وصول الطائرة الإغاثية ال15 لمساعدة اللبنانيين    "وفاة واحدة "من كل 6 وفيات بين النساء سببها "سرطان الثدي"    افتتاح جزيرة سندالة للسياحة الفاخرة على البحر الأحمر    "الأرصاد"هطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    النفط يهبط أكثر من 3 دولارات للبرميل    وثائق تؤكد تصدير الخيول العربية الأصيلة من جازان إلى الهند منذ ٥٠٠ عام    1000 شركة محلية ودولية تشارك في ملتقى بيبان 24    مذكرة تفاهم بين محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية ووزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية    بيان دولي يحثّ إسرائيل على الوفاء بالتزاماتها تجاه «الأونروا»    «ميتا» تكافح الاحتيال بميزة بصمة الوجه    قدمت 51 مليون دولار.. وتقدير بالغ لدورها الإنساني.. المملكة تحشد جهود المانحين للاجئي "الساحل وبحيرة تشاد"    الحزب الحاكم في اليابان يخسر أغلبيته في البرلمان للمرة الأولى منذ 2009    إزالة مبانٍ لصالح جسر الأمير ماجد مع «صاري»    الأنظار تتجه لباريس في حفل جوائز الكرة الذهبية.. فينيسيوس يحسمها.. وغوارديولا ينافس أنشيلوتي كأفضل مدرب    في دور ال 16 من كأس خادم الحرمين الشريفين.. الاتحاد يواجه الجندل.. وديربي بين الرياض والشباب    وزير الخارجية ونظيره الصومالي يبحثان المستجدات    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين وبحضور دولي.. انطلاق المُلتقى الدولي للمسؤولية الاجتماعية    المملكة ودعم الشعب اليمني    "الإحصاء" تنشر مؤشر الرقم القياسي لأسعار العقارات    تجسّد العمق التاريخي للمملكة.. اعتماد 500 موقع في سجل التراث العمراني    الصمت في لغة الأدب والحب    عبدالرحمن المريخي.. رائد مسرح الطفل في السعودية والخليج    السرطان يصيب هارفي واينستين داخل السجن    كبسولة النمو المالي    شتّان بين الضغائن والخصومات    8 أمور إذا شعرت بها.. غيِّر أصدقاءك فوراً !    مطار دولي يفرض حداً زمنياً للعناق    5 أطعمة غنية بالدهون الصحية    القيادة تهنئ حاكم سانت فنسنت وجزر الغرينادين    الفقيه: مشروعات الاستزراع السمكي منوعة    "موهبة" تطلق فعاليات أولمبياد إبداع 2025    قيمة استثنائية    أمير الرياض يستقبل السفير الياباني.. ويعزي الدغيثر    وحدات الأحوال تقدم خدماتها في 49 موقعًا    السيولة في الاقتصاد السعودي تسجل 2.9 تريليون ريال    وكيل الأزهر يشيد بجهود مجمع الملك فهد لطباعة المصحف    «خير المملكة» يتواصل في اليمن وسورية    "اتحاد القدم" يختتم دورة الرخصة التدريبية الآسيوية "A"    «التنفس المخلوي».. الوقاية بالتوعية    إنقاذ حياة فتاة بتدخل جراحي    مستشفى الأسياح يدشن مبادرة "نهتم بصحة أسنانك"    «موسم الرياض» يطرح تذاكر منطقة «وندر جاردن»    السني مديراً للموارد البشرية بجامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل    إسعاف القصيم الجوي يباشر اصابة راعي إبل في الصحراء    انتخاب ناصر الدوسري رئيساً للجنة العمالية بسابك    «بلان» أمامك أسبوع امتحان    إسرائيل.. ولعنة لبنان!    أنا والعذاب وهواك في تكريم عبدالوهاب..!    كيف يستعد الأوروبيون لترمب؟    