الرئيس الموريتاني يزور المسجد النبوي    عبدالله البسّام.. جيرةُ بيتٍ ورفقةُ عمر    السعودية تصنع المستقبل    أمير الرياض يتوج متعب بن عبدالله بكأسي ولي العهد للإنتاج والمستورد    إيمري يقلل من احتمالية الفوز بالدوري الإنجليزي رغم تألق فيلا    اليوم العالمي للإعاقة مسؤولية وطنية وشراكة إنسانية    «نور الرياض» يختتم نسخته الخامسة بحضور ملايين الزوار و12 جائزة عالمية    مجمع الملك سلمان يحتفي بالعربية عالمياً عبر الأمم المتحدة    التنوع يبني الحضارات ويخلق الإبداع    الشرق الأوسط يعيد صياغة العالم    عام على التحرير.. سوريا تنتصر    تكلفة العلاج السلوكي المعرفي    فريق أنامل العطاء يطلق مبادرة "تطوّعك يبني مستقبلك" في احتفال رسمي باليوم العالمي للتطوع    أسود الرافدين ثالث المتأهلين    جمعية أرفى تُقيم فعالية "قوتك وقايتك" بمناسبة اليوم العالمي للإعاقة    أمير الشرقية يعزي عضو مجلس الشورى سعد العتيبي في وفاة والده    الأخضر يبدأ تحضيراته لمواجهة المغرب في كأس العرب    الفيفا يكشف عن توقيت وملاعب مباريات السعودية في كأس العالم 2026    أمير حائل ونائبه يقدّمان واجب العزاء لأسرتي المعجل والفوزان    التأهيل.. معركة الوعي لا تحتمل التأجيل    أهالي حلة علي بن موسى والجارة يحتفون بالعماري بعد 35 عامًا من خدمة الوطن    الخريجي يشارك في منتدى الدوحة 2025    ماسك ينتقد الاتحاد الأوروبي بعد فرضه غرامة على منصة إكس    دور المسجد في المجتمع لمنسوبي الحد الجنوبي    4 جلسات حوارية في المؤتمر السعودي الدولي للتقييم    ضبط (4) يمنيين في عسير لتهريبهم (20) كجم "قات"    "نبرة حيّة".. حملة إعلامية طلابية تبرز لهجات عسير إلى العالم بثلاث لغات    الرياض سادس أنظف مدينة في العالم    البيئة تجدد تحذيراتها من الرعي الجائر    3 مدن سعودية جديدة تنضم إلى شبكة اليونسكو للتعلّم    بلدية أبو عريش تهيّئ حدائقها لاستقبال الزوّار في الأجواء الشتوية    انطلاق مهرجان المونودراما وسط رؤية طموحة لتميز المسرح السعودي    طلاب المملكة الموهوبون يحققون 40 جائزة في معرض سيئول    "اليماحي" يرحّب بالتأييد الأممي الساحق لحقوق الشعب الفلسطيني وتجديد ولاية "الأونروا" لثلاث سنوات جديدة    رئيس البرلمان المقدوني يستقبل إمام المسجد الحرام الدكتور المعيقلي    أكثر من (39) ألف مهمة تطوعية و(19) ألف متطوع في الحرمين الشريفين خلال عام 2025    سالم الدوسري: كأس العرب هدفنا الحالي    كتاب سعودي يحصد اعتراف عربي في مجال الصحافة الاقتصادية    اللجنة العليا المنظمة تكشف تفاصيل ماراثون وسباق الشرقية الدولي 27 بحضور قيادات اللجنة المنظمة    مؤسسة سقاية الأهلية توقع اتفاقية مع مجلس الجمعيات الأهلية ضمن منتدى القطاع غير الربحي الدولي 2025    مدير هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بنجران يلتقي مدير التعليم بالمنطقة    فضيلة المستشار الشرعي بجازان يلقي كلمة توجيهية لمنسوبي الدفاع الجوي بجازان    أمير القصيم يكرم بندر الحمر    نجل بولسونارو: والدي دعم ترشحي لرئاسة البرازيل في 2026    البيت الأبيض: أوروبا معرضة لخطر «المحو الحضاري»    أمير منطقة جازان يؤدى واجب العزاء والمواساة لإبراهيم بن صالح هملان أحد أفراد الحماية (الأمن) في وفاة شقيقته    مستشفى الملك خالد التخصصي للعيون يفوز جائزة أفضل مشروع حكومي عربي لتطوير القطاع الصحي    اعلان مواعيد زيارة الروضة الشريفة في المسجد النبوي    التوصل لإنتاج دواء جديد لعلاج مرض باركنسون "الشلل الرعاش"    تهامة قحطان تحافظ على