يقول القطب الإخواني عصام العريان في مقاله المنشور في جريدة "الحياة" في عددها الصادر بتاريخ 28/2/2004 إن الداخل الإخواني قد حسم قراره بإنشاء حزب سياسي يشمل جميع الأعضاء ويفتح الباب أمام المصريين بكل انتماءاتهم للانضمام إليه بمن فيهم النصارى... هنا سيكون على الإخوان أن ينتقلوا نقلة هائلة في مشروعهم الإسلامي وهي الخطوة الرابعة والخامسة من عملهم المعلن من بدايات القرن الماضي تحرير الوطن الإسلامي من كل سلطان أجنبي وإصلاح الحكومة حتى تكون إسلامية بحق وتحقق مصالح العباد. على يسار مقال القطب الإخواني كتب القطب اليساري رفعت السعيد مقالاً ينتقد فيه جماعة الإخوان ويطالبهم بالاعتذار عما فعلوه سابقاً ناقلاً عن المرشد الجديد قوله: "الإخوان لا يعتذرون". والواقع أن الإخوان المسلمين ليسوا وحدهم هم الذين لا يعتذرون لأن ثقافة المكابرة وعدم الاعتراف بالأخطاء ومن ثم السعي الدؤوب لتبرير كل ما ارتكب هو جزء أصيل من ثقافتنا العربية والإسلامية والتي تجاوزنا بها تجاوزات من سبقنا من الأمم الذين قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة. أما نحن فنعتقد انه لن تمسنا النار لا أياماً معدودة ولا حتى ثواني معدودة ويكفي أننا منحنا من ارتكب أبشع الجرائم في حق أمتنا على مدى التاريخ أجراً واحداً كونه اجتهد فأخطأ أما من اجتهد فأصاب فله أجران، فلماذا يعتذر الإخوان عن قتل من قتلوه أو عن الإسهام في قتل أي تحول سلمي نحو الديموقراطية طالما امتلكوا أدوات التلفيق والتبرير والقدرة على مخاطبة مشاعر الجماهير واستدرار عطفها، فهي دائماً مع المظلوم حتى ولو كان هو الذي جاء بالظالم وسلطه على الجميع ثم تسلط عليه وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون، وهذا هو جوهر الصراع الإخواني الناصري! ولماذا يعتذر غير الإخوان ولماذا يعتذر اليسار أو اليمين أليست جميع المسائل تمام التمام؟ نعود إلى جماعة الإخوان المسلمين التي يعتقد القطب الإخواني أنها قاب قوسين أو أدنى من المرحلة الرابعة والخامسة ؟ ويتحدث بلهجة لا تخلو من الحماسة عن أن أي عملية ديموقراطية برعاية أميركية ستأتي بأكبر المعترضين على الهيمنة الأميركية، وأن الحزب الإسلامي الإخواني سيكون أحد فرسان المقدمة الثلاثة، وهو تقدير لا يخلو من الصحة في ظل تلك الأوضاع البائسة التي ازدادت بؤساً وتدهوراً بسبب ما يحدثنا عنه ذلك القطب من بزوغ نجم العسكريين! وهنا مربط الفرس، فمن الذي جاء بهؤلاء العسكريين وحملهم على جناحه إلى السلطة؟ نعود إلى مقال القطب الإخواني لنراه يعزو ذلك إلى مرحلة السيولة التي عاشتها الجماعة وقت سريان الحل والسعي إلى التغيير الفوقي والاتفاق مع جمال عبد الناصر الذي نجح في حشد الضباط الأحرار وكانت غالبيتهم من ضباط ينتمون إلى الإخوان ثم كان الانقلاب الذي لم يرض عنه المرشد، ثم الخلاف بسبب طبيعة المرشد الجديد القانونية التي تحترم الدستور والقانون وتطالب بعودة الحياة النيابية باستمرار. إن هذا الكلام يشير بوضوح إلى أن الأزمة ليست أزمة إخوان فقط ولا أزمة مسلمين بل هي أزمة أمانة وأخلاق وصدق في التعامل مع البشر الذين يراهم الأخ الدكتور مهيئين الآن لقبول هذه الخلطة الفاشلة التي جربت وفشلت فشلاً ذريعاً، وهي الآن أمر محتمل الحدوث بوساطة أميركية ستدفع الحزب الإسلامي إلى قمة السلطة عبر الانتخابات، فلماذا لا تقولون الحقيقة لهؤلاء الناخبين ولماذا تصرون على خداعهم؟... هذا هو السؤال. هل كان المرشد حسن الهضيبي غير راض عن الانقلاب ومجيء العسكريتارية الإخوانية الناصرية الى السلطة؟ الجواب نجده في كتاب الأخ صلاح شادي الذي كان مكلفاً من جانب قيادة الجماعة بالإعداد لإنشاء حزب سياسي والذي كان أيضاً همزة الوصل مع هؤلاء العسكر إذ يقول في كتابه "صفحات من التاريخ" وتمضي بنا أحداث الكتاب لتقدم لنا جانباً آخر من عظمة تلك الجماعة عندما تصارعها مظالم عبد الناصر وهي مظالم لم تنل من رجالها وحسب بالقهر والقتل والتعذيب وإنما تناولت بالتشويه مواقفها من الأحداث. فقد تنكر عبد الناصر ومعه ثمانية من أعضاء مجلس قيادة الثورة لبيعتهم مع الإمام الشهيد والصاغ محمود لبيب وعبد الرحمن السندي بعد نجاح الحركة في الوقت الذي تأخر فيه موعد قيامها في تموز يوليو 1952 يوماً في انتظار موافقة المرشد حسن الهضيبي الذي ذهب نفر من "الإخوان" إليه للحصول على موافقته. كل هذه الوقائع وغيرها أُسدل عليها ستار