في العام 1649 قطع رأس الملك الإنكليزي تشارلز الأول على يد طائفة البيوريتان المتدينين، في خطوة شكّلت مع حكم كرومويل وصولاً الى ثورة 1688، بداية الثورة البورجوازية الإنكليزية، فيما أعدم فرنسيون مترسخون في علمانية فولتير وديدرو وإلحادية دوهلباخ، الملك لويس السادس عشر عقب أربع سنوات من ثورة 1789 البورجوازية. لم تكن العلمانية الإنكليزية laicism مناضلة ضد الدين بل محايدة بين الدين واللادين، إذ اقتصرت، منذ ان فصل الملك هنري الثامن كنيسة انكلترا عن روما في عام 1534، على فصل الكنيسة والكهنوت عن السياسة، فيما لم تمنع المتدينين من ممارسة العمل السياسي وأن يكون لهم تعبيرات سياسية. وهو ما حصل مع ثورة البيوريتان استوطن بعضهم اميركا الشمالية منذ 1620 هرباً من اضطهاد ملك انكلترا ضد الملك، عندما كان المزارعون الأغنياء والبورجوازية التجارية =البرلمان في مواجهة الملك والأرستقراطية، الى ان استطاعوا، في العام 1688، فرض الملكية الدستورية. وفيما نجد، في فرنسا، ان علمانيتها secularism، الآتية من مفكري "عصر الأنوار" قد بنيت على عدائية للكنيسة المتحالفة مع الملكية المطلقة، حتى وصلت مع رجالات الثورة الفرنسية، مثل روبسبيير ومارا وسان جوست، الى محاولة استبدالة المسيحية بدين جديد اسموه "دين العقل"، وهو ما تجاوزته مرحلة الديركتوار ونابليون، بعد العام 1794، من دون ان يؤدي هذا الى جعل الراديكالية، المتابعة تقاليد اليعاقبة الفرنسيين، والليبرالية، وبعدهما اليسار الفرنسي، في حال تصالحية مع الكنيسة والدين، كما نرى عند الليبراليين و"العماليين" البريطانيين. انعكس ذلك على مساري الاستعمارين الإنكليزي والفرنسي: لم يكن "عبء الرجل الأبيض"، اذا اخذنا بتعبير البريطاني روديارد كيبلنغ، متجاوزاً عند إداريي لندن في المستعمرات الى حدود دوائر السياسة والأمن والاقتصاد للوصول الى "رسالة تمدينية" تشمل الثقافة، بل كانوا غير عدائيين تجاه الثقافات والتقاليد المحلية، هذا إذا لم يحاولوا اللعب على مكوناتها الهند - مصر - السودان، وكذلك الأمر حيال البنى الاجتماعية القائمة، فيما نجد الفرنسيين مأخوذين بعناصر ثقافية قوية في سياستهم الاستعمارية. كان الأمر الأخير شاملاً كل المستعمرات الفرنسية، إلا اننا نلاحظ في تلك، التي هي ضمن العالم الإسلامي، ان العدائية الثقافية للدين، والذي هو هنا دين محدد اسمه الإسلام، قد وحدت في كنفها الملحد الوضعي إرنست رينان مع الأب اليسوعي هنري لامنس، حيث نلاحظ في كتاباتهما عن الإسلام توحداً في الرؤية لا نجده عند تناولهما المواضيع الخاصة بالمسيحية عندما يفترق الملحد واليسوعي، وهو امر ربما يعود الى معركة "بواتييه" 732م عندما وصل المسلمون الى وسط فرنسا، بينما لم تكن انكلترا، المعزولة في وسط البحار على خلاف اسبانياوفرنسا وإيطاليا، هي ارض المجابهة مع الهجمة الإسلامية الزاحفة نحو الشمال والتي كان فشلها الأخير مع فشل حصار العثمانيين لفيينا الكاثوليكية في العام 1683. ورأينا انكلترا، بعد هزيمتها الإسبان في معركة الأرمادا 1588، تصب جهودها في القرنين اللاحقين للسيطرة على العالم الجديد ومن ثم على الهند وممرات افريقيا البحرية، الى ان اجبرها الامتداد النابوليوني نحو جنوب المتوسط وشرقه للالتفات الى هناك. يعطي المساران المتناقضان، في التعامل مع المكونات الثقافية المحلية، لكل من لندن في مصر وباريس في الجزائر، صورة واضحة عن ذلك، حيث يقدم تعامل كرومر مع الشيخ محمد عبده مثالاً هو في الضفة الأخرى لما كان تعامل الفرنسيين مع ابن باديس وبشير الإبراهيمي: ما يلفت النظر، في هذا الصدد، حقيقة ان السياسات الفرنسية المراعية والمتقاربة مع القضايا العربية، والتي بدأت مع الجنرال ديغول في 1967 ربما من اجل تجاوز قطوعي السويسوالجزائر، لم تجد ترجمتها على صعيدي النظرة الثقافية الفرنسية العامة للإسلام والمسلمين ونظرة الفرنسيين الى الجالية المسلمة في فرنسا، فيما لم يؤد تناقض لندن التي كانت راعية لنشوء الدولة اليهودية في فلسطين وواشنطن التي حالفتها واعتمدت عليها منذ عهد جونسون السياسي مع العرب الى عدائية ثقافية للإسلام والمسلمين، ليس فقط قبل 11 ايلول/ سبتمبر وإنما ايضاً في الفترة اللاحقة له على رغم اسماء جيري فالويل وبات روبرتسون وبرنارد لويس. ألقت مشكلة الحجاب الفرنسية الأخيرة ضوءاً كاشفاً على كل ذلك، وما يلفت النظر فيها، كثيراً، ذلك الإجماع السياسي الفرنسي، ومن ورائه المكونات الثقافية والاجتماعية، على منع الحجاب والذي وحّد كل الأطراف من اقصى اليمين الى اقصى اليسار، كما جرى في تصويت "الجمعية الوطنية" الفرنسية حول ذلك، فيما لم يؤد 11 ايلول الى هستيريا اميركية، اجتماعية او رسمية، عدائية للإسلام والمسلمين كما جرى من جهة الأميركيين بعد "بيرل هاربور" ضد اليابانيين، او تجاه السوفيات والشيوعية في الخمسينات اثناء موجة المكارثية. ولا يلاحظ ذلك، فقط، في نيويورك وديترويت وسان فرانسيسكو بل ايضاً في بغداد مع بول بريمر، والذي يذكّر كثيراً بسياسة كرومر في القاهرة تجاه الثقافة والبنى الاجتماعية المحليتين، من دون ان يؤدي هذا الى التخفيف من وقع الاحتلال الأميركي على العراق سياسياً وعسكرياً واقتصادياً. هل كان من المصادفة إرسال رئيس الوزراء التركي اردوغان ابنتيه المحجبتين للدراسة في الجامعات الأميركية، بعد ان رُفضتا في الجامعات التركية، المحكومة بظل اتاتورك الذي كانت علمانيته مدرجة في اطار تقاليد العلمانية الفرنسية؟ * كاتب سوري.