موروثها الشعبي    أمير منطقة تبوك يكرم المواطن فواز العنزي تقديرًا لموقفه الإنساني في تبرعه بكليته لابنة صديقه    أمير تبوك يواسي في وفاة محافظ الوجه سابقاً عبدالعزيز الطرباق    ولي العهد يشيد بنجاح القمة ونتائجها الإيجابية.. وقادة دول التعاون: المساس بدولة خليجية تهديد للأمن الجماعي    مقتل آلاف الأطفال يشعل الغضب الدولي.. العفو الدولية تتهم الدعم السريع بارتكاب جرائم حرب    فرع الموارد البشرية بالمدينة المنورة يُقيم ملتقى صُنّاع الإرادة    برعاية خادم الحرمين..التخصصات الصحية تحتفي ب 12,591 خريجا من برامج البورد السعودي والأكاديمية الصحية 2025م    صيني يعيش بولاعة في معدته 35 عاماً    القيادة تعزي رئيس سريلانكا في ضحايا إعصار ديتواه الذي ضرب بلاده    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لغة لوركا المسرحية توليف إبداعي بين المتناقضات
نشر في الحياة يوم 15 - 06 - 1998

بين الشعر والمسرح علاقة أصيلة، تحاور يقوى ويضعف لكنه لا يزول. وحين يجتمعان في كيان واحد، يتململ الزمان، ويغير من وضعيته، ليقف قليلاً امام الموهبة الجديدة الآخذة بالظهور... هكذا كان لوركا.
وللحديث عن مسرح لوركا لا بد من العودة الى لوركا نفسه، عاشق اسبانيا، والراغب بالبحث في زواياها المعتمة الراكدة، والتحول فيها الى عاصفة او شهاب. ولا بد من معرفة مجرى الحياة الذي وجد نفسه فيه، ونفس مجتمعه ايضاً. فلوركا كان في أبعد وأعمق نقطة من ذلك المجرى لامتلاكه تلك المخيلة المبدعة، المتأثرة بإحساس عال جدا بقضايا الحياة. فقد عمل على ابراز اسمى وأجمل وأقبح ما في النفس الاسبانية من فكر او شعور، ثم اعطى تلك المشاعر والعواطف والاحاسيس، على تناقضاتها، صوراً، عناصرها القوة والجمال والسمو.
ومن الأبعاد النفسية تلك، كتب لوركا مسرحه جامعاً فيه كل ما في النفس الاسبانية من آلام وطموحات، تلك النفس المشبعة بالرغبات والاهواء، جاعلاً من الشعر الغنائي والمسرح توأمين. فمسرحه شعر درامي تتردد فيه اصداء الغنائية التي خلق منها عالماً مسرحياً، متنوعاً بشخصياته وصراعه.
وعالمه المسرحي مزيج متجانس، من الشاعرية والوعي، تجانساً بعيداً، ينتج حرارة لذيذة ونوراً هادياً. عالم غني مليء بالصور والتعابير، وخيال خصب غني بالسحر والموسيقى. وهو يقوم قبل كل شيء على اساس واقعي، متصل بمحيطه الاسباني عن طريق ملاحظته بصادقة للظاهر والمحسوس من الاشياء. وفي فلك هذا الاساس الواقعي مدى من عمل الخيال، يتحول فيه العالم الواقعي الى عالم تصويري مشحون بالرموز والايماءات، ولا يقل حقيقة عن العالم الأول، ويتصف بحياة ونواميس خاصة به.
وأول ما نلمس فيه عمل الخيال هذا، في الموضوعات التي تناولها لوركا، وأوجد لها في مسرحه عوالم جديدة. فالموضوعات التي اختارها كانت كلها من صلب الحياة الاسبانية كالحب والموت والعادات والتقاليد. غير ان هذه الموضوعات التقليدية ذاتها، ليست بالنسبة الى لوركا الا شكلاً، او بالاحرى، تربة لتصادم التناقضات الكلاسيكية العميقة التي يشكل حلها وتقريرها تاريخ المجتمع، فتتحول هذه الموضوعات المطروقة نفسها، بريشة لوركا، الى حقيقة تراجيدية اولوية. لكنها لا تظهر مباشرة امام حواسنا، وإنما تظهر لنا فقط بصورة غير مباشرة من خلال الاغوار الدامية للشخصيات. فالحب والثأر، كموضوع لمسرحية "عرس الدم"، او العادات والتقاليد وأثرها في مسرحية "بيت برناردا ألبا"... كلها حالات تواجه الشعب الاسباني بشكل عام، والمرأة الاسبانية بشكل خاص. وظلت هذه المواجهة مستمرة عبر مئات السنين حتى اصبحت من السمات البارزة للمجتمع الاسباني.
