع قرن. اضافة إلى هذا فإن دلتا شط العرب، التي تمثل حوض مصب نهري دجلة والفرات على الخليج العربي، بدأت تعاني هي الأخرى من نحر وتآكل واضحين في شواطئها، وهي التي كانت تمتد في ازدهار وثراء بفضل القسط الوفير الذي كانت تناله من الطمي والغرين الوافدين بكميات هائلة مع مياه النهرين. كان من الطبيعي أن تتأثر اقتصاديات منطقة الأهوار ومصادر الدخل فيها بشكل كبير، مما أثر في تكوينها الاجتماعي والثقافي نتيجة الهجرات الجماعية التي شهدتها كمحصلة مباشرة لاجتماع كل هذه العوامل. الأهوار تحت الاحتلال وعلى رغم التحسن النسبي للظروف والعوامل الطبيعية السائدة في المنطقة، وبخاصة في ما يتعلق بنسبة تساقط الأمطار مؤخراً وتحسن نظام التصريف المائي، ورغم تزايد وعود قوات التحالف بمستقبل أفضل وأكثر إشراقاً للأهوار وللعراق عموماً، يمكن القول إن الأهوار تعيش حالياً فترة صعبة لا تقل سوءاً عن أحوالها خلال العقود الفائتة. اذ أتت آلة الحرب الغربية على البقية الباقية منها حين دمرت شبكات المياه والصرف الصحي ومحطات الكهرباء في أنحاء العراق. وساهم هذا في تزايد الضغوط والأعباء على ثروات الأهوار ومصادر تميزها البيئي، نتيجة اختلاط مياه الشرب النقية بمياه الصرف الملوثة وتعطل ماكينات الري ورفع المياه مع تدفق اللاجئين وشراذم العائلات المشردة والفلول الهاربة الى المنطقة. وأدى هذا إلى ازدياد معدلات قطع الأشجار والنباتات فيها، وكذلك ازدياد كميات المخلفات الآدمية المصرَّفة في مسطحاتها المائية الضحلة والعميقة، بالإضافة إلى استنزاف مصادرها المائية لتعويض النقص في مياه الشرب والري. وإذا أضفنا إلى هذا التداعيات الناتجة من العمليات العسكرية والاحتلال، مثل تسرب كميات هائلة من السموم والأدخنة والغازات السامة الى الأنظمة البيئية المختلفة في العراق، ومنها الأهوار، من جراء قصف مصانع الأدوية والورق والأسمدة والكيماويات وغيرها، وما في ذلك من آثار أخرى مثل تلوث الهواء وتساقط أمطار حمضية، وإذا أضفنا توابع استخدام أسلحة مدمرة ومحرمة من نوعية اليورانيوم المستنفد وغيرها مما خفي، وباعتبار حجم النفايات المتخلفة عن قوات التحالف، يمكن تبين فداحة الضرر الذي أصاب الأهوار خلال العام المنقضي. وعلى رغم الوعود البراقة والشعارات الرنانة للإدارة الأميركية وحلفائها، الا ان الظاهر أنه ليست لها اهتمامات حقيقية بأهوار العراق، اللهم إلا السيطرة ربما على الثروات النفطية الواعدة لهذه المنطقة. وقد بدأت تتواتر أنباء عن منح عقود طائلة لشركات أميركية وبريطانية عاملة في مجال التنقيب عن البترول، في ما يعد تدشيناً لحملة انقضاض على تلك الثروات. الآمال والتحديات كان من الطبيعي بعد سقوط نظام صدام حسين وإطلاق الوعود بنشر الديموقراطية وبناء "العراق الجديد"، أن تتعالى النداءات المطالبة بإصحاح بيئة الأهوار. وحدا هذا ببعض المنظمات الأهلية والهيئات الدولية وأساتذة الجامعات والمتخصصين من المهتمين ببيئة الأهوار لأخذ المبادرة والإعلان عن جملة أفكار ومشاريع بحثية وتنموية لإعادة تأهيل المنطقة وإحياء صورتها المجيدة القديمة. غير أن هذه الطموحات ما زالت حالمة للغاية مقارنة بالتحديات والصعوبات السياسية والعلمية والاجتماعية الجمة التي تكتنف المشهد العراقي حالياً. وفي ظل تواصل العمليات العسكرية يصعب على أي فريق علمي أو بحثي المغامرة والذهاب حالياً لدراسة مستنقعات الأهوار. وبالنظر الى الاعتبارات الاجتماعية، بديهي أن أحداً من سكان الأهوار المشتتين في جميع أنحاء العراق لن يقبل العودة الى الحويزة أو غيرها في ظل عدم استقرار الوضع السياسي فيها وافتقارها لأبسط الإمكانات والمرافق الأساسية والأمان. أما من الناحية العلمية والعملية، فالعارفون بمشاكل منطقة الأهوار البيئية يعلمون جيداً مدى صعوبة الإصحاح البيئي لتلك المنطقة. وفي هذا الصدد، لم تتجاوز أقصى أحلام المتفائلين إعادة تأهيل ثلث المساحة الإجمالية للأهوار في أحسن الأحوال. والواقع أن إصحاح بيئة الأهوار لا يرتبط بمجرد توافر الدعم والإرادة والمال بقدر ما يرتبط بحقائق علمية وعوامل طبيعية لا يمكن التحكم فيها، وتشمل في ما تشمل عامل الوقت وتأثير المناخ والعوامل الهيدروديناميكية ومشاكل التربة البائرة والمتغيرات الطبيعية الأخرى. وهذا يدعو الى التشكيك في أن التصريحات المتتالية عن إحياء الأهوار لا تخرج عن كونها وعوداً مبالغاً فيها. وعلى رغم مرور سنة كاملة على الاحتلال، لم تعلن أي برامج علمية حقيقية وخطط إدارة رشيدة لموائل الأهوار وثرواتها المتهالكة. وكل ما اتخذ في هذا الشأن اجتهادات متفرقة لمهاجرين عراقيين يحدوهم الأمل في استعادة ذكريات الماضي الجميل. وقد يكون من حسن حظ هؤلاء، أو من حسن طالع إدارة الاحتلال، تحسن الظروف الطبيعية في منطقة الأهوار خلال الفترة الماضية. فقد تساقطت أخيراً، وعلى غير عادة، كميات هائلة من الثلوج في الشمال، كما دمر السكان بعد الحرب عدداً من السدود التي بناها النظام السابق لمنع تدفق المياه الى الأهوار. وساهم هذا في حدوث تحسن نسبي في الحالة البيئية، وهو ما أكدته الصور الفضائية الملتقطة حديثاً بواسطة أقمار وكالة الفضاء الأميركية ناسا، حيث تبين أن نسبة المساحة التي كانت مغمورة بالمياه في تلك المنطقة ازدادت إلى أكثر من 30 في المئة بعد أن كانت لا تزيد عن 10 في المئة منذ فترة وجيزة. وعلى أي حال، الأيام وحدها كفيلة ببيان صدق الوعود الأميركية بهذا الخصوص، وببيان الموقع الحقيقي لبيئة الأهوار في فكر ومنظور إدارة الاحتلال. ينشر في وقت واحد مع مجلة "البيئة والتنمية" عدد أيار /مايو 2004