أكد عبدالعزيز بن صقر رئيس مركز الخليج للأبحاث أن البحث العلمي في الدول العربية في أزمة حقيقية بسبب ضعف الاعتمادات المالية التي تخصصها هذه الدول لهذا الأمر، وعدم وجود سياسات وطنية للبحث العلمي وانخفاض عدد العلماء والضعف الشديد في اعداد البحوث وغياب اعتماد التقنيات الحديثة في نظم الاتصال والمعلومات. ولفت ابن صقر في مقابلة شاملة مع "الحياة" الى وجود فجوة كبيرة بين العرب واسرائيل في مجال البحث العلمي، ووجود تبعية علمية للخارج. وقال إن أزمة البحث العلمي في الدول العربية تبرز على مستويات عدة تتعلق بالباحثين والمؤسسات البحثية والموازنات والسياسات البحثية ومدى الاستفادة من البحث العلمي في صنع السياسات والقرارات. وأكد أن البحث العلمي يشكل مدخلاً رئيساً في صنع السياسات والقرارات في الدول المتقدمة. ودعا الى ارساء أسس لتشجيع الابداع العلمي والتخصص الأكاديمي في مجال البحث العلمي من خلال اصلاح منظومة التعليم. وأضاف أن حركة البحث العلمي في الدول العربية تواجه معوقات تشريعية وقانونية من أبرها قوانين الطوارئ وغيرها من القوانين المقيدة للحريات. وأكد ابن صقر أن مركز الخليج للأبحاث الذي يتخذ من دبي مقرا له يلتزم معايير عالمية في مجالات الأبحاث والدراسات في شؤون منطقة الخليج والمجال التعليمي والخدمات الاستشارية. وهنا المقابلة: هل وصلت المراكز البحثية إلى درجة من النضج الفكري والتنفيذي حيال تحديد السلوكيات السياسية والاقتصادية للدول العربية؟ وكيف تنظر الحكومات العربية إليها من حيث جدية ما تطرحه من أفق مستقبلي ودراسات متنوعة؟ - أولاً: يتعين التأكيد على حقيقة مهمة، وهي أن البحث العلمي في الوطن العربي يجتاز أزمة حقيقية، وثمة مؤشرات عدة لهذه الأزمة، منها: - ضعف الاعتمادات المالية التي تخصصها الدول العربية للبحث العلمي، ليس مقارنة بما هو سائد في الدول المتقدمة، ولكن مقارنة بما هو موجود في الكثير من دول الجنوب. - عدم وجود سياسات وطنية للبحث العلمي في دول عدة، وغلبة الطابع العشوائي على هذا المجال. - التدني الشديد في عدد العلماء بالنسبة إلى كل عشرة آلاف من السكان مقارنة بالوضع في الكثير من دول الجنوب. - الضعف الشديد في أعداد البحوث والكتب المنشورة والمترجمة مقارنة بما يحصل في الدول الأخرى. - وجود فجوة كبيرة بين العرب وإسرائيل في مجال البحث العلمي. - غياب أو ضعف الاعتماد على التقنيات الحديثة في نظم الاتصال والمعلومات في البحث العلمي في الوطن العربي. - التبعية العلمية للخارج وضعف القدرة على الإبداع الذاتي، وهو أمر يظهر بوضوح في المناهج والمفاهيم وأولويات الموضوعات، حيث دأبت مراكز بحثية عاملة في مجالات العلوم الاجتماعية بصفة خاصة على الاهتمام بالقضايا والمواضيع التي تطرحها مراكز في الخارج، فتقع غالباً في دائرة التقليد والتكرار وليس الإبداع. - شيوع ظاهرة السرقات العلمية، في شكل يشير إلى مدى الانحدار الذي وصلت إليه حال بعض الباحثين، أو من يطلقون على أنفسهم لقب باحثين. - وهكذا، فإن أزمة البحث العلمي يمكن النظر إليها على مستويات عدة: - المستوى الأول، ويتعلق بالباحثين من حيث العدد والنوعية وأساليب التأهيل والتدريب والمكافآت المالية. - المستوى الثاني، ويتصل بالمؤسسات البحثية من حيث إمكاناتها وبرامجها ونظمها الداخلية ولوائحها وإنتاجها البحثي. - المستوى الثالث، ويتعلق بالموازنات والسياسات البحثية. - المستوى الرابع، ويتصل بمدى الاستفادة من البحث العلمي في صنع السياسات والقرارات. وثمة ملاحظة مهمة لا بد من التأكيد عليها في هذا الخصوص، وهي أنه عندما يتحدث المرء