الا ان لوركا لا يصور الانسان والطبيعة في أبهى صورهما وأروع حالاتهما، الا ليبرز مدى المأساة التي تنتظر الانسان الزاخر بالفتوة، في المنعطف الذي يبدو عنده العالم متشحاً بكل زخارفه وغواياته. والصور التي يرسمها لوركا في اعماله هي صور من طبيعة مزدوجة: صور حسية يرتسم فيها الواقع الذي تعطيه الحواس مباشرة، وصور لا واقعية مستقلة ترتسم فوق الأولى وتتصل بها اتصالاً يقرب ويبعد حسب عدد العناصر التي تستعيرها من الواقع وحسب الأبعاد التي تعطيها لكل منها. فعناصر الصورة التي يرسمها لوركا مستمدة من طبيعة الحياة الواقعية لعالم المسرحية، الا انه يقدمها في تشكيل مختلف غني بالأحاسيس المشحونة، والألوان المتماوجة على أنغام عذبة... وهو بهذا الشكل يبتعد بالصورة عن العالم الذي استخدم عناصرها منه، فلا تخضع لنواميس العالم المنطقي الذي بنته مفاهيمنا المشتركة، باستنادها لتجربة الحواس، كالصورة التي تأتي على لسان ماريانا في مسرحية "ماريانا بينيدا" عن النفس السائرة الى الموت:
"مريانا: اني ميتة يا فرناندو! وكلماتك تصلني
من خلال نهر العالم الكبير الذي أغادره
هاأنذا كالنجمة فوق المياه العميقة
والنسمة الضعيفة الأخيرة التي تضيع بين الصفصاف".
الا ان الصورة في مسرح لوركا، بما تحتويه من رموز، ليست مجرد تزيين يكتفي تشكيله الخارجي، بل ان هذه الرموز تأخذ دور الوسيط الذي يساعد في تطوير العلاقات بين الشخصيات، وتكون شاهداً على تطور الحالة في لحظات التحول العميقة، الممهدة الطريق لظهور الجوهر الجديد... كالدور الذي يأخذه القمر في "عرس الدم". فهو لا يكتفي بكونه شاهداً على ما يجري بل انه يتعدى ذلك ليشارك في كشف ما أخفاه الليل:
"القمر: ولكن، هذه الليلة، ستضيء في خدّي حمرة الدم
وفي الاشواك المؤتلفة التي تتأود في الريح
لا ملجأ ولا ظل يقي من غبني.
لا شيء قادر على الافلات مني".
وليس القمر وحده هو رمز الموت، هذا الموت الجاثم خلف كل صورة يقدمها لوركا عن النفس الانسانية وحياتها وموتها. بل ان لوركا يجد في الموت دائماً ظلاً من ظلال الحياة، فهو احد فصولها... انه الخاتمة دوماً. فالحب والموت هما بطلا كل صورة رسمها لوركا، وإن لم يتجسدا واضحين. فالموت قابع وراء ذلك النور الذي يدخل من شرفات بيت "دون برلمبلين" الخمس في ليلة زفافه. وهو ايضاً من يمتص ذلك الضوء الذي يشع به حب "ماريانا" للحرية، وهو باسم العادات والتقاليد يجثم على قلوب بنات "برناردا" الخمس... فكأن لوركا يحاول ان يخلد على اللوحة القاتمة التي نسجها من ظلال الموت وجه الحياة الهارب المهدد أبداً بعوامل الفناء.
