غادرت سهى منزلها صباحاً ولم تكن تعرف أنها تغادره للمرة الأخيرة، وأنها لن ترى ثانية وجه أمها وأبيها وأخوتها. كان صباحاً عادياً. بغداد تعبق برائحة "الشاي المهيّل"، تناولت سهى الفطور مع والديها ولم يكن أخوتها قد استيقظوا بعد، أخذت الحقيبة وغادرت إلى عملها... سهى التي عملت مترجمة مع قوات "التحالف" قتلت إثر تعرض القافلة التي تستقلها لنار قناص في صفوف المقاومة، في احدى ضواحي بغداد. لم يعرف القناص ان سهى العراقية التي تنحدر من جنوبالعراق تستقل "الهامر" الأميركية، وحتى لو عرفوا ما كان الأمر ليغير شيئاً فهي كانت برفقة العدو. قالت أمها: "جاءت ابنتي مساء أحد الايام فرحة جداً لتبلغنا انها وجدت عملاً وفي مجال اختصاصها وبراتب جيد. وعندما علمنا أنها ستعمل مترجمة لدى قوات التحالف رفضنا بشدة لكنها أصرت، مشيرة إلى أن الأجور التي ستتقاضاها ستسهم بشكل كبير في رفع المستوى المعاشي للعائلة". ورغم تعرض الذين يعملون مع قوات "التحالف" لتهديدات انتهى معظمها بقتلهم، ولا سيما المترجمين، إلا ان سهى أصرّت على عملها مدفوعة بالظروف الاقتصادية السيئة لعائلتها، والبطالة التي عانتها مذ تخرجت من كلية اللغات. وتشكل البطالة التي يعانيها الشباب العراقي منذ سنوات، ومنهم خريجو الآداب واللغات والتربية، دافعاً أساسياً لعمل هؤلاء مع قوات "التحالف". ويجتذب هؤلاء الخريجين طلب متزايد على مترجمين عراقيين يجيدون التحدث بالانكليزية لاستبدالهم بمترجمين أجانب جاؤوا مع القوات. ويقول زياد حسن، الأستاذ في كلية الآداب ل "الحياة": "غالباً ما كان المتخرجون في اختصاص الترجمة يعملون في غير اختصاصاتهم، فحين كان العراق محاصراً كان أشبه بسجن لا يعلم شعبه عمّا يدور من حوله وانحسرت مهنة الترجمة بعدما تلاشت الوفود الأجنبية، لا سيما بعد حرب 1991 التي شهدت مغادرة الشركات الأجنبية واغلاق معظم السفارات أبوابها. وجد حاملو شهادات اللغات الأجنبية أنفسهم عاطلين عن العمل لذا فإنهم لم يصدقوا عروض العمل المغرية التي قدمتها اليهم قوات التحالف بعد الحرب على العراق، فأقبلوا عليها باندفاع". ويشرح رائد أيوب لماذا يستمر في عمله كمترجم، يقول: "عملت مترجماً في وزارة الاعلام السابقة وأصبحت عاطلاً عن العمل بعد حلها ما اضطرني إلى العمل لدى قوات التحالف. أعمل عشر ساعات يومياً بأجر مقداره 30 دولاراً يومياً ويخصم مني أجر اليوم الذي أغيب فيه عن العمل. تسعمئة دولار شهرياً مبلغ ممتاز لا يحصل عليه موظف في مثل سني". قيس نايف، الطبيب البيطري الذي يعمل مترجماً لدى القوات الاسبانية في مدينة الديوانية، 180 كم جنوببغداد، ترك مهنة البيطرة "التي كانت مربحة أيضاً لأن معظم أهالي الجنوب يرعى الحيوانات والدواجن"، وعمل مترجماً لأن "المبلغ الذي أحصل عليه حالياً أكبر". وعن كيفية تعلمه الاسبانية قال: "تعلمت اللغة بنفسي من الكتب والقواميس ثم طورتها بحديثي المستمر مع عناصر الجيش الاسباني". محمد هادي تحدث عن بداياته في العمل كمترجم في أحد مقار "التحالف"، قال: "في تموز يوليو الماضي قدمت إلى مجمع القصور الرئاسية وملأت استمارة وزعت علينا وكانت قوات التحالف طلبت عراقيين للعمل مترجمين ومبرمجين وسائقين. دخلنا القصر بعد وساطات عدة وقابلني عقيد اميركي وطرح عليّ أسئلة بسيطة لمعرفة مدى إجادتي للغة الانكليزية وتمّ قبولي". وأكد انه تلقى رسائل تهديد كثيرة "سواء عبر بيتي أو عن طريق الهاتف". وقال ان رسائل التهديد التي كانت تصل إلى غالبية العاملين معه من مترجمين كانت تستحوذ على اهتمامهم اليومي "إلا ان أحداً منهم لم يهتم في بداية الأمر". روى هادي كيف ان زميلة له رافقت القوات الأميركية إلى أحد المساجد لتترجم لهم خطبة إمام الجامع، وكانت ترتدي الملابس الأميركية فانهال أحد العاملين في المسجد عليها بالشتم والسب، ارتعبت وتركت العمل لكن يبدو انه أهدر دمها إذ أنها وجدت مقتولة بعد أسابيع أمام منزلها. ويقول: "تركت هذه الحادثة لدينا أثراً كبيراً وزرعت الرعب في داخلنا ما دفع الكثيرين إلى ترك عملهم". "هل تخشى الموت؟". يجيب هادي: "الموت قدر أؤمن به وعملي مترجماً لدى قوات التحالف يؤمن لي رزقي ورزق عائلتي"... سهى كانت تفكر بالطريقة نفسها.