عن أزمة البحث العلمي في الوطن العربي، فإن هذا لا يعني إطلاقاً عدم وجود علماء وباحثين متميزين، حيث إن هناك الكثير من النماذج المشرفة في شتى المجالات. ولكن هؤلاء يشكلون نسبة ضئيلة جداً من مجموع الباحثين في الوطن العربي، وتميزهم هو تميز فردي. كما أن الحديث عن الأزمة لا يعني إطلاقاً عدم وجود مراكز بحثية جيدة تضطلع بدور مهم، لكنها تظل في نهاية المطاف مجرد استثناءات محدودة، أو جزراً بسيطة وسط محيط من المراكز البحثية الراكدة. ثانياً: إن أزمة البحث العلمي يصعب فهمها وتفسيرها بمعزل عن حال العجز والتردي التي يعيشها الوطن العربي على جميع المستويات، وتتمثل أهم أسباب هذه الأزمة في ما يأتي: - تدني قيمة البحث العلمي ودوره ضمن أولويات واهتمامات النظم الحاكمة، وبالتالي فهي لا تخصص له ميزانيات مناسبة، ولا تستفيد من مخرجاته إلا على نطاق ضيق في أفضل الأحوال. - غياب تقاليد البحث العلمي في الدول العربية من حيث أساليب إعداد أو تأهيل الباحثين، ورسم الأولويات البحثية، ومراعاة الأصول المتعارف عليها في البحث العلمي، واحترام قواعد التخصص والمهنية في العمل البحثي، وامتلاك العقل النقدي. - تدني مستوى دخول الباحثين وأساتذة الجامعات في الكثير من الدول العربية، مما يجعلهم غير متفرغين للبحث العلمي، حيث إنهم يلهثون من أجل توفير الحياة الكريمة لهم ولأسرهم، فضلاً عن انشغال الباحثين المخضرمين بالسعي إلى المناصب سواء على مستوى المؤسسات الأكاديمية أو على مستوى أجهزة الدولة ومؤسساتها، بل ودخولهم في صراعات ومنافسات من أجل ذلك، الأمر الذي يؤثر سلباً على دورهم البحثي. - دخول عنصر التمويل الأجنبي فى البحث العلمي في الوطن العربي، مما أثار الكثير من علامات الاستفهام والشبهات في هذا الخصوص. - غياب أي تنسيق بحثي جدي وحقيقي بين المراكز البحثية التي تعمل في المجال ذاته، لذلك تنتشر ظاهرة تكرار الأنشطة البحثية والندوات. - تعدد مشكلات وعقبات نشر البحوث العلمية، وضعف التواصل بين الباحثين في الدول المختلفة. - تضاؤل الفرص المتاحة للباحثين العرب للمشاركة في ندوات ومؤتمرات دولية خارج بلدانهم. - شيوع حال من الإحباط لدى قطاع من الباحثين العرب لإحساسهم بأن جهودهم هي مجرد حرث في البحر، حيث لا يلتفت إليها أحد، وليس لها تأثير أو دور، مما يعمق لديهم الإحساس بعدم القيمة واللامعنى، وهو إحساس قاتل لأي باحث. - غياب أو ضعف الحريات الأكاديمية في معظم الدول العربية، مما يؤثر على البحث العلمي، حيث إن هناك موضوعات يتحسب الباحثون من تناولها بسبب ما يحيط بها من حساسيات. ثالثاً: لا يزال تأثير مراكز البحوث والدراسات في تحديد التوجهات والسياسات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية في الوطن العربي محدوداً في أفضل الأحوال، وذلك لاعتبارات عدة، منها: - تواضع مستوى الإنتاج العلمي للكثير من مراكز البحوث والدراسات في الوطن العربي، فالمراكز الحكومية أو شبه الحكومية يغلب على عمل معظمها الطابع البيروقراطي. أما المراكز الخاصة فمعظمها يسعى إلى الربح من دون الارتباط بأولويات أو "أجندات" بحثية معينة، مما ينعكس على إنتاجها العلمي بصفة عامة. وإذا كان هذا هو الوضع العام، فإن تدني مستوى الإنتاج العلمي يظهر بشكل أوضح في مجال الدراسات المستقبلية، حيث لا توجد أي تقاليد بحثية جادة في الوطن العربي بهذا الخصوص. - عدم أو ضعف اقتناع الحكومات بأهمية البحث العلمي ودوره في رسم السياسات واتخاذ القرارات، ومن هنا توجد فجوة بين أجهزة ومؤسسات صنع القرار من ناحية، والمراكز والأجهزة البحثية من ناحية أخرى. - وجود