حين عرض المخرج الأميركي الكبير، اورسون ويلز، المنفي الى أوروبا وسينماها في ذلك الحين، الفيلم الذي اقتبسه عن رواية "المحاكمة" لفرانز كافكا، كثرت الحوارات الصحافية التي اجريت معه، وجلّها كان راغباً في معرفة خلفيته الفكرية الشخصية من خلال اشتغاله على عمل يحمل اصلاً الكثير من التأويلات والتناقضات الفكرية. ويومها سأله واحد من الصحافيين النقاد قائلاً: "في هذا الفيلم تبدو وكأنك توجه انتقاداً حاداً الى مسألة إساءة استخدام السلطة من جانب الذين يقبضون عليها. بل ربما كان ثمة في الأمر، بالنسبة إليك، ما هو اعمق من ذلك بكثير، إذ ها هو السيد ك. انطوني بركنز في الفيلم يظهر هنا على شكل بروميثوس...". فأجابه اورسون ويلز: "إن ك.، هو بدوره بيروقراطي... ولذلك انا ارى انه يتحمل قسطاً كبيراً من الذنب بدوره". وحين عاد الصحافي ليسأله لماذا يقول ان ك. مذنب، كان جواب ويلز بكل وضوح: "انه ينتمي الى شيء يمثل الشر. وهذا الشيء يشكل جزءاً منه في الوقت نفسه. صحيح اننا لا يمكن ان نقول انه مذنب في ما هو متهم به من جانب السلطة التي تطارده. لكنه مذنب على اي حال. انه ينتمي الى مجتمع مذنب، ويتعاون مع هذا المجتمع. ومهما يكن من الأمر فأنا هنا لا أدعي انني من محترفي تحليل اعمال كافكا، لذلك اكتفيت بالتعبير عن رؤيتي الخاصة". ولكن هل كان على جوزف ك. ان يقاتل؟ سأل الصحافي ويلز فأجاب: "اجل... انه لا يقاتل، وربما كان عليه ان يفعل ذلك. كان عليه ان يقاوم. ومع هذا انا لا أحازب احداً في فيلمي، لا ك. ولا خصومه... لكنني اعرف انه، يتعاون معهم طوال الوقت. وهو يفعل ذلك في كتاب كافكا ايضاً. ومن هنا تعمدت ان يكون كل ما أسمح له به في الفيلم هو ان يتحدى حاكميه ومعدميه في النهاية". على رغم ان رواية "المحاكمة" لكافكا تعتبر من اشهر روايات هذا الكاتب التشيكي باللغة الألمانية، فإن كافكا لم ينجزها ابداً، حتى وإن كان قد بدأ كتابتها قبل سنوات عدة من رحيله. وكذلك فإن ما نشر من هذه الرواية حيّر دائماً القراء والمترجمين، الى درجة انها ترجمت مرات عدة الى الفرنسية، حيث راح كل مترجم، يجد ان ترجمة سابقه لم تفِ العمل ما يحمله من مرح وفكاهة. والغريب في الأمر يكمن ها هنا، اذ ان هذا العمل الذي يعتبر من اكثر نصوص بدايات القرن العشرين مأسوية وتعمقاً في الحديث عن المصير الفجائعي للشرط الإنساني تحت ربقة السلطات البيروقراطية، هو في الوقت نفسه عمل فكه هزلي كان يتعين عليه دائماً ان يثير قهقهة قرائه. ولقد ذكر لنا كاتبو سيرة كافكا انه حين كان ينكب على كتابة فصولها منذ العام 1914 وحتى بدايات العام 1917، كان يجد لذة في قراءة تلك الفصول امام اصدقائه غارقاً في الضحك ازاء ما يحدث لبطله في تلك الفصول. ولقد كان من بين اولئك الأصدقاء ماكس برود الأديب الذي سرعان ما هاجر الى فلسطين مدفوعاً وراء حلمه الصهيوني حاملاً معه اعمال كافكا ناشراً اياها متاجراً بها بعد موت كافكا، مبدلاً احياناً فيها مضفياً على بعضها طابعاً يناسب افكاره هو. ولقد كانت "المحاكمة" من بين تلك الأعمال... بل انها كانت اول عمل لكافكا ينشره برود في طبعة اولى في العام 1925، اي في العام التالي لموت كافكا، اتسمت بتلك المسحة التراجيدية التي اخفت دائماً معالم الهزل الكافكاوي الأسود. غير ان الرواية كما نعرفها اليوم، وكما اقتبسها اورسون ويلز، عادت واستقامت ضمن منطق كافكا وهزله المقصود. "المحاكمة" كما نعرفها الآن، وفي ترجمات عدة هي اذاً، الرواية كما شاء لها كافكا ان تكون، حتى وإن كان هو نفسه قد رغب في ألا تنشر ابداً... بل كان يرغب، ايضاً، في ألا ينشر إلا القليل القليل من اعماله. ومع هذا نشرت "المحاكمة" وصارت علامة من علامات الأدب الحديث، المنتفض - على طريقته - في مناوأة حداثة تستلب الإنسان وتسحب منه انسانيته. ورواية "المحاكمة" هي، طبعاً عن جوزف ك. الموظف البيروقراطي في شركة، والذي لم يكن يتطلع الى اكثر من ان يعيش حياة عادية روتينية، وسط معارف قليلين، وأحداث بالكاد تذكر، ولكن حدث له ذات يوم ان افاق ليجد رجال السلطة يسعون الى القبض عليه ومحاكمته وإعدامه: لماذا؟ وما هو ذنبه؟ لا هو يحار جواباً، ولا مطاردوه يعرفون السبب. إنهم يكتفون بتنفيذ الأوامر وبالتحقيق من حوله ومن حول تصرفاته. بل إن "القضاة" الذين يحكمون عليه في النهاية بالإعدام، لا يعرفون تماماً ما هي تهمته. والحقيقة انه على رغم افتراض بعض الباحثين بأن كافكا، لو استكمل كتابة روايته هذه، كان سيكون من شأنه ان يقول لنا ما هي تهمة جوزف ك.، فإن الواقع يقول لنا ان الكاتب ما كان ابداً سيفعل هذا، وإلا فإن جوهر العمل نفسه سيضيع. لأن ك. ونحن ومطاردي ك. الذين قد يكونون مطاردينا نحن ايضاً، وقد نكون نحن المطارَدين بفتح الراء والمطارِدين بكسر الراء هذه المرة، كل هذا القوم الجميل، لا يمكنه ان يعرف حقيقة الذنب. وثمة في سياق اعمال اخرى لكافكا - جلّها ايضاً لم ينشر خلال حياته - ما يؤكد هذه الفرضية. واستطراداً كان كثر من الباحثين ولا يزالون، يرون ان "المحاكمة" إنما هي هكذا مكتملة تماماً كما كان ممكناً لها ألا تكتمل على الإطلاق... فعمّ تتحدث هذه الرواية، إذاً؟ بكل بساطة عن التبرير - او تبرير الوجود نفسه -، او حتى عن استحالة التبرير في عالم الكابوس الذي تعيش فيه... والذي صنعناه على اي حال بأيدينا. ومن هنا يمكن لنا ان نفهم اورسون ويلز تماماً حين يقول انه يرى ان "ك." مذنب بدوره. بل ربما كان المذنب الأول. وليس فقط لأنه استنكف عن المقاومة، بل راح يتعاون مع مطارديه وحاكميه حتى اللحظات الأخيرة، بل ايضاً لأنه اندفع في التعاون مع هؤلاء بحماسة قد لا تبررها فقط، رغبته في معرفة ما الذي يحدث له، او حتى رغبته في انقاذ نفسه من ذلك "المصير الغامض" الذي رأى مطارديه يقودونه إليه من دون ان يتمكنوا هم انفسهم من تقديم اي شرح. وما المسار الذي تسير فيه قضية جوزف ك. في تتالٍ بين صاحبة بيته وجارته والمحامي ورجل الدين والرسام... الى آخر ما هناك من شخصيات تستعرضها الرواية تباعاً، سوى صورة للمجتمع ككل... هذا المجتمع الذي هو - في نهاية الأمر - إطار جريمة لا يعرف احد كنهها... ومكان تنقل ضحايا وجلادين، لا يعرف احد من عيّنهم كذلك. ذات يوم كتب روجيه غارودي عن كافكا يقول في كتابه الأهم "واقعية بلا ضفاف": "إن عظمة كافكا تكمن في كونه قد عرف كيف يخلق عالماً اسطورياً لا ينفصل عن العالم الحقيقي ايما انفصال... لقد خلق كافكا عالماً غرائبياً باستخدامه مواد من عالمنا هذا، لكنها مركبة تبعاً لقوانين اخرى". والحال ان قول غارودي هذا، ينطبق على "المحاكمة" بحذافيره، حيث من الواضح ان المزج بين الواقعية والغرائبية يضعنا مباشرة في صلب الأزمان الحديثة. لم يعش فرانز كافكا 1883 - 1924 طويلاً حتى يشهد كم ان القرن العشرين اكد مخاوفه التراجيدية وألبسها، وسط فجائعيتها اردية كوميدية مرعبة... لكنه عاش بما يكفيه لكي تكون له تلك الحياة الغريبة التي ما برحت تلهم المؤرخين والكتّاب. فاليهودي ألماني اللغة الذي ولد في براغ، عرف كيف يجعل من حياته، روايته الكبرى، عبر آلامه وضروب رفضه لأبيه وقومه، وغرامياته وكتاباته وخيباته. ولقد انتج ذلك كله نصوصاً لم ينشر منها كافكا في حياته سوى النزر اليسير، مثل "طبيب في الريف" و"الحكم" و"المسخ" و"معسكر العقاب"، اما بقية اعماله ومنها "اميركا" و"القصر" فإنها نشرت بعد رحيله.