5095 ساعة تطوعية بجمعية العوامية    إطلاق 15 ظبياً في واحة بريدة    صلاح يقود ليفربول لتعادل مثير مع أرسنال بالدوري الإنجليزي    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    وزير العدل يبحث مع نظيره القطري سبل تعزيز التعاون    جلوي بن عبدالعزيز يواسي آل سليم وآل بحري    ختام الدورة العلمية التأصيلية للدعاة والأئمة في المالديف    تكريم الفائزين بجائزة الأمير محمد بن فهد في دورتها الثالثة لأفضل أداء خيري في الوطن العربي    سموه عقد اجتماعًا مع رؤساء كبرى الشركات الصناعية.. وزير الدفاع ونظيره الإيطالي يبحثان تطوير التعاون الدفاعي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحلت عن 75 سنة في الدار البيضاء . الرسامة المغربية الشعيبية طلال غزت متاحف العالم بفنها الفطري
نشر في الحياة يوم 11 - 04 - 2004

ستة أشهر فقط بعد رحيل محمد القاسمي، وبالطريقة نفسها، في أحد مصحات الدار البيضاء، توقف قلب الرسامة الشعيبية طلال عن النبض عن عمر يناهز 75 سنة. فبعد أن قدمت للفن التشكيلي المغربي والعالمي إحدى أروع ظواهره رحلت الشعيبية مخلفة وراءها جملة من الأعمال التي تنبض حياة في أكبر متاحف العالم وأكبر المجموعات الفنية الشخصية. رحلت الشعيبية بعد أن منحت عشاق الفن في المغرب آخر أعمالها في القاعة الوطنية باب الرواح في الرباط، وكانت لحظتها لا تزال تعاني المرض، مما أعاق حضورها في ذلك المعرض الاستعادي والتكريمي. وفي المعرض كانت لوحاتها الأخيرة تحمل رعشة الأصابع واهتزاز الفرشاة وتنطبع بألوان قاتمة تعلن عن انغراس المرض في ثنايا الجسد الوهن.
في أواسط الستينات، كان ثمة امرأة تراقب ابنها، الفنان الشاب الحسين طلال، وهو يرسم كائناته البهلوانية، وشيئاً فشيئاً بدأت رغبتها في امتلاك هذا العالم السحري تكبر وتتفجر في أناملها رعشة التشكيل. ثم كان أن اقتنت هذه المرأة البدوية التي تزوجت صغيرة علب صباغة بدأت تخطط بها معالم كيانات تنبض بالأسئلة. وحين اطلع الفنان الراحل أحمد الشرقاوي وأحد أصدقائه من النقاد الغربيين المعروفين آنذاك على أعمالها، انتابتهم الدهشة والحيرة أمام هذا الكون المصغَّر الذي تتسربل فيه الشعيبية. فلم تلبث أعمالها أن عرضت سنة 1966 في الدار البيضاء، ثم في رواق سولتيس بباريس، وكذا في صالون "سور أنديبوندان" بالمدينة نفسها، لتغدو الشعيبية ظاهرة الفن المغربي بامتياز التي تجوب العالم في أفخر أروقته، ولتدخل قاعة "درُوو" لمبيعات الفن سنوات قليلة بعد ذلك. ومنذ 1973 ستصبح أعمالها معروضة على الدوام في رواق "لوي دو بوف" عين الثور بباريس.
ولم تلبث أن منحت ظاهرة الشعيبية لغيرها من النساء العصاميات الأميات فرصة ولوج عالم التشكيل. فتوالت الأسماء: فاطمة حسن زوجة أحد الفنانين المعروفين في نهاية الستينات، ثم راضية بنت الحسين، أم الفنان المعروف ميلود لبيض، وكثيرات أخريات...
أثرت أعمال الشعيبية في مجال النقد الفني العديد من الأسئلة. فشبهت أعمالها بتيار كوبرا تارة، ونعتت بأنها فن خام وساذج، وعانت في نهاية الستينيات من المواقف المثقفية التي اتخذها منها مجموعة فناني الدار البيضاء التي اعتبرت الفن الساذج فناً مرتبطاً بالغرائبية ومحط تشجيع الغرب... غير أن أعمالها ما لبثت أن غدت مرجعية وإشكالية في الآن نفسه، لأنها ليست بساذجة وليست في الآن نفسه بأعمال مفكَّر فيها.
