بفارق مئة عام بينهما تقريباً، عاش الرجلان المغامرة السياسية نفسها، وأنتج فشل كل منهما في تجربته في السلطة، كتاباً يشبه الكتاب الذي أنتجه الآخر، إن لم يكن في تفاصيله وأهدافه والحيز الزمني الذي يتناوله، فعلى الأقل في خلفيته وموضوعه الأساسي. إنهما ابن خلدون، صاحب "المقدمة"، ونيقولا مكيافيللي، صاحب "الأمير". إذ كما أن ابن خلدون اعتزل الدنيا والناس في قلعة ابن سلامة في الجزائر، بعدما خاب أمله في الوصول الى السلطة والبقاء فيها، في حمى أمراء خدمهم وخدعهم، حيناً بعد حين، كذلك كان حال مكيافيللي، الذي اعتزل الدنيا والناس خلال النصف الثاني من العام 1518، ليكتب "بجرة قلم واحدة" ذلك الكتيب الذي سيشتهر، ولكن بعد رحيله، إذ إنه لم ينشر خلال حياته، وليصبح واحداً من أشهر الكتب السياسية في التاريخ، وتحاك من حوله الأساطير، ويفسر ويؤول، ويعتبر من قبل الكثيرين، "أول فضح للاأخلاقية السياسية". إذاً، "الأمير" كتاب في السياسة، وفي سياسة الحكم تحديداً، كتبه مكيافيللي، ليس كبحث نظري، وإنما كخلاصة لتجربته الديبلوماسية، وحاول من خلاله ان يتقرب من حكام فلورنسا الجدد مسدياً إليهم النصائح كيف يحكمون؟ ولماذا يحكمون؟ وكيف تقوم الدول وكيف تنهار؟ أولسنا هنا كمن يتحدث عن "مقدمة" ابن خلدون؟. في رسالة بعث بها مكيافيللي يوم 10 كانون الأول ديسمبر من ذلك العام 1518 الى صديقه فرانشيسكو فيتوري كتب يقول: "لقد وضعت عملاً أطلقت عليه عنوان "دي برنتشيبا تيبوس"، وفيه حاولت جهدي أن أسبر أغوار المعضلات المتعلقة بمفهوم السيادة الحكم، الى كم نوع تنقسم؟ كيف يتم الحصول عليها؟ كيف يمكن الحفاظ عليها؟ وكيف يصار الى فقدها؟". والكتاب، في صياغته النهائية التي هي صياغته الأولى على أية حال يتألف من ستة وعشرين فصلاً، من الواضح انها في مجموعها تشكل صورة للحاكم وكيف يجب أن يكون. وفي الفصول التسعة الأولى درس مكيافيللي شتى المسارات التي تؤدي الى تكوين الإمارات، وبعد ذلك في الفصل التالي تناول قدرة الدولة على التصدي للعدو الخارجي، ثم درس الدول القائمة على أساس الارتباط بالكنيسة، وهي دول يرى مكيافيللي أنها لا تعير اهتماماً الى القوانين التي تحكم تكوّن الدول الأخرى ومسارها. وفي مكان آخر يدرس مكيافيللي تكوّن إمارة معينة، وخصوصاً إمارة سيزار بورجيا، وهذا ما يتيح للكاتب أن يدخل في الفصول التالية الى صلب الحياة الداخلية للإمارة وأسلوب الحكم والعلاقة مع الرعايا وتشكيل القوات المسلحة. وفي هذا الإطار يركز مكيافيللي على عبثية الاستعانة بالمرتزقة بعد الآن، إذ صار من الضروري تكوين الجيوش القومية وما إلى ذلك. والملفت بعد هذا كله ان مكيافيللي في واحد من فصول كتابه، يركز على ميدانية نصه وعلى واقعية تجربته، وذلك عبر مهاجمة الفلاسفة والكتّاب الذين سبقوه ليتحدثوا عن جمهوريات وإمارات ومدن فاضلة لا توجد إلا على الورق. واضح هنا أن نيقولا مكيافيللي، على غرار مفكر عربي مثل "الماوردي"، يحاول ان يربط تجربة الحكم كما يصفها بالواقع، لا بخيالات المفكرين. ومن هنا استنكاف الكثير من الباحثين في شؤون "المدن الفاضلة والخيالية" عن الحديث عن "الأمير" في هذا السياق. فمكيافيللي، على رغم اشتغاله بالفلسفة والكتابة ولاسيما بعدما أبعد عن الحكم والديبلوماسية، كان يرى ان "الأمير" ينظم الأمور ولا ينظِّر لها. إنه لا يتحدث عن أسس الملك، بل يصف سيرورته. ومن هنا اعتبر "الأمير" واحداً من أولى الكتب النهضوية التي تتحدث عن السياسة وقد انفصلت عن اللاهوت، وعن الحكم وقد كف من أن يكون متحدراً من جذور ميتافيزيقية. ولئن كان الفيلسوف الألماني آرنست كاسيرر في كتابه الكبير "أسطورة الدولة" يتحدث عن مكيافيللي بكونه قد أعطى في كتاب "الأمير" أول صورة واقعية في الأدب السياسي الغربي على الأقل، للحكم كما هو، لا كما يجب ان يكون، فإن كاسيرر يرى أن ذلك كان من طبيعة الأمور: لأن مكيافيللي هو ابن عصر النهضة عصر تكوّن الدول الحديثة على أسس واقعية لا على أسس إلهية. والأسس الواقعية لا تصور لها علاقة بالأخلاق والمبادئ، بل بما هو موجود على أرض الواقع. ولد نيقولا مكيافيللي في العام 1469 في مدينة فلورنسا بإيطاليا، التي مات فيها بعد ذلك بثمانية وخمسين عاماً، وعين وهو بعد شاباً أميناً عاماً لجمهورية فلورنسا، ما أتاح له مخالطة كبار السياسيين ثم التنقل في سفارات ديبلوماسية في قصور كبار ملوك أوروبا،، مثل لويس الثاني عشر وماكسيميليان الأول، ما جعله قادراً على مراقبة أساليب الحكم في عصر التغيرات الكبرى ذاك، أما الحاكم الذي استوحاه مكيافيللي لرسم صورة الأمير الواقعي في كتابه الأشهر فكان سيزار بورجيا. فمن طريق وصف هذا الحاكم يصور لنا مكيافيللي صورة للأمير متمتعاً بكل المزايا - ولكن أيضاً بكل السيئات - التي للحاكم. والحال أن القراءة السطحية ل"الأمير" - وهو احتمل دائماً قراءة سطحية - جعلت الكثير من القراء، ومن بين النخبة أيضاً، يقولون إن فن السياسة والحكم كما يصفه مكيافيللي إنما هو فن الكذب: "فن ان يخدع الحاكم غيره، سواء أكان مبتسماً أو غير مبتسم". ومن هنا ولد مصطلح المكيافيللية الذي لا يعني في نهاية الأمر سوى اللؤم والخداع، وكل ما هو غير أخلاقي. ابراهيم العريس