ترتبط إشكالية تجديد الخطاب الإسلامي المعاصر ارتباطاً وثيقاً بإشكالية الاجتهاد التي لما تزل إمكانيةً إبيستمولوجيةً معطّّلةًً بآليات ما يمكن تسميته بمدرسة الشرح على المتون التي انتهت إليها المدوّنة الفقهية الإسلامية، في شكل مبدأ مبسّطٍ: يقوم على أنّ تفسير النصوص يجب أن ينطلق كلياً من هذه النصوص، وان يتقيّد بها مفسّرها تقيّداً مطلقاً، من دون الاعتناء بروح التشريع أو مقاصده الأساسية. ونعني بالاجتهاد هنا مايسمّى في مصطلح الإسلاميين بالاجتهاد المطلق المستقلّ في أدلّته مثلما كان الأئمة المجتهدون الكبار ممن سيؤول اجتهادهم المطلق بدوره إلى مدّوناتٍ مغلقةٍ انحدرت فيها آليات الاجتهاد إلى مستوى الترجيح في آراء الإمام، وهو بدوره مستوى أدنى من مستوى "التخريج" في المذهب نفسه، الذي يعني بصورةٍ أساسيةٍ استنباط أحكام الواقعات التي لم تُعرف لأئمة المذهب آراء فيها. وتثير إشكالية استئناف الإمكانية الاجتهادية إشكاليةً أكبر من نوعٍ إبيستمولوجيٍ وهي: هل يمكن استئناف عملية الاجتهاد في ضوء المنظومة الأصولية الفقهية الكلاسيكية؟ ترتد آليات هذه المنظومة إلى آلياتٍ قياسيةٍ أو تمثيليةٍ استدلاليةٍ، يسميها الفلاسفة بالقياس التمثيلي والمتكلمون بقياس الشاهد على الغائب، والأصوليون بقياس الفرع على الأصل الذي يمكن اعتباره أضعف أنواع الاستقراء من ناحية قيوده ومحدّداته، التي لا يُثبت فيها القياس الفقهي حكماً أو يقوم بإنشائه بقدر ما يكشف عن حكمٍ ثابتٍ للمقيس. فالقياس هنا مُظْهر لا مثبت كما يقول عبدالوهاب خلاّف، وبالتالي فإنه معرفياً عبارة عن معرفة شيءٍ سابقٍ أكثر منه تعرفاً عليه من جديد يفترض الاستقلال المطلق في الأدلة. إنّ هذه المنظومة التي اكتسبت من الناحية الوظيفية وفق طريقة ممارستها فعلياً مقام دين ٍ"فقهيٍ" بديلٍ عن الدين-الأصل، تنتمي برمتها إلى الشق التاريخي في التشريع الإسلامي، والذي ليست له أي قداسةٍ أو عٍصمةٍ يفترض العقل الديني الامتثال إليها عن "طواعيةٍ" و"تسليم". ولم تعد هذه المنظومة تصلح أن تكون على مستوى النموذج الأصولي أو المعرفي الأصولي في المصطلح الإسلامي هو العلومي أو الإبيستمولوجي في الإبيستمولوجيا، وهو غير ما يطلق ويُقصد بتعبير أو كلمة الأصوليين على الحركات الإسلامية أكثر من نموذجٍ أو باراديغمٍ ينتمي إلى تاريخ الفكر وليس إلى تاريخ الإجابة عن مشكلات الراهن الجديدة نوعياً وكمياً. ويصلح بالتالي للتدريس الجامعي وبالتحديد لمواد تاريخ الفكر والتشريع. فهي منظومة آلت بالخطاب الإسلامي معرفياً إلى عبادة الوسائل على حساب المقاصد بل إلى مواجهة المقاصد نفسها. إن الخطاب الإسلامي ولا سيما ذلك الذي تستند إليه مختلف الحركات الإسلامية مرجعياً أو إرشادياً ينتمي في مستواه المعرفي إلى هذا النوع الفقير المدْقع من منتجّات الفقه وليس من إنتاجيته التي باتت تتطلب اليوم استئناف البحث النهضوي الإصلاحي الإسلامي عن إعادة بناء الفهم الإسلامي في ضوء علم المقاصد الشرعية. فهذا العلم الأخير الذي طرحته الإصلاحية الإسلامية كإمكانيةٍ إبيستمولوجيةٍ لإطلاق فعالية عضلة سير الخطاب الإسلامي وتجديده لا يزال في طور التكون، والانتشار المحدود من ناحية الفعالية، وبناء الفهم بما يترتب عليه من سلوكياتٍ مباشرة في فقه الحياة الشخصية والحياة العامة، بما في ذلك نظريات الحكم والسياسة والتعاقد والمواطنة والمجتمع المدني والنظرة