من التعتيم حتى لا يظهر موقع "الإخوان" من هذه الحركة وحتى يتيسر لقادتها التحرر من كل قيد حتى لو كان هذا القيد عهداً مع الله يقوم على حكم مصر حكماً إسلامياً رشيداً بعيداً من سلطان الغرب والشرق على حد سواء ص 13. إنه الكلام نفسه الذي يؤكده قطب الإخوان والتنظيم السري محمود الصباغ في كتابه "حقيقة النظام الخاص" مؤكداً أن عبد الناصر "تقلد قيادة تنظيم الضباط الأحرار بعد مشورة الإخوان وحصوله على موافقتهم ولكنه نسي كل هذا ووصف أساتذته بأنهم عصاة" ص 22. ألم أقل لكم إنها أزمة أخلاق وليست مجرد أزمة إخوان! السؤال الآخر الذي نود أن نوجهه إلى الأخ الدكتور عصام العريان هو لماذا قام رجل القانون المطالب بعودة الحياة البرلمانية واحترام الدستور والقانون بإعادة تشكيل تلك العصابة المسماة بالجيش الإسلامي، وفي رواية أخرى بالتنظيم الخاص بقيادة يوسف طلعت، وهو القرار الذي أشعل الصراع داخل الجماعة وانتهى باغتيال السيد فايز من جانب أعضاء القيادة المخلوعة، ثم توج هذا الصراع بفشل الجهاز الجديد في اغتيال جمال عبد الناصر وتحول الأمر كله إلى كابوس بشع دفع ثمنه أعظم قيادات الجماعة إعدامات وأكثر من عقدين من الزمان في سجون النظام الناصري. مجرد سؤال نوجهه لأولئك الذين لا يعتذرون بل ويغالطون عمداً مع سبق الإصرار والترصد. والأهم من هذا، أي فقه وفكر هذا الذي هدى الجماعة صاحبة الفكر الشامل الكامل لمشروعية الانقلاب والتغلب كوسيلة يرضاها الله سبحانه طريقاً للإصلاح وهي لم تكن مرة واحدة، إذ إنّ سليل مدرسة الإخوان حسن الترابي فعل الفعلة نفسها في السودان عام 1989 وكرر التجربة المريرة نفسها في السودان كما يقول قطب الإخوان. السبب نراه كامناً في مدرسة الفقه السياسي السائد، إذ ينقل أحد منظري "الإخوان" المعاصرين عن أحمد بن حنبل في اعتقاده: "السمع والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين البر والفاجر ومن ولي الخلافة فاجتمع عليه الناس ورضوا به، ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أميراً للمؤمنين، والغزو ماض مع الأمراء إلى يوم القيامة البر منهم والفاجر"، وقال أيضاً: "ومن خرج على إمام المسلمين وقد كان الناس اجتمعوا عليه وأقروا له بالخلافة بأي وجهٍ كان بالرضا أو بالغلبة فقد شقَّ هذا الخارجُ عصا المسلمين وخالف الآثار الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن مات الخارج على هؤلاء الأئمة مات مِيتةً جاهليةً ولا يحل قتال السلطان ولا الخروج عليه لأحد من الناس فمن فعل هذا فهو مبتدع على غير السنة". إذاً فالأزمة هذه المرة ليست أزمة "الإخوان" بل هي أزمة واردة إليهم من عمق الفقه الإسلامي الذي يحتاج هو الآخر إلى مراجعة شاملة تتعدى تلك الترهات الشكلية التي يسمونها تحولات الإخوان والجماعات، تلك التحولات التي تفتقر إلى أدنى عمق فقهي ولا تتعدى قيمتها قيمة أي تصريح يدلي به أتباع أي حزب سياسي لا يدعي الاستناد إلى الفهم الكامل الشامل للإسلام والدين كما يزعم هؤلاء. ونعود إلى المرحلة الرابعة والخامسة التي يزعم "الإخوان" أنهم على وشك بلوغها بل واجتيازها، وهم حاولوا القيام بهذه المهمة في العام 1952 من خلال ثورة تموز الإخوانية التي جاءت إلينا بالعسكريتاريا الحاكمة في العالم العربي والتي أجهزت على كل فرص التحول الديموقراطي التي كانت قائمة آنئذ، وكان أن دفع الإخوان ثمنها غالياً، وأفضت بنا إلى أننا أصبحنا في انتظار ما تجود به علينا الإمبريالية الأميركية وإصلاحاتها المفروضة. نعود إلى السؤال الأهم عن مستقبل الإخوان والذي يرى الأستاذ جمال البنا في حديثه المنشور في العدد نفسه أن ازدهارهم وتمددهم جرى بسبب فراغ الساحة أو بسبب وجود ما هو أسوأ وهو ما نعتقد بصحته تماماً. ومن هنا فالأزمة التي تعاني منها الأمة وليس "الإخوان" وحسب هي أزمة ناجمة عن حالة الشلل التي أصابت الفكر والفقه الإسلاميين وأقعدهما عن محاولة إيجاد حلول لأزمات الأمة ومشاكلها تتعدى تلك الشعارات التي أطلقتها جماعة "الإخوان" وجعلت منها المتاح الوحيد على الساحة. إنها إحدى أخطر الأزمات لأنها تجعل خيار الأمة محصوراً بين خيارات عدة أحلاها مر. إما استمرار الديكتاتوريات الحاكمة من دون بروز أي أفق إصلاحي، أو الارتماء في أحضان هؤلاء التلفيقيين الإسلاميين أو الانتظار حتى يأتي غودو بإصلاحاته الموعودة، ونحن منتظرون. * أستاذ في كلية الطب في جامعة المنصورة - مصر.