كتبت عنها فاطمة المرنيسي قائلة في ما يشبه الرسالة، التي لن تقرأها أبداً الشعيبية: "لقد تسربت إلى عالم محروس بصرامة، عالم الفن التشكيلي الحديث الوافد من الضفة الأخرى، بقماشة عمودية وفرشاة ولون اصطناعي... من مدينة بعيدة اسمها باريس. تسربت بصمت كما لا تقدر على ذلك سوى النساء العربيات، إلى مواقع السلطات: سلطة الإبداع، سلطة التعبير، سلطة بيع العمل بثمنه الاعتباري، وسلطة ترصيع اللوحة بقيمتها الحقيقية. وهي قيمة صارت أصالتها تقدّر اليوم بأقوى العملات الصعبة عبر المتاحف وقاعات العرض... وأنت تقومين بذلك مرتدية زيك التقليدي ومجوهراتك نكاية بالموضات الزائلة، ومزينة يديك بالحناء...". وبالفعل فقد غدت الشعيبية قيمة مغربية وعربية وعالمية، بحيث تذكرنا بالفنانة بايا الجزائرية التي حين اطلع الشاعر السريالي أندري بروتون على أعمالها لم يخف افتتانه ودهشته بها. كما تذكرنا بمن سبقوها من الفنانين المغاربة العصاميين أمثال مولاي أحمد الإدريسي الذي اقتنى متحف الفن الخام بسويسرا أعماله في بداية الخمسينات من القرن الماضي وذكره غاستون دييل الناقد الفني الفرنسي المعروف في كتابه الصادر سنة 1963 عن الفن العالمي الحديث" وكذا أعمال غاوي الحكايات أحمد بن ادريس اليعقوبي الذي عرض في الفترة نفسها أعماله في أفخر قاعات العرض النيويوركية وغدا صديقاً لمشاهير العالم، وغيرهم من الفنانين المغاربيين والعرب.
أصبحت الشعيبية من الشهرة في بلدها وخارجة بحيث تحولت إلى رمز، وغدت قيمتها الوطنية تضاهي قيمة أشهر الرياضيين العالميين المغاربة من أمثال سعيد اعويطة وهشام الكروج. وصارت مضرباً للمثل في هذا المضمار. وكأنها بذلك تتسلل إلى وعي ولا وعي اللغة والتواصل الاجتماعي، محولة وضعية المرأة العربية إلى انفتاح متواصل نحو الإبداع الممكن الذي يكسر قروناً من الهامشية والتهميش.
ففي إحدى زياراتي لباريس سنة 1996، التي وافقت انعقاد المعرض العالمي للفن الخام، حيث اجتمعت أفضل أعمال الفنانين من جميع مناطق العالم، ما أن اجتزت عتبة القاعة الشاسعة للعرض حتى استوقفتني لوحة لشعيبية أمام الباب الواسع. كانت اللوحة عبارة عن وجوه متآلفة تستقبل الزائر لتعلن له عن لون وهوية هذا الضرب من الفن التشكيلي. أو بالأحرى لنقل إن الشعيبية غدت عنواناً لهذا الفن ويافطته ودليل عنفوانه.
وجوه الشعيبية الباهرة
فنانة محيرة هي الشعيبية. فأعمالها تعانق المرئي في لجة من الحساسية الممهورة بالحرارة. لذلك لم تكن تمزج الألوان أو تخلطها. ظلت تستعملها كما هي مباشرة من العلبة إلى اللوحة. تحافظ لها على نقاوتها الطبيعية لأنها لا تؤول الواقع وإنما تخططه وتقدمه كما هو، أي كما يتراءى لها. وجوه الشعيبية تكتسح اللوحة في غمر فياض من التداخلات. تتجاور وتتلاصق وتتجذر لتغدو وجوهاً أجساداً. إذ لا امتداد للجسد إلا في تشاكيل نظنها أشجاراً تارة، ونخالها عناصر غامضة أخرى. وكأن هذا العالم المتماوج عبارة عن حلم كبير لا وجود فيه للمنظور أو لتقنيات الرسم الأكاديمية، ولا حضور فيه للفضاء بمعناه الواقعي بل ثمة فقط الرؤية والوجه. ترسم الشعيبية ذبذبات تأثرية، ولقاءات بصرية وحمولات تركيبية. وهي بذلك ظلت تؤول الواقع وتعيد تشكيله على طريقتها الطفولية، راسمة عالماً يضج بالصخب والفرح والأسى أيضاً، يرتج تحت ثقل المعاني الإضافية ويرفل في تلافيف صدى الحواس. وللحواس فعل عميق في هذه اللوحات إذ هي بها تنطبع، وعلى إيقاعها تتشكل.
