كانت جريمة اغتيال الشيخ الشهيد أحمد ياسين من جانب حكومة شارون في أحد وجوهها تغييباً لعلم كبير آخر من جيل مؤسسي المشروع الاسلامي الوطني في فلسطين، بعدما تم تغييب مؤسس حركة الجهاد الاسلامي الشهيد فتحي الشقاقي اغتيالاً في مالطا من جانب حكومة رابين في العام 1995. يطرح غياب مؤسسي هذا المشروع الاسلامي حركة حماس، وحركة الجهاد، وبعد قرابة ربع قرن على انطلاقته 1980-2004، العديد من الأسئلة عما أنجزه هذا المشروع وعما يواجهه من تحديات في أفق الصراع مع المشروع الصهيوني. بداية يمكننا القول ان حركتي حماس والجهاد الاسلامي تجاوزتا سؤال التأسيس في بعث المشروع الاسلامي الذي يجعل من فلسطين قضيته المركزية على صعيد الأيديولوجيا والممارسة لتصلا ما انقطع من الإرث الكفاحي للحركة الاسلامية في علاقتها بتاريخ فلسطين الحديث في مواجهة الاحتلال. كما تجاوزت مسألة التأسيس للشراكة الوطنية الكفاحية مع بقية الفصائل الفلسطينية، بجعل فلسطين، والوحدة الكفاحية قاسماً مشتركاً بين الجميع، ليغدو المشروع الإسلامي في فلسطين قوة أكبر في تحديد مصير فلسطين. ولقد شكّلت الانتفاضة الفلسطينية الأولى في العام 1987 الولادة الحقيقية، ومجال الاختبار الاول والأوسع لفعل الإسلاميين الفلسطينيين الكفاحي والتي منحتهم قوة ذاتية وأورثتهم تجربة غنية في مواجهة الاحتلال. ولكنهم سرعان ما اصطدموا بمشاريع التسوية السلمية التي عملت على خط معاكس باستثمار الانتفاضة سياسياً، مسفرة عن اتفاق أوسلو 1933 لتجبه الحركة الإسلامية بتحديات وتحولات الانقلاب في واقع القضية الفلسطينية بولادة سلطة فلسطينية تدير شؤون قسم كبير من الفلسطينيين، وتشرف على شيء من اجتماعه المدني "المنقوص" وتخوض في الوقت نفسه مفاوضات مع سلطة الاحتلال. كانت اجابة الاسلاميين على هذا الواقع الجديد مواجهة مشروع التسوية سياسياً، وعدم المشاركة في مؤسسات السلطة. وممارسة أعلى درجات ضبط النفس والصبر أمام ممارسات بعض أجهزة الأمن الفلسطينية التي اعتقلت قادة الجهاد العسكريين كالشهيد هاني عابد، او فرض الاقامة الجبرية على الشيخ ياسين، مروراً بمواجهات مسجد غزة التي ذهب ضحيتها العشرات من المصلين. وحافظت حركتا حماس والجهاد على موادعة داخلية مع السلطة، وقتالية عالية وجهت ضد قوات الاحتلال ومستوطنيه تمثلت بانطلاقة العمل الاستشهادي الذي ادى الى استهداف حكومة رابين لمؤسس حركة الجهاد الشهيد فتحي الشقاقي في العام 1995، ولاحقاً استهداف حكومة بيريس مسؤول الجناح العسكري لحركة حماس يحيى عياش 1996. كان رهان الاسلاميين على فشل مشروع التسوية يلحظ طبيعة اسرائيل الارهابية، وهو ما وقع فعلاً بعد تعثر وفشل كل الاتفاقات السياسية المبرمة مع السلطة بدءاً من أوسلو 1993 وصولاً الى كامب ديفيد الثانية 2000، لتندلع انتفاضة الأقصى التي شكّلت بامتياز الفرصة التاريخية الثانية للإسلاميين ورافعتهم الأهم فلسطينياً وإقليمياً ودولياً. دخل الإسلاميون الفلسطينيون انتفاضة الأقصى بعزم أقوى بعدما أفادوا