إلى الآخر سواء كان داخلياً أو خارجياً. بالنسبة إلى الحركات الإسلامية التي تتمسك بتديين الحياة المدنية الفردية والعامة في شكل نظرية تطبيق الشريعة او نحو تطبيق الشريعة وما يتطرف منها إلى حدود نظرية الحاكمية التي تنتمي في شكلٍ معكوسٍ إلى الفقه القانوني الوضعي للدولة التوتاليتارية القومية التجانسية والإدماجية الحديثة وليس إلى الفقه السياسي الإسلامي الكلاسيكي في الدولة المحدود بدوره في هذا المجال، فإن نظرية المقاصد الشرعية من شأنها أن تحدث ثورةً إسلاميةً حقيقيةً في وعيها، من زاوية أن هذه النظرية تضع أساساً عقلياً إسلامياً جديداً مكوّناً ومنتجاً بالتالي، يجيب على سؤال العالم الذي يتطلبه الإسلام، والإسلام الذي يتطلبه العالم اليوم. وهي بهذا المعنى نموذج معرفي او باراديغم تترتب عليه نتائج سياسية واجتماعية مختلفة كلياً عن حالة الشجار بين المسلم والعالم التي تعتبر المنظومة الفقهية المتقادمة الكلاسيكية مسؤولةً معرفياً عنها إلى حدٍ بعيد. ولعلّ ثِقل تلك المنظومة بما تحمله من عبءٍ على أية عملية تجديدٍ في الخطاب الإسلامي يبرز في حقيقة أن الاجتهادات التي أطلقها الخطاب المعاصر لم تتعدّ حدود الجزئيات. إن تحكيم النص في العبادات والمصلحة في المعاملات إشكالية كبيرة في تاريخ الفقه، لكن لا يمكن من دونها تفعيل المساهمة الإسلامية التكوينية في حضارة عصرنا. وإن من شأن وضعها في إطارٍ معرفيٍ إنتاجيٍ من نوع نظرية المقاصد الشرعية أن يعطي الخطاب الإسلامي قوةً ديناميكيةً في التفاعل مع الواقعات الجديدة، فالخطاب الإسلامي يعيش اليوم من الناحية التشريعية في العقل الأصولي الفقهي الذي أنتجه القرن الرابع الهجري، وما تبعه من "مجّددين" كان دورهم تأصيل عملية الإغلاق تحت اسم "التجديد" الذي يعني هنا شيئاً مختلفاً كلياً عن المعنى اللغوي، فليس تجديدأ بل تأصيل لإغلاق المدونة وانغلاقها بعد أن غاضت الحيوية المعرفية التي أنتجتها. بينما يعيش حامله أي المسلم المعاصر في القرن الواحد والعشرين. وفي ضوء نظرية المقاصد الشرعية نفهم الإشكالية الجوهرية التي طرحها الأستاذ الإمام محمد عبده عن انه وجد في فرنسا إسلاماً من دون مسلمين ووجد في مصر مسلمين من دون إسلام. فالفقه الإسلامي الكلاسيكي غني بفقه الحياة الشخصية لكنه فقير جداً بفقه الحياة العامة، وترتّب اجتهاداته القديمة تناقضاً أو شجاراً ما بين فقه الحياة الشخصية للمسلم والحياة العامة التي لم يتم إنتاج فقهها إلا في شكلٍ يقوم غالباً على المفاصلة أو العزلة، او العيش فقهياً في عصرٍ والعيش فعلياً في عصرٍ آخر مختلف. ولا يمكن إنتاجه من دون استئناف مفهوم المقاصد وتطويره وتحويله إلى آليةٍ تحكم ما ينتجه التفكير من آراء ومواقف وأفكار وسلوكات. إن الخطاب الإسلامي المعاصر ولا سيما الحركي منه باتجاهاته الوسطية أو الراديكالية لا يزال في مرحلة ما قبل النموذج المقاصدي. وهو في ذلك يحمل عائقه المعرفي داخله الذي لا يمكن كسره من دون فهمٍ مقاصديٍ للإسلام. بل لا يزال في نسخه الحركيّة في أكثر المراحل إدقاعاً وفقراً في المنظومة الفقهية الكلاسيكية الموروثة. وهذا ما يمكن أن يستخلصه المرء في يسرٍ، ويظهر له في شكلٍ فاقعٍ حين يقرأ نصوص الجماعات الإسلامية عموماً ولا سيما الجهادية المختلفة خصوصاً، التي تفكر فعلياً في حكمها على الدار والحكم والدولة ومسائل البراء والولاء وواقعات الحياة. * كاتب سوري.