في لقطة شعرية مقتضبة تحت عنوان "صيدا القديمة" يكتب سامر أبو هواش في ديوانه "تذكر فالنتينا" ما يأتي: "البحر قريب/ نهبط إليه/ من ثقب في جدار/ بيت الجيران". في أربع جمل قصيرة، نجد أنفسنا أمام لوحة تمتلئ بالبحر وبيت الجيران والثقب الماثل في الجدار والأولاد الذين يهبطون إلى البحر من ذلك الثقب. هذه لحظة حياتية يأخذها الشاعر، مثلما يفعل المرء بآلة تصوير، ويجعلنا شهوداً عليها. تنتقل إلينا حركة الأولاد وهدير البحر وفراغ الثقب في الجدار والغموض الذي يكتنف بيت الجيران. يحيلنا المقطع الشعري إلى صيدا القديمة ومن ثمّ إلى المدينة كلها. الشاعر ورفاق طفولته هم، هنا، أطراف في مشهد أكبر لا تتسع له زاوية النظر. هكذا تتجزأ المدينة إلى لحظات، أو مشاهد، صغيرة تؤلف كل واحدة منها بؤرة للإطلال على العيش هناك. في مقابل ذلك يلجأ حسان الزين في روايته المعنونة "الرفيق علي" دار الساقي، 2004 إلى جمع التفاصيل معاً لتؤلف حياة كاملة، شبه ناجزة، لبطل الرواية في عيشه في، وفي علاقته مع، مدينة صور. هو لا يكتفي بلقطة بل يأخذ المسرح كله، ولا يرضى بوجه بل يطمع في الإحاطة بالوجوه كافة. وهذا بديهي. فالشعر تكثيف وتفريد والرواية توسيع وتعميم. يكتفي الشاعر من الفسحة بلقطات خاطفة وومضات سريعة يتوقع منها أن تثير الخيال وتحرك الذاكرة، فينال القارئ الفرصة كي يغمض عينيه ويرجع إلى الوراء من أجل أن ينتزع من الماضي معادلاً صورياً لما قرأه. أما الروائي فيهيئ ميداناً واسعاً يجلب إليه الشخوص والحوادث والأحوال فيمضي معه القارئ وتغمره ظلال الأشياء. في المقطع الشعري الصغير تنهض الحركة مضاءة بنور ساطع يزود المشهد حمولة حسية، في حين يكتنف الغموض المدى البعيد الذي يتطلع إليه بطل الرواية فيظهر كما لو أنه يركض وراء سراب. لا يطمح سامر أبو هواش إلى الامتلاء بالمدينة واحتوائها بين يديه ورفعها إلى مصاف عالم شمولي، بل هو يسعد باقتناص لحظات معيوشة والنظر إليها من جديد. وفي المقابل يتوق حسان الزين إلى ما هو أكبر من ذلك. في الرواية تحصل المدينة على كينونة ممتدة في الزمان ومرسومة في مكان لا تنفك تخومه تتسع. يبدو كما لو أن ثمة مفارقة هنا. فالقصيدة تقف على الأرض وتباشر النظر في الواقعة وجهاً لوجه، أما الرواية فتطوف في فضاء هلامي شبيه بالحلم. ثمة تبادل للأدوار. يتسلح الشعر بالمباشرة والحضور الراهن والقوام المرئي، في حين تستسلم الرواية للأخيلة والتهويم والحنين. فكأننا نقرأ قصصاً في اللقطات الشعرية لسامر أبو هواش ونقرأ شعراً في رواية حسان الزين. في الكتابة الأولى حضور فوتوغرافي يجمد الأشياء ويؤبدها وحياد بارد يطرد الشغف والانحياز ويقصي المشاعر جانباً. في الكتابة الثانية انفعال ذاتي وحركة نفسية تمتزج فيها العواطف والأحاسيس وتتهيأ لنزوع نوستالجي يجعل النص متأرجحاً لا يقر على قرار. يسعى حسان الزين في إنشاء سيرة حياتية للرفيق علي. ولكن الرفيق علي ليس أكثر من محرك عاطفي للوقوف على سيرة المدينة وسيرة أبنائها وسيرة الروائي نفسه. هكذا يبدو والرفيق علي وكأنه حاصل جمع سير متعددة: هو الكاتب والمدينة والناس معاً. ولكن، لأن الأمر كذلك، فإن الملامح الخاصة والصغيرة تضيع لمصلحة بورتريه عام غامض. إنها سيرة الجميع وسيرة لا أحد في آن واحد. الرفيق علي هو ذريعة كي يدوّن الروائي أشياء كان عايشها. هذا ابن المدينة يعود لينظر إليها بعد رحلة أخذته عنها وقتاً. في ما مضى كان شاهداً على حوادث ووقائع ومواقف وعلاقات. رأى الأفكار تتسرب إلى المدينة وتستقطب أبناءها، شعر بسطوة الانتماء إلى العقائد والأحزاب والأديان والمذاهب. لمس الفوارق بين الناس من جهة المال والنفوذ والسلطة. وكان هو جزءاً من هذا المحيط. كان انخرط في التيار وتهيأ ليخوض السجال. وها هو الآن كبر