قناعة لدى بعض الدوائر الرسمية في بعض الدول العربية، بأن الاستعانة بالجهات الأجنبية من أجل إجراء البحوث وإعداد الدراسات هي أنفع وأجدى. - ضعف الاهتمام الذي توليه القطاعات الإنتاجية والخدمية سواء كانت حكومية أم خاصة في الكثير من الدول العربية بعملية البحث والتطوير. - شيوع ظاهرة مثقفي أو باحثي السلطة في بعض الدول العربية، وقد دأب هؤلاء على أن يُسمعوا المعنيين في دوائر القرار ما يفضلون سماعه، حتى تحول الباحث أو المثقف إلى شاعر بلاط، الأمر الذي أسهم في قطع الطريق أمام الإسهامات البحثية الجادة من الوصول إلى دوائر صنع القرار. الحقيبة البحثية - إذا جاز التعبير- هي حقيبة وزارية في رسم سياسات معظم الدول الكبرى مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية التي تعتمد في كل خطواتها على ما يفرزه بعض المراكز البحثية من دراسات وأبحاث وقراءات. هل في رأيكم ستمثل مراكز الأبحاث العربية لبنة أساسية في رسم سياسة النظام العربي؟ - أوافقك الرأي تماماً على أن البحث العلمي يشكل مدخلاً رئيساً الى صنع السياسات والقرارات في الدول المتقدمة وبخاصة الولاياتالمتحدة الأميركية، وهذا أمر يتعين النظر إليه في ضوء اعتبارات عدة، منها: - الموازنات المالية الضخمة التي تُرصد للبحث العلمي. - التقاليد البحثية المستقرة التي تقوم على التخصص العلمي والمهنية وممارسة عملية النقد. - حرص دوائر القرار على الاستعانة بالبحث العلمي في رسم السياسات والقرارات. - المكافآت التي تُمنح للباحثين والخبراء من أجل التفرغ للبحث العلمي. وفي المقابل، يصعب القول إن المراكز البحثية في الوطن العربي ستشكل لبنة أساسية في رسم سياسة النظام العربي، وبخاصة أن مستقبل هذا النظام ذاته على المحك، بل إن هناك من يقول بنهاية النظام العربي. ولكن لو نظرنا إلى المسألة في إطار أوسع، وهو الإطار الخاص بمستقبل دور مراكز البحوث والدراسات في الدول العربية بصفة عامة، فلا يبدو أن ثمة بوادر إيجابية خلال المستقبل المنظور تشير إلى حدوث تغيير ملموس حيال دور هذه المراكز في ضوء تعدد وتنوع السلبيات وأوجه القصور التي تعاني منها. "حاضنة إبداع" هو مصطلح يحتاج إليه عالمنا العربي. ترى كيف نصل إلى جيل التميز وجيل النتاج المتخصص، والذي يحظى بندية الآخر في عصر المعلوماتية والتكتلات الاقتصادية العملاقة؟ - الحديث عن قضايا التخصص والتميز والإبداع في العالم العربي هو حديث ذو شجون. فالبحث العلمي في الوطن العربي وبخاصة فى مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية التي أعرفها أكثر من غيرها يقوم في معظمه على التقليد والنقل والتكرار والاجترار. وبالتالي فإن الإبداع يمثل الاستثناء. وهذا يظهر بوضوح في كثير من الكتب المنشورة وأطروحات الماجستير والدكتوراه التي تمنحها الجامعات العربية. أما من حيث الافتقار إلى التخصص العلمي، فلو نظرنا إلى حقل العلوم السياسية نجد أننا نتحدث كثيراً كعرب عن الولاياتالمتحدة. لكن الباحثين العرب المتخصصين فعلاً في دراسة النظام السياسي الأميركي هم قلة قليلة، والشيء نفسه ينطبق على المتخصصين في دراسة روسيا أو الصين أو اليابان. ونظراً الى غياب التخصص العلمي نجد باحثين على أتم الاستعداد للكتابة في أي موضوع من دون التزام بأي تخصص. وفي ضوء ذلك، فإن إرساء أسس لتشجيع الإبداع العلمي والتخصص الأكاديمي، إنما يتطلب عناصر عدة، أهمها: - إصلاح منظومة التعليم في الوطن العربي. فنمط التعليم القائم على التلقين والاجترار والحفظ يقتل فرص تنمية أي قدرة على الإبداع أو التفكير النقدي. - مراجعة معايير تعيين المعيدين