من سياسة الموادعة مع السلطة، كما أفادوا من فشل مشاريع السلام في إعادة قطاع مهم من حركة فتح الى ساحة المواجهة العسكرية مع الاحتلال، لتولد كتائب شهداء الأقصى الى جانب كتائب عز الدين القسام التابعة لحركة حماس، وسرايا القدس التابعة لحركة الجهاد، لتشكل جميعها قوة ردع للاحتلال الاسرائيلي تحقق شيئاً من توازن الردع، ولتعيد المشروع الصهيوني لأسئلة التأسيس والمصير لأول مرة منذ العام 1948. واستطاعت كلتا الحركتين ان تحافظا على حد جيد من التنسيق الفلسطيني الداخلي عبر "اللجنة العليا للانتفاضة" لتجنب الساحة الفلسطينية شر الاقتتال على رغم كل التقلبات السياسية، والتحريض الاميركي والاسرائيلي، وضغطهما المتواصل على السلطة للنيل من الحركتين وقواعدهما ومؤسساتهما. لقد غدا الاسلاميون الفلسطينيون بعد ربع قرن من انطلاقتهم المعاصرة قوة ضمير وحركة اجتماعية عميقة الجذور في المجتمع الفلسطيني يقومون بدور اجتماعي وانساني الى جانب عملهم السياسي والعسكري، وان استواءهم قوة تتجاوز حدود فلسطين، وبعدما تعمدت قوتهم هذه بمعاناة مجاهديهم، ودماء شهدائهم، فإن تحديات هائلة تواجههم في المرحلة المقبلة ترهن حاضرهم كما ترهن مستقبلهم. منها تحدي الحفاظ على الوحدة الوطنية، والعمل الوطني الفلسطيني المشترك وعدم الوقوع في اغراء الشهرة والدعم التي باتت الحركة الاسلامية الفلسطينية تتمتع به على المستوى العربي والاسلامي فضلاً عن الفلسطيني، وتجاوز لغة الاحجام ونسب التمثيل، وخاصة اذا اعاد الاحتلال انتشاره في قطاع غزة واقتضى الحال وجود سلطة مدنية تدير شؤون الناس. اي ضرورة ان تتحدد علاقة حماس والجهاد مع السلطة الفلسطينية القادمة مبدأ المشاركة لا المحاصصة، وهو الامر الذي لا نستطيع ان نتنبأ به في ضوء مطلب بعض الاسلاميين بتمثيلهم "المناسب" المتفق مع حجمهم الميداني، ولأن المسألة مرتبطة ايضاً بمدى وعي الطرف الوطني المقابل في التعاطي مع هذه المسألة. كما ان التحدي الآخر المفروض على صعيد العلاقات الفلسطينية الداخلية هو وصول الاسلاميين الفلسطينيين والحركة الوطنية الى برنامج وطني شامل وفق الحد الأدنى من برامج العمل والأهداف وإيجاد صيغ توافقية كفيلة بتجميع كل القوى على القواسم المشتركة حفاظاً على الوحدة الفلسطينية على قاعدة مواجهة الاحتلال. اما تحدي مواصلة الكفاح المسلح الذي يشكل عنوان الحركتين الأبرز والمبرر التأسيسي الأهم في انطلاقتهما، فأوله لغايات الردع بعد جريمة شارون باغتيال الشيخ ياسين، ولكن مواصلته على المدى البعيد اصبح اكثر تعقيداً في ظل الصعوبات اللوجستية البالغة التي اصبحت تحيط به، من اغلاق كامل لقطاع غزة، ومن اقامة جدار الفصل العنصري في الضفة. كما ان مستقبل العمل العسكري سيبقى غامضاً في المناطق التي سيعيد الاحتلال فيها نشر قواته مع الاشتراطات الأمنية للسلطة. واذا كان الاسلاميون الفلسطينيون اتسموا بالواقعية الايجابية وهم يطرحون في مرحلة متقدمة من دخولهم معترك الصراع استعدادهم لوقف المقاومة في حدود العام 1967 اذا قام الاحتلال بالانسحاب منها دون التخلي او التفريط بفلسطين وإسلاميتها، فما هو المدى الذي يمكن ان يذهبوا اليه في هذا الشأن؟ وهناك تحدي وحدة التنظيم داخل كلتا الحركتين حفاظاً على نمط من التقليد المؤسسي والشوري يسمح بقواعد التداول السياسي، وتوسيع دائرة المشاركة في اتخاذ القرارات، والتدافع السلمي الداخلي، ولا يخفى ان احد اهم اهداف شارون من اغتيال المؤسس الشيخ الشهيد احمد ياسين، خلق فراغ قيادي مركزي قد يؤدي الى انقسامات وصراعات بين القيادات السياسية الشابة، وهو الهدف الذي فشلت حكومة اسرائيل في تحقيقه عند اغتيالها لمؤسس وأمين حركة الجهاد، اذ توحدت الحركة تحت قيادتها الجديدة الدكتور رمضان شلّح، وهو الأمر ذاته الذي تؤكده كل الدلالات بخصوص حركة حماس التي تتوفر على وعي قادتها كما برز من تصريحات خالد مشعل وعبدالعزيز الرنتيسي، ولتوفرها ايضاً على الحاضنة الإخوانية من جيل الشيوخ. وفي هذا السياق الداخلي فإن تحدي علاقة الإسلاميين في ما بينهم تحقيقاً لحد معقول من الوحدة والتنسيق بناء على ما توفر من شراكة تكتيكية للحركتين اضافة لوحدة مرجعيتهما العقائدية يفرض العمل على تجاوز الإرث التاريخي من التدافع الحزبي القديم تجسيداً لمشروعية الحالة الإسلامية الواحدة في فلسطين. لقد اتسمت كلتا الحركتين بوعي عميق لمأزق التحولات الكبرى إثر الحادي عشر من ايلول سبتمبر فوقفتا ضد العنف الأعمى صارفة الأنظار في الوقت نفسه الى ضرورة دراسة الأسباب وحافظت على هويتهما كحركتي تحرر وطني، وبذلك فقد شكلتا وما زالتا رافعة للحالة الاسلامية في عموم المنطقة العربية وهو ما تشهد عليه ردود الفعل على اغتيال ياسين. وعليه يبدو الاسلام الوطني المحارب بنسخته الفلسطينية قوة تجديد وتنوير داخل الحركة الاسلامية العربية في مقابل الصورة السلبية التي تخلّفها "السلفية الجهادية"، وهو تحدٍ يحتاج الى مزيد من الصياغة الفكرية والسياسية إسلامياً. كما ويحتاج الى الثبات من دون نقل الصراع خارج فلسطين امام استفزاز العنف الصهيوني، تحقيقاً لوعي سياسي اسلامي راشد داخل تجمعات الاسلامية الحركية عموماً بما يخدم التحرر الفلسطيني والنهوض الاسلامي العام. وقد غدا الاسلاميون الفلسطينيون وبحكم تجربتهم السياسية وطبيعة الصراع المعقد في فلسطين نموذجاً رشيداً للإسلاميين في كل مكان في الجمع بين المرونة السياسية والواقعية الايجابية، والحفاظ على أسس الصراع ومبادئه وأهدافه، ضمن حراك وطني يحفظ التعدد في إطار الوحدة النضالية. ان صعود نجم الاسلاميين الفلسطينيين وارتفاع أسهمهم اقليمياً وعالمياً سيدفعهم الى توسيع شبكة علاقاتهم السياسية طلباً للدعم وللحصانة في مواجهة الحصار الأميركي المتصاعد، وسيدفع أطراف عدة في المقابل الى مد جسور الصلة معهم، تودداً لهم او التفافاً عليهم، وهنا يقع التحدي الخاص بمدى محافظتهم على جذريتهم السياسية في الموقف من مشاريع التسوية في مواجهة ألاعيب السياسة ومتطلباتها في التوسط والبراغماتية. * باحث فلسطيني.