ولذلك فأعمال الشعيبية ليست فطرية أو ساذجة لأنها اشتغال متجدد على المرئي، وخروج عن الطابع الحكائي والمشهدي لهذا التيار. فإذا كانت أعمال الفطريين تتسم باستعادة حالات ومشاهد من الواقع المحلي والسعي إلى عرضها، فإن فن الشعيبية، على النقيض من ذلك، يجر المتلقي إلى حالات ووضعيات بصرية لا تقدم وصفاً معيناً للواقع بقدر ما تركز على عنصر أساسي فيه. من ثم جاءت لوحاتها ورسومها الحبرية وسيرغرافياتها عبارة عن استشفاف لنبض اللحظة ممهور بالقلق والسؤال، الذي يغدو أحياناً، كما لاحظ ذلك محمد برادة، قلقاً ميتافيزيقياً. فكائناتها ليست بكائنات تامة، وهيئات وسحنات شخصياتها لا تستعرض كيانات مرئية بقدر ما تقدم منظوراً خاصاً يتسم بالأساس بالتكبير واللاتوازن والتفاعلية.
وهكذا جاءت أعمالها عبارة عن لقطات يشتغل فيها الخط والمساحة اللونية والتداوير في شكل هائج تارة وفي شكل متضافر وهادئ تارة أخرى. وهي لحظات تسير بها الشعيبية إلى أقصاها، من خلال تحويل المعطى البصري إلى التباس تتشاكل فيه الصور وتتداخل فيه الأشكال بحيث تكتنز اللوحة بما تحمله بؤر وما يتشاكل فيها من علامات. وكأننا بالفنانة تعبر عن الرغبة في البوح أكثر من البوح نفسه، وعن إرادة الكشف أكثر من الكشف نفسه، وعن قصد فتح مغاليق عالمها الداخلي أكثر من إشراعه. هذه التعبيرية هي التي تمنح لأعمالها كثافة المجازات ولوجوهها نظراتها الساطعة ولأجسامها لطافة الحواس.
رحلت الشعيبية بعد أن منحت للفن العالمي إحدى تجاربه الأكثر جذرية، وفتحت أمام مؤرخي الفن مجال التفكير في ظاهرة تطابق بين الطبيعة والفن، وتكشف عن غور التجربة الإنسانية وقدرتها على نحت لغتها الخاصة المتفردة. ذلك أن الفنانة صاغت أسلوباً في التشكيل الفني غير قابل للتقليد أو المضاهاة، يخلق قواعد انسجام جديدة بين الألوان والتشاكيل ويحتمل التآويل والتحاليل الممكنة والمفترضة. عالمها من البساطة بحيث إنه يطرح على حساسيتنا الجمالية سؤال الجوهر الفني وحدود الجمال بمفهومه التقليدي.
لقد علمتنا الشعيبية أن مصادر الفن ليست دائماً في تعلم قواعد الفن وإنما في استكشاف قواعده الغائبة، وأن اليد الصابغة معبر لتموجات الأحاسيس الأكثر تعبيرية في شكل مباشر وبلا وساطات مفروضة أو مفترضة. إنها قطعة من جسد الشعب الخلاق تغيب عنا بعد أن أعلنت أن غنى مخيلة الشعب وثراء عطاءاته تبدأ من اليومي ولا تقف عند حدود الفني وإنما تتجاوزه... ولنا أن نتمنى أن يخصص لهذه الفنانة المبدعة متحف خاص يجمع أعمالها المتفرقة ويحفظ ذاكرتها الفنية تعبيراً عن عظمتها كفنانة امرأة جاءت للفن من عمق أرياف المغرب وحملته في ثنايا جسدها إلى أقصى أقاصي المعمورة، وأضافت إليه من نفسها ما سيظل شاهداً على قوة قريحتها الفياضة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.