كان ذلك خلال الأسبوع الأخير من ربيع العام 1936، ولم يكن الشاعر والكاتب الإسباني فدريكو غارسيا لوركا، يعرف في ذلك الحين انه لن يعيش بعد ذاك سوى اسابيع قليلة اخرى. صحيح انه لم يكن مريضاً مرضاً سيقتله، لكن وطنه اسبانيا كان يعيش دوامة الحرب الأهلية، وكانت كتائب فرانكو لا تتورع عن حساب انتصاراتها بعدد الناس الذين تقتلهم. وسيكون لوركا في صيف ذلك العام من بين اولئك الضحايا، حتى من دون ان يعرف له أي ذنب يبرر ذلك. المهم ان لوركا آخر الربيع لم يكن يعرف ما تخبئه له بنادق الفاشيين اليمينيين، لذلك حين انتهى من كتابة تلك التي ستكون آخر مسرحياته "بيت برناردا آلبا" وراح يقرأها امام اصدقائه، كان يريد لها ان تكون فاتحة لمسرح متقشف جديد سيغوص فيه بعيداً من كل زخرف. بالنسبة إليه كان قد توصل الى ما هو جوهري، ويرى ان على مسرحه ان يقدم هذا الجوهري، من دون اي اضافات. صحيح ان "بيت برناردا آلبا" ستعتبر من جانب الدارسين والنقاد جزءاً اخيراً من ثلاثية مسرحية للوركا تضم ايضاً "العرس الدامي" و"ييرما"، غير ان "بيت برناردا آلبا" كانت حقاً تغوص في ما هو اساسي في العمل الدرامي، مهتمة فقط بأن توصل المتفرج الى المعنى من طريق مبنى واضح مملوء بالأحاسيس، يمكنه في نهاية الأمر ان يكتسب تعاطف هذا المتفرج ضد ما هو قبيح. وفي هذا كان لوركا قد بدأ يرى ثورية الفن. لكن كتائب فرانكو لن يمكنوه من مواصلة طريقه، لذلك ستبقى "بيت برناردا آلبا" فريدة في مسار كاتب اسبانيا الكبير، قصيدة شعرية فجة في مباشرتها - ولسنا ندينها هنا في ذلك -، تقول جزءاً كبيراً من الواقع وتبعث الألم والغضب في النفوس، من دون ان تزعم حتى انها مسرحية واقعية. بل هي الى الشعر أقرب بالتأكيد. لكنه الشعر الذي يوقظ صارخاً، ويثير الغضب بالقسوة التي يعبّر عنها. والقسوة في "بيت برناردا آلبا" تتجسد في برناردا نفسها، هذه الأرملة الكئيبة الصارمة - التي يصح في تحليل رمزي للمسرحية ان نرى انها ترمز الى تقاليد المجتمع الإسباني، ذات النزعة الشرقية الموروثة والتي لا شك فيها -، هذه الأرملة التي تهيمن على بيتها، كما على القرية كلها، بيد من حديد محولة حياة الناس المحيطين بها الى جحيم ما بعده من جحيم. إن برناردا تعيش تحت ظل الحزن وفي مناخ الموت الدائم، ولا سيما منذ مات زوجها المرحوم، وصار لا بد - في نظر الأرملة - من الحداد عليه، ثمانية اعوام كاملة. وطوال هذه السنوات، لن يكون للضحك او المرح مكان في هذا البيت المغلق على العالم الخارجي المسدل الستائر دوماً، العائش موت الراحل وكأنه حدث في الأمس فقط. من الطبيعي ان هذا الحداد الدائم كان يمكن ان يكون مقبولاً ويُسكت عنه لو ان الأرملة برناردا آلبا تعيش وحدها. فالمرء حر في ان ينطوي على حزنه كما يشاء. لكن المشكلة هنا تكمن في ان لبرناردا آلبا خمس بنات، تجاوزت حتى صغيرتهن سن المراهقة وأصبحن نساء يقترب بعضهن سن العنوسة، فيما تجاوزتها الأخريات. وبرناردا، كما تقتضي التقاليد، ليست ممن يثير هذا الأمر اهتمامهما على البنات ان يخضعن للحداد حتى ولو قضى ذلك على مستقبلهن وعلى حياتهن. ثمة في اوساط "البنات" ثورة على هذا كله بالتأكيد. ولكن من هي تلك التي تجرؤ على إعلان ثورتها، حتى ولو خفية امام شقيقاتها؟ ان اقل همسة وكلام، سيصل الى أذن الأم الحاضرة دائماً، القاسية دائماً، المحافظة على التقاليد وعلى الشرف الرفيع دون هوادة. غير ان هذا كله لا يمنع "شبحاً" من ان يحلق في المكان... وهذا "الشبح" هو في ذلك الحين الذكر الوحيد الذي يثير مخيلات البنات كلهن، حتى وإن كان قد تقدم في شكل او في آخر للزواج من كبرى البنات اوغوستيا المقتربة من سن الأربعين، لكنها الوحيدة المتوافرة للزواج من الشاب بيبي الغجري، "شبح الذكورة" المخيم من حول البيت ومن حول حياة الفتيات على رغم انه بالكاد تجاوز الخامسة والعشرين من عمره. والسبب بسيط، ان اوغوستيا هي الوحيدة، دون اخواتها، التي تملك مهراً اذ انها ابنة زواج سابق كان ذا ميراث. وهكذا يصبح بيبي خطيب اوغوستيا... لكنه يصبح في الوقت نفسه محط انظار الفتيات جميعاً. ان الجمهور يراه ولا يراه، لأنه، في الحقيقة، يعبر دائماً كالشبح، كالخيال، كالرغبة الظامئة بالنسبة الى البنات، بل حتى بالنسبة الى "خطيبته" اوغوستيا، لكن لا وجود له خارج احلامهن ورغباتهن. ولأنه هكذا، ولأنه الذكر الوحيد، ولأن البنات تجاوزن السن التي يمكنهن فيها السكوت اكثر عما يعانين، ستكون هناك ثورة - ولكن خافية - هي ثورة صغرى البنات آديلا، التي - من وراء ظهر الجميع، ولا سيما خفية عن برناردا آلبا وعن اوغوستيا - ستتمكن من العثور على طريق للقاء بيبي، ومطارحته الهوى، وتحديداً في اسطبل البيت. وتكون النتيجة الحتمية لذلك كله، ان تصبح آديلا حاملاً، ويبدأ حملها بالظهور وسط الهمسات والاستهجان في داخل البيت الأنثوي، ما يزيد من المعاناة العامة. طبعاً في البداية لا يمكن احداً ان يشتبه بأن الفاعل هو بيبي، بل ثمة انطباع يسود أن ثمة تحت الصخور أفاعي قامت هي بالمهمة... غير ان خادمة في البيت سرعان ما تنبه آديلا الى خطورة انكشاف امرها. وهذا لانكشاف سيأتي على الفور: ذات ليلة تدرك شقيقة اخرى لآديلا، هي مارتيريو العاشقة بدورها لبيبي خفية، ان آديلا تواعد الفتى، فيجابهها بالحقيقة... اما الصغرى فإنها بدلاً من ان يخيفها ذلك كله، تتسلح بقوة حبها وتصرخ في وجه اختها ان هذا شأنها... وهكذا يصل الصراخ الى مسمع برناردا التي تهرع، فإذا بآديلا ترمي قناعها مرة اخرى وتجابه واقعها ثائرة متمردة مطالبة بحقها في الحب كما في الحياة، ويكون هذا اكثر بكثير مما يمكن للأرملة الكئيبة العجوز ان تحتمل، خصوصاً ان آديلا تقول هائجة انها عازمة على الاحتفاظ بحبها وأنها ستصبح امرأة بيبي. هنا يكون الكيل قد طفح حقاً ببرناردا آلبا فتحاول ان تقتل بيبي بإطلاق النار عليه، لكنها تفشل في محاولتها ولا يكون منها إلا ان تلتفت بكل غيظها وحنقها وثورتها ناحية ابنتها الزانية، فتسرع هذه الى غرفتها تغلق بابها عليها، ثم تنتحر بشنق نفسها... وأمام هذه الفاجعة تتمالك برناردا آلبا نفسها من جديد، وتستعيد السيطرة على الموقف فارضة على البيت الصمت من جديد... اما امام اهل القرية فإن الأم ستعلن فخرها بأن ابنتها ماتت عذراء... وتستعيد "الحياة" مسارها الكئيب. على رغم فرادة موضوعها وأجوائها القاتمة، من المؤكد ان "بيت برناردا آلبا" تنتمي حقاً الى ذلك الحس الفجائعي المهيمن على الحياة الريفية حين تتمكن منها التقاليد، ولا يكون شيء اكثر من الدماء قادراً على غسل لحظات التعرض الى الشرف. فهي، في هذا، تشبه "العرس الدامي" و"ييرما"، ولذلك تشكل معهما تلك الثلاثية التي قال الباحثون انها تمثل "في مجموعها صورة للأزمة التي كان يعيشها الشعب الإسباني خلال حياة لوركا وسيواصل عيشها بعد موته. بل هي مأساة يعيشها الناس في كل قطر وزمان، مأساة الإنسانية المتمثلة في الدماء التي تهرق في كل لحظة وغالباً في شكل مجاني، في الأفراح إذ تمزج بالأتراح.... في اعراس دموية لا تنتهي". إذاً، بعد اسابيع من انجازه هذه المسرحية المعبّرة عن حس صارخ بالموت والفجيعة، كان هذان من نصيب فردريكو غارسيا لوركا 1899 - 1936، شاعر اسبانيا الأكبر وأهم كتّابها المسرحيين في النصف الأول من القرن العشرين، إذ قبضت عليه جماعة فرانكو وأعدموه ذات ليلة غرناطية دافئة، من دون ان يعرف حتى جلاّدوه لماذا كان حكم الإعدام القبيح هذا، ولماذا كان تنفيذه...