لم يرتفع في القاعة، إثر انتهاء عرض المسرحية المقتبسة من "حكاية الشتاء" لويليام شكسبير أي تصفيق، لكنّ الجمهور الذي اختلط ما بين مستمع و"غير قادر على الاستماع" أعرب عن إعجابه بالأداء والإخراج ولكن "بلغته الخاصة" وذلك عبر التلويح بالأيدي يمنة ويسرة لكن الحماسة والتصفيق أعقبا انتهاء الممثل الأوسترالي روبرت فارمر من تقديم مواقف وسرد حكايات من واقع الحياة، وهو رواها على الحضور بيديه وراح يتمايل بانسجام تام مع وقع الموسيقى على رغم أنه لا يستطيع سماعها. هذا الأوسترالي روبرت فارمر هو واحد من بين فنانين صم آخرين قدموا من أصقاع الأرض: سنغافورة والصين وأميركا وأوستراليا والبيرو وبريطانيا والتشيك وبولندا لإتحاف الرائي والسامع على حد سواء بأفضل أعمالهم الفنية على مدى خمسة أيام أثناء المهرجان الدولي الخامس، الذي أقيم في فيينا، وعرضت في إطاره مسرحيات أخرجها وأداها ممثلون فقدوا حاسة السمع في فترة ما من حياتهم أو كتب لهم أن يولدوا من دونها. حمل المهرجان شعار "الإنسانية في عالم بربري" في إشارة إلى عالمنا الراهن الذي تميز بهمجيته وكثرة المآسي التي صنعتها يد الإنسان وحده دون سواه، هذا الإنسان الذي "ابتكر" عقيدة جديدة وآمن بها حتى بات يعمل وفق مفهوم يخالف ما جاء به الفيلسوف الألماني المعروف امانويل كانت عن السلام الدائم، ليصبح الشعار المتبع الآن "صراع دائم من أجل إحلال سلام دائم"، وهو صراع فُرض على البشرية وراح ضحيته الإنسان الذي استغل ليكون مخلوقاً تسيطر عليه سياسة العصر البربرية. كان ذلك هو المحور الرئيس الذي دارت حوله معظم المسرحيات الصامتة، التي ابتكر في سبيلها كل فنان أسلوبه الخاص. وبدا من تفاعل الجمهور أن مسرحية رامش مابيان من سنغافورة كانت الأشد وقعاً على النفوس، إذ أطلق لخيال الجمهور العنان بقدرته الفائقة على رسم مشاهد كاملة في تفاصيلها وحذافيرها ممثلاً إياها وحده على المنصة ومن دون أية مؤثرات صوتية أو ديكورات خلفية مستعيضاً عن النص بالتمثيل الصامت، ومستعيناً بيديه - أداة لغته- وتعابير وجهه المتزامنة مع لغة جسده لإبراز الحوار. وحاول بذلك تحليل الدوافع والأسباب الكامنة وراء "صدام الحضارات"، حجة الساسة في تفعيل خططهم وتحقيق نياتهم ومصالحهم. ولكي يحدّ هؤلاء الممثلون المصابون بالصمم من تطور هذه النظرية، وبغية إسماع العالم أن حوار الحضارات والثقافات المختلفة إنما من شأنه أن يرقى بها، ابتدعوا لهذا المهرجان حفنة من الأعمال الفنية والعروض المسرحية تثبت بمجملها ان مراعاة "الآخر" واحترامه وكذلك احتواء مجتمع ما لأقلية معينة واعطاؤها الحق والفرصة لتحقيق ذاتها، انما تمنح هذا المجتمع قسطاً وافراً من التعايش يضمن تقدمه وازدهاره والعيش في أمن وفي دعة. "بالنسبة لي الإعاقة الحقيقية هي تلك التي يفرضها علي مجتمع يشعرني بأنني أنتمي إلى أقلية ويعزلني مع فئة معينة لمجرد كوني أصم" هكذا عبر مابيان بيديه ل"الحياة". وحرصاً من القائمين على المهرجان على عدم عزل أحد، توخوا أن يفهم الجميع المقطوعات الفنية من خلال توفير مترجم "للغة الإشارة" مهمته لفظ النصوص للحاضرين.