اللغة المليئة بالأفكار والقيم الجمالية، المنبثقة من تجربة خصبة. فمع لوركا ولغته نجد انفسنا امام القيم المطلقة. لأن اللغة عنده، اضافة لكونها وظيفية، تنطق بشاعرية واضحة من خلال الأبعاد النفسية التي تحملها، عبر المفردات والتراكيب والصور. فهو يعتمد على اللغة لانتاج صوره الحية تلك، وهذا الانتاج هو الذي يحقق الأثر الدرامي في أعماله، كما انه يأتي متوافقاً، بامتياز، مع طبيعة الحياة التي تناولها لوركا في اعماله: الحياة الشعبية الاسبانية التي من خلالها اغنى لوركا معجمه اللغوي. ويمكن القول ان معظم اعمال لوركا يدين بالفضل الى حضور العناصر الغنائية في اللغة، سواء كانت مباشرة منفصلة عن الحدث، او كموتيفات غنائية معاكسة للفعل الدرامي. فأعمال لوركا كلها ومقولاته تعبير عن مخزونه الشعري، وتلك الطاقة الغنية الكامنة فيه، التي عبر عنها بأسلوب سهل وبسيط، ونقلها الينا في غنائية مشحونة بالعبير وضوء القمر، وبالصرخات والظلال والخناجر، وبأشجار الحور والزيتون وبرقصات الغجر.
وما يميز اعمال لوركا، ايضاً، تطور لغته بتطور الموضوعات التي تناولها، وخصوصية كل منها. وقد تعددت مستوياتها، اذ نجد ان مسرحية "ماريانا بينيدا" التي كتبها العام 1927 وتعتبر البداية العملية لمسيرته المسرحية، انما هي صورة جديدة من الطاقة الشعرية المتفجرة عند لوركا. ان المقاطع الشعرية المنثورة بسخاء في انحاء المسرحية تحمل كل خصائص شعره، من رقة في البث، وبساطة في التعبير، الى عمق وغنى في الاغوار الجمالية، ويتضح هذا من خلال الطاقة الهائلة التي تحملها خطابات "ماريانا"، حتى انها تتحول الى دفق شعري متصاعد:
"ماريانا:... سوف نرى - ان لهذا الصمت ثقلاً سحرياً عليّ
انه يكبر مثل سقف من بنفسج...
وفي احيان اخرى أتخيل ان لي شعراً طويلاً
آه، ما أحلى، الحلم!"
لكن هذه اللغة تنتقل نقلة نوعية مع مسرحية "عرس الدم" اذ ان اهم ما تتميز به هو تجرد الأسلوب فيها اكثر فأكثر من الوسائل الشعرية السهلة، وتحررها من الجو الرومنطيقي الذي كان يغلب على "ماريانا بينيدا". وتتجلى براعة لوركا هنا بتلك الوحدة اللغوية التي تميز أبطال هذا العمل، بالتشابيه والاستعارات التي تصل الى اعلى درجات التوتر الدراماتيكي... وما هذه الوحدة اللغوية الا التعبير عن الوحدة الروحية التي تميز شخصيات المسرحية وتعبر عن قدرتهم على العاطفة القوية الملتهبة، بينما تتجرد الشخصيات التي ترمز للشر من هذه الطاقة الانفعالية، الموجودة اصلاً في أغاني الشعب الاسباني. فمنذ اللحظة التي تهرب فيها الخطيبة مع "ليونارد" حتى النهاية، تشهد المسرحية تصاعداً دراماتيكياً هائلاً، يختزن طاقته في التراكيب والعبارات والمقاطع الشعرية. بينما نجد في مسرحية "يرما" ان العناصر الغنائية، وهي الاغنيات وكورس الغسالات، باتت أقل أهمية. ومع انها أقل شاعرية من "عرس الدم" فانها برموزها واشاراتها وإيحاءاتها تقدم بياناً شعرياً عن المرأة. لكن لوركا في "بيت برناردا ألبا" يتخلى نهائياً عن المقاطع الشعرية والأناشيد والأغاني التي كان يزخرف بها مسرحياته السابقة ليبعث فيها الجو الشعري. لكنها في الوقت نفسه ليست لغة جامدة بل انها مرآة للحركة والسرعة اللتين يتسم بهما تطور الأحداث على نحو جعل المسرحية قمة من قمم الأدب الاسباني المعاصر.
ولوركا، تلك اللمحة السريعة من النور ومن الحياة المفعمة بالعواطف والاحاسيس، لا يفصل الوجود الانساني عن الوجود الشامل الذي هو صراع دائم بين الحياة والموت، بين الجميل والقبيح. الجميل هو كل ما يتنفس ويناضل، وكل ما يتحرك ويتغير ويثمر ويلد ويزهر. اما القبيح فهو كل شيء خامد، بلا حركة، وبلا تغير، وبلا ثمر، القبيح هو الموت، هو العدم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.