ونال قسطه من دروس الزمن وفطيرة الحكمة. كأن العيش في صور كان دَيناً ثقيلاً يرهق كاهله وهو يسدد من جيب الرفيق علي ما في ذمته من هذا الدين. هكذا تلوح الرواية تسوية حساب. براءة ذمة. إخلاء سبيل الخواطر المدفونة في البال. من هنا نلمس سطوة نبرة المقال على سطور الرواية. في حين يلوح الولد، في النص الشعري لسامر أبو هواش، طليقاً، لا تشغله هواجس الآخرين ومشاغلهم ويمضي إلى البحر من ثقب جدار بيت الجيران كما لو كان ذاهباً إلى الجنة. ينهض الرفيق علي محملاً بالمشاريع والخطط وقد حمل شؤون البلد على كتفيه. غير أن الأشياء لا تنسجم مع النيات وتذهب الأحلام إلى العبث ويتعثر السبيل بالرفيق علي. لقد تلاعب به القدر كما تتلاعب الريح بورقة. وعلى رغم هذا لم يفقد العناد الأسطوري الذي يقبع في داخله. فكأنه متيقن من أن الجائزة تنتظره في آخر الدرب وما عليه سوى أن يواجه المصاعب ويقهرها. يبدو الرفيق علي أشبه بالشيخ الطاعن في السن الذي أحاطت به الأنواء والمشقات من دون أن تفقده إرادته في السعي وراء غايته. نتذكر رواية ارنست همنغواي الصغيرة "الشيخ والبحر". الرفيق علي، في هذا النص الروائي القصير، يدفع قارب الخيال الهش وسط الأمواج والحيتان. ولكن في وقت لم يتقاعس عجوز همنغواي عن بذل جهد جسدي ونفسي هائل، فإن الرفيق علي يبدو في "كفاحه" كما لو أنه يمزح. واقع الحال أنه شخص خفيف يفتقر إلى أي بعد تراجيدي. في داخله تكمن هشاشة تجعله مهيأ للعطب في كل لحظة. النبرة الشعرية التي تطغى على الرواية تمعن في مصادرة الملامح الفردية للرفيق علي وتقربه من كائن طيفي. هو يلوح كشبح يستوطن مدينة صور وينتقل في أرجائها حارةً حارةً وشارعاً شارعاً. إنه شبح شاهد على واقع وزمن ومصائر. كأنه ذاكرة المدينة أو حافظ أسرارها. يجعل الروائي من الرفيق علي كناية، يحوله إلى رمز. وهو بهذا يحرمه من امتلاك كيان مادي محسوس ويصوغ منه إطاراً عاماً يحتوي على كيانات كثيرة. إنه بوتقة تنصهر فيها شخصيات متعددة، تختلف، بل تتناقض، في النوازع والأهواء والمسالك. ولعلنا من أثر ذلك نفشل في الإحساس بقوة حضور هذه الشخصية والتفاعل معها. نشعر برنين الاسم ونستجيب له من ذاكرتنا القريبة بقرائن وصور، ولكن يبقى الأمر في هيئة تخاطر لا أكثر. هذه شخصية ذهنية تخاطب عقولنا وأفكارنا وتصوراتنا ولكنها لا تستقر في الوجدان. هي لا تترك في دواخلنا انطباعاً عميقاً. فما إن ننتهي من قراءة فصل حتى ننسى وجودها ونباشر قراءة الفصل الجديد كما لو أن لا شأن له بما سبق. لا تملك شخصية الرفيق علي حضوراً غنياً في ثنايا الرواية. ولولا ورود الاسم لأمكن قراءة الرواية نصاً مجرداً لا يتحدث عن شخص بعينه. ثمة فجوات في الخيط السردي تلوح معها شخصية الرفيق في صورة بورتريهات متباعدة وتظهر فصول الرواية في هيئة قصص قصيرة مستقلة بذاتها. وتساهم هذه الفجوات في تبديد الشحنة الدرامية التي كان من شأن التصاعد الزمني في السرد أن يمنحها للشخصية. كأن هناك بعثرة شبه مقصودة لذلك الحضور. كأن اللغة الشعرية التي كتبت بها الرواية تستوجب استبعاد السمات المباشرة للشخصيات. في الفضاء الشعري المفتوح يتبدد الحضور الجسدي ويتحول إلى مشاهد مفتوحة المدى لا حدود لها. لا تعيين أو تخصيص بل تنميط عمومي يمكن إسقاطه في أي هيئة. هذه مفارقة أخرى. قصائد سامر أبو هواش ترتدي ثوب الوضوح وتنهض على أرض خشنة لا تتحرك تحت الأقدام. الولد السائر نحو البحر ينهض أمامنا كائناً من لحم ودم. نراه يقفز مع أترابه ويمضي في صحبتهم إلى البحر ونكاد نسمع أصواتهم تتناهى إلينا. نبصرهم يحنون ظهورهم كي يعبروا الثقب في جدار بيت الجيران وندرك فجأة أن البحر قريب وأن الأمر يتعلق بمدينة صيدا. يكتب سامر أبو هواش شعره بمنظار روائي ويكتب حسان الزين روايته بقلم شاعر.