Josiane Boulad-Ayoub & Luc Bonneville. Souverainetes en Crise. Souverainetژs en Erise سيادات مأزومة. L'Harmattan-Laval. 2003. 570 pages. إرتبطت الحداثة السياسية ارتباطاً مصيرياً بمفهوم السيادة، وتحديداً سيادة الدولة، وسيادة الأمة المتماهية مع هذه الدولة والمتحصنة بحدودها السياسية والقانونية معاً. هذا الارتباط، الأشبه ما يكون بزواج كاثوليكي، بين الدولة الحديثة ومفهوم السيادة، وجد مقدماته الأولى، ولو بصفة عكسية، في القرون الوسطى. ففي تلك الأزمنة التي كان يسود فيها العقل اللاهوتي بلا منازع، كانت السيادة موقوفة على الارادة الالهية، ولم تكن السلطة السياسية، مهما علا شأنها ومهما بلغ من قوة شخصية السلطان المتولي زمامها، تُعتبر إلا تابعة ومنفذة لتلك الإرادة الالهية. وعندما انقسمت السلطة في عهد الامبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة الى سلطة زمنية تتمثل في شخص الامبراطور، والى سلطة روحية تتمثل في شخص البابا، فإن السيادة كانت تعود الى هذا الأخير، بصفته خليفة الله على الأرض، وإن كانت الحاكمية تعود الى الامبراطور. وما عرفته المسيحية من ازدواج بين شخصي البابا والامبراطور، عرفه الاسلام أيضاً من خلال الازدواج بين شخصي الخليفة والسلطان في العهود البويهية والسلجوقية والأيوبية قبل أن تعود السلطتان الروحية والزمنية الى التوحد في شخص الخليفة/ السلطان العثماني. وقد مثلت ولادة الحكم الملكي المطلق أول تحول جذري في مسار مفهوم السيادة. فصفة الاطلاق التي أعطاها نظام الحكم الجديد هذا لنفسه لم تكن تعني - كما سيُفهم ذلك لاحقاً - اطلاق يد الاستبداد وانعتاق الذات الملكية من كل قانون خلا إرادتها، بل كانت تعني الانعتاق في سيادة مستقلة. وهذه النقلة من شخص البابا الى شخص الملك كانت تعني تحويلاً انقلابياً في مفهوم السيادة من سيادة لاهوتية الى سيادة سياسية، وبالتالي ولادة الحداثة السياسية من حيث أنها تقوم جوهرياً على اعتماد مرجعية دنيوية وبشرية محضة في نظام الحكم وفلسفته. ومن هذا المنظور يمكن أن يعتبر مكيافيلي 1469 1527 أول منظّر للحداثة السياسية، وإن يكن قد امتنع هو نفسه عن مداورة مفهوم السيادة. فمؤلف "الأمير" هو أول من علمنا المجال السياسي وفصله عن كل مرجعية دينية. فمدار السياسة عنده هو حول الدولة، وتنظيم هذه الدولة، من حيث هي محل اجتماع البشر، يعود الى إرادتهم وحدها. والأمير، رأس هذه الدولة، هو سيدها المطلق. ويده مطلقة في اللجوء الى جميع الوسائل التي من شأنها أن تصون بقاء هذه الدولة. ومن هذا المنظور وحده، أي منظور بقاء الدولة، يصح سياسياً المبدأ اللاأخلاقي القائل بأن الغاية تبرر الوسيلة. والواقع أن تجلية المكيافيلية تكمن في هذه "اللاأخلاقية" بالذات: فهذه لا تعدو أن تكون اعلاناً عن انفصال السياسي عن الديني وتأسيس نفسه في سؤدد ذاتي. وبعد مكيافيلي مباشرة، كان المفكر السياسي والقانوني الفرنسي جان بودان 1530 1596 أول من استخدم في كتاباته كلمة "سيادة" بصورة منهجية، رافعاً اياها الى مستوى المفهوم المؤسسي لماهية الدولة بالذات. ففي كتابه "الجمهورية" الصادر عام 1576، قطع بصورة نهائية مع الفكر السياسي القروسطي إذ عرّف السيادة بأنها حق الدولة المطلق وسلطتها غير القابلة للتجزئة والموقوفة عليها وحدها في أن تعطي القانون من دون أن تتلقاه من أحد. فالدولة هي بالتعريف السلطة التي تحتكر التشريع، أي حق إملاء القوانين ونسخها. وهذه السلطة مطلقة ومحدودة في آن معاً. مطلقة لأنه لا مصدر لها سوى سلطة الملك، ولكن محدودة أيضاً بغائيتها، أي حفظ المملكة نفسها وضمان بقائها. فالملك حر في كل شيء إلا في ما يتعلق بوجود المملكة نفسها. ومن هنا كان الحد المثالي لسيادته المطلقة هو العدل، لأن العدل، كما قيل سابقاً وكما سيقال لاحقاً، هو أساس الملك. لكن هذا التخريج الأخلاقي متأخر في كتابات بودان. أما في مؤلفه "الجمهورية" - والجمهورية بهذه المناسبة ما كانت تعني ما تعنيه