في الجامعات العربية. فالحصول على تقدير عالٍ في السنة النهائية لا يعني بالضرورة أن صاحبه يمتلك المقومات التي تجعله باحثاً متميزاً، ولذلك يُلاحظ أن كثيرين من أعضاء هيئات التدريس في الجامعات العربية يتوقفون عن الإنتاج العلمي بمجرد الحصول على لقب أستاذ، على رغم أن ذلك يجب أن يكون بداية لمرحلة جديدة في عطائهم العلمي. - حرص الأقسام العلمية والكليات والجامعات على وضع معايير علمية واضحة للتخصص العلمي. - تنمية تقاليد احترام التخصص العلمي من المجموعة العلمية في كل مجال من المجالات، بحيث تصبح هناك التزامات ذاتية من الباحثين بهذا الخصوص. هل هناك قوانين سُنت تعوق حركة المراكز، أم ما زال الجسم التشريعي قاصراً في هذا الميدان؟ - من المؤكد أن البنى والهياكل التشريعية تعوق حركة البحث العلمي ودور المراكز البحثية في بعض الدول العربية، فهناك قوانين وتشريعات تؤثر في شكل مباشر أو غير مباشر على حرية البحث العلمي. فقوانين الطوارئ وغيرها من القوانين المقيدة للحريات موجودة في الكثير من الحالات، مما يصعب معه تناول بعض الموضوعات الحساسة. وهناك باحثون حوكموا في بعض الدول بتهمة نشر مقالات تسيء إلى سمعة الدولة، وتزخر تقارير منظمات حقوق الإنسان بأمثلة ونماذج على ذلك. ولعل اللوائح المنظمة لعمل الكثير من المراكز البحثية الحكومية تحد من دورها، حيث تخضعها للاعتبارات البيروقراطية التي تحكم عمل كثير من الحكومات، مما يؤثر سلباً على عمل هذه المراكز. وفي ضوء ذلك فإن الإصلاح التشريعي والقانوني بصفة عامة يشكل أحد المداخل الرئيسة الى إصلاح حالة البحث العلمي وتفعيل دور المراكز البحثية. ولكن لا بد من الثناء على الجهود التي تبذلها حكومة دبي في تقديم أنواع عدة من التسهيلات والتشجيع والرعاية التي لمسناها في جميع الهيئات الرسمية، وليس أدل على ذلك من الرعاية الكريمة للشيخ محمد بن راشد آل مكتوم ولي عهد دبي وزير الدفاع في دولة الإمارات لمنتدى العلوم الإنسانية والاجتماعية، والذي عقد في التاسع والعاشر من الشهر الجاري. ونود التأكيد على أن المركز وإيماناً منه بأهمية تفعيل دور مراكز الأبحاث والدراسات في الوطن العربي، بدأ بالفعل التحضير لتنظيم ورشة عمل علمية عن واقع مراكز البحوث في الوطن العربي وسبل تفعيل دورها. وسندعو جميع مراكز البحوث في الدول العربية إلى المشاركة في هذه الورشة لعرض خبراتها، ومناقشة المشكلات والمعوقات التي تؤثر على عملها، والتفكير في سبل مواجهة هذه المشكلات، فضلاً عن سبل ومجالات التنسيق والتعاون في ما بينها. وحتى تحقق الورشة الأهداف المرجوة منها بنينا قاعدة بيانات عن مراكز البحوث في الوطن العربي، وخاطبنا الكثير من هذه المراكز، والكثير منها تجاوب في شكل سريع. وبمجرد اكتمال هذه القاعدة من البيانات سنتيحها لجميع المراكز، حتى تسهم في تيسير التواصل والتعاون في ما بينها. ومركز الخليج للأبحاث على أتم الاستعداد لتقديم خلاصة خبرته في مجال استخدام نظم المعلومات في البحث العلمي لأي من المراكز العربية الجادة التي تسعى من أجل التطوير والتغيير في البيئة البحثية العربية. موقع "الخليج في الإعلام" أنشأ "مركز الخليج للأبحاث" موقعاً إلكترونياً إعلامياً يعرض فيه آخر المستجدات الإخبارية للمشاركين على الموقع، ويعرض الموقع تحليلات تتعلق بتطورات القضايا المهمة في منطقة الخليج، ويهتم موقع الخليج في الإعلام www.gulfinthemedia.com بالترجمات والأخبار السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إضافة إلى شؤون الدفاع والأمن والصحة والبيئة والعلوم التقنية والدين والثقافة.