اليوم بل فقط مضمار الشيء العام Respublica - فقد انتصر بلا تحفظ للحكم الملكي المطلق. وما ذلك بالمصادفة. فقد كانت أوروبا خارجة لتوها من سلسلة لامتناهية من الحروب الدينية والأهلية، وكانت بحاجة الى فكر سياسي جديد يكرس وحدة المملكة وسيادتها، سواء تجاه البابا الذي كان يدعي لنفسه سلطة مفارقة ومتعالية ذات مصدر إلهي، أم تجاه الأمراء والنبلاء الاقطاعيين المحليين الذين كانوا يحتكرون سلطة الأمر الواقع الدنيوي. والحق ان ملوك النظام المطلق لم يوظّفوا مفهوم السيادة لتكريس انفصالهم عن السلطة الدينية المفارقة لحدود دولهم فحسب، بل وظّفوه ايضاً لاستتباع السلطة الدينية داخل حدود دولهم. فالحروب الدينية التي أدمت أوروبا على مدى عشرات السنين خلقت حاجة الى تقديم السلطة السياسية على السلطة الدينية باعتبار ان السياسي يوحّد بينما الديني يفرّق، في زمن شهدت فيه المسيحية انشقاقاً جذرياً بين الكاثوليكية والبروتستانتية. والواقع ان البروتستانتية نفسها لم تكن إلا محاولة ل"قومنة" الدين ضداً على الكاثوليكية ذات المنزع الكوزموبوليتي، أو "السكوني" طبقاً لمعجم الكنيسة نفسه. ومن هنا كان الشعار المشهور الذي رُفع عقب معاهدة صلح أوغسبرغ التي وضعت حداً عام 1555 للحروب بين اللوثريين والبابويين: "الناس على دين ملوكها"، وهو شعار كرّس بصفة نهائية هيمنة السلطة السياسية على السلطة الكنسية. وبعد أوغسبرغ، كانت أهم معاهدة كرّست السيادة داخل الدولة القومية معاهدة وستفاليا التي وضعت حداً، عام 1648، لحرب الثلاثين عاماً ما بين الاسبانيين والهولنديين والفرنسيين والالمان، بالاضافة الى السويديين والدانمركيين، وأقرت مفهوماً تعادلياً للسيادة تمكن صياغته على النحو التالي: ان حدود سيادة كل دولة على حدة تقف عند حدود سيادة الدول الأخرى. هذا المبدأ الذي خرقته بشكل فاضح الحروب النابوليونية "الثورية" في مطلع القرن التاسع عشر، والحروب الامبريالية "الرجعية" في مختتمه، والحربان الكونيتان في النصف الأول من القرن العشرين، أوجد حاجة الى مؤسسة دولية تضمن تطبيقه وتُلزم الدول احترام سيادة الدول الأخرى، فكانت عصبة الأممالمتحدة في طور أول، ثم هيئة الأممالمتحدة في طور ثان. ولئن ضمنت هاتان المنظمتان غلبة المفهوم السياسي للسيادة، لا سيما في زمن الحرب الباردة، فإن رياح العولمة، التي بدأت تهب من مطلع الثمانينات وأدت في مطلع التسعينات الى تفكيك المعسكر السوفياتي، أحدثت تحولاً جديداً في مفهوم السيادة أخذ شكل تغليب للاقتصادي على السياسي في سياق انتصار ايديولوجيا العصر الليبرالي الجديد: ايديولوجيا اقتصاد السوق. والواقع ان الاقتصاد كان على الدوام، باستثناء الفاصل السوفياتي، اقتصاد سوق. وانما طبيعة السوق في ظل العولمة هي التي تحولت: فمن قومية صارت عالمية، فيما الدولة، كسيادة سياسية، بقيت قومية. ومن هنا اختراق منطق السوق العابر للحدود للمنطق السيادي للدولة القومية. ومن هنا الفاعلية التي اكتسبتها منظمات اقتصادية دولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في رسم السياسات الاقتصادية للدولة القومية. ومن هنا أخيراً اضطرار هذه الدول الى تغيير تشريعاتها الداخلية الحمائية لاستجلاب التوظيفات الأجنبية. على ان من الخطأ أن نرد الأزمة الراهنة لمفهوم السيادة الى العولمة الاقتصادية وحدها. فالعولمة الاعلامية تلعب هي الأخرى دوراً قارضاً لايقل فاعلية. أضف الى ذلك ان رابطات حقوق الانسان وحماية البيئة والمنظمات غير الحكومية، وجلّها مناهض للعولمة، لا تقيّد نفسها في نشاطها بمفهوم السيادة. فالدول، أو الأنظمة الحاكمة داخل هذه الدول، لم تعد حرة في أن تفعل ما تشاء داخل حدودها. فحصانة السيادة المطلقة قد سقطت. ولم تعد هناك حدود غير قابلة للاختراق، لا اقتصادياً ولا اعلامياً ولا ثقافياً ولا حتى سياسياً. والأنظمة السيادية التي لا تمتثل لهذا الواقع الجديد لن يكون مصيرها، مهما امتد بها العمر، بأحسن من مصير الدينوصورات المنقرضة.