- 1- "الصّبغة الإسلامية" أحسنَ اللبنانيون باعتراضهم على قرار انضمام لبنان الى "إيسيسكو" المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة. اعترضوا بلسان رئيس المجلس النيابي، نبيه بري، في "تجميده مشروع القانون الذي أحالته الحكومة على المجلس النيابي والذي يقضي بالانضمام الى "المنظمة الاسلامية للتربية والعلوم والثقافة" النهار، 23 شباط/ فبراير، 2004. واعترضوا بلسان وزير الثقافة، غازي العريضي، في قوله: إن لبنان "غير مُلزم بتطبيق الإسلام في مناهجه التربوية، إذا انضمّ الى المنظمة" المصدر السابق نفسه. واعترضوا بلسان متروبوليت بيروت للروم الكاثوليك، المطران يوسف كلاس المصدر السابق نفسه. وقرأت، في المصدر نفسه، أفراداً آخرين يعترضون على هذا الانضمام. وهو اعتراض يجب أن يتحوّل الى رفض قاطع، وأن يكون عاماً. توكيداً على هذا الرفض القاطع العام، أودّ أن أضيف اعتراضي، شخصياً. لكن، ما هذه "الصبغة الإسلامية"؟ ينصّ البند السادس من ميثاق هذه المنظمة على "إضفاء الصبغة الاسلامية على مظاهر الفن، والثقافة، والحضارة" في المجتمعات العربية - الإسلامية. فكيف تُفهم هذه "الصّبغة"، وكيف تُحدَّد؟ وقبل كل شيء، هل تُعْقَلُ؟ وهل هي ممكنة؟ وهل للإسلام صِبْغة شعرية، أو فنية، لكي تكون له صبغة ثقافية أو حضارية؟ وهل هناك "إبداعٌ" خاصٌّ بالإسلام، وما هو؟ والإسلام نفسه، أهو "واحدٌ"، أم "متعدّد"؟ وهل ستكون هذه الصبغة "سنّية" أم "شيعية"، "زيدية"، أم "وهابيّة"، "إباضيّةً"، أم "صوفيّة"؟ أم أن هذه الصّبغة سوف تُوزَّع على التعددية الإسلامية، وفقاً لمبدأ الأكثرية والأقلية؟ ولنعد أولاً الى الماضي والى التاريخ. فلعلّ المهتمين يعرفون أن الشعر الذي سُمّيَ "إسلامياً"، في العهد الإسلامي الأول، كان رديئاً وضعيفاً جداً، من الناحية الفنية - الجمالية، وأنه لم يترك أي أثرٍ طيب في الشعر العربي، لا من حيث الصناعة، ولا من حيث الذائقة، وأنه اضمحل وانطفأ من تلقاء ذاته. لم تقبله، من جهة، أذواق المسلمين أنفسهم، ولم يدخل حتى الى نفوس المؤمنين بينهم. وكان، من جهة ثانية، مجرّد إناءٍ قبيحٍ يُملأُ بأفكار قرآنية جميلة، كان المؤمنون يؤثرون أن يأخذوها مباشرة من النص القرآني نفسه، ودون وساطة لا جمالَ فيها ولا فنّ. ولعلّهم يتذكرون، في حركة الجدل حول هذا الشعر، ما قاله الناقد العربي الشهير الأصمعي: "الشعر نَكَدٌ بابه الشرّ، فإذا دخلَ في الخير فسَد"، وكان يعني بالخير، هنا، الدين نفسه، قيماً وتعاليم. هكذا، منذ قيام الدولة الأموية، انتهى هذا الشعر ذو "الصبغة الإسلامية". وليس تاريخ الشعر العربي، الشعر الذي صنع مجد العرب، فنياً وجمالياً وفكرياً، ومجد "الإسلام العربي" إلاّ تاريخاً للقطيعة الجذرية الشاملة مع "الصبغة الإسلامية". وتلك هي مناسبة لإعادة النظر في الصفة: "إسلامي"، تلك التي يطلقها بعض المؤرخين أو جلُّهم على الآداب والفنون والعلوم والفلسفة العربية. فهذه الصفة لا تعني أن هذه النتاجات الفكرية أو العقلية تنقل الإسلام، بوصفه ديناً، أو تنقله بخصائصه الدينية التي تميزه عن غيره من الأديان، وإنما تعني أنها أُنتجت في بلدانٍ يحكمها الإسلام سياسياً. لا تُطلق هذه الصفة: "إسلاميّ"، بالمعنى الديني، الحَصْريّ، إلا على النتاج الذي يتخذ من الإسلام - الدين، مادته الوحيدة. وهو مُنحصِرٌ، تحديداً، في الشّرْع والفقه. وهذا الإسلامُ - الدين رفض، تاريخياً، ويرفض أن يطلق هذه الصفة "إسلامي"، على نتاج المتصوفين، الحلاّج والنفّري، وابن عربي، تمثيلاً لا حصراً، وعلى نتاج الشعراء، أبي نواس وأبي تمام والمتنبي والمعرّي، تمثيلاً لا حصراً، وعلى نتاج العلماء، ابن الهيثم والخوارزمي وجابر بن حيّان، تمثيلاً لا حصراً، وعلى نتاج الفلاسفة ابن الراوندي والرازي وابن رشد، تمثيلاً لا حصراً. وهو يرفض أن يطلق هذه الصفة على الموسيقى والغناء والرقص. الى ذلك، هل يمكن أن تطلق هذه الصفة على النتاجات العربية الحديثة، فنقول، مثلاً، علم نفس إسلامي، وأنثروبولوجيا إسلامية، وكيمياء إسلامية، وكومبيوتر إسلاميّ... إلخ، تمثيلاً لا حصراً؟ في "لسان العرب": أنّ الصبغة هي ما "ىُصْبَغُ به، وتُلوّن به الثياب". وصبغة الله: دينه، ويُقال: أصله. والصبغة: الشريعة والخِلْقَة. وهي الخِتَانةُ. ويقال: "صِبغة اللّه دين اللّه وفطرته". وكلّ ما تُقرِّب به الى الله، فهو الصِّبغة. فأيّ معنى تريد هذه المنظمة من معاني "الصبغة"، كما يوردها "لسان العرب"؟ أم لعل المشرفين على هذه المنظمة يريدون "الصِّباغة"؟ وكيف "يُصبغ" الشعر، والفن، والفلسفة، والعلم؟ وهل الحضارة "ثوبٌ" نصبغه بالإسلام؟ سأحسن الظنَّ بواضعي هذا الميثاق، وأقول إنهم استخدموا هذه الكلمة، دون أن يدققوا في دلالتها. سامحتهم اللغة العربية، وسامحهم الإسلام! مرةً ثانيةً: أَحْسَنَ اللبنانيون. - 2 - "البيت الثقافي العربي" لا أفاجأ، طبعاً، أن يغضب شعراء عديدون من منحي جائزة سلطان العويس للإنجاز الثقافي، خصوصاً أن اسمي اقترنَ في منحها باسم الصديق الكبير محمود درويش، أو أن يهاجمها بعضهم بأسماء مستعارة، حتى في هذه الصفحة! لكن العدد الأكبر من المفكرين والشعراء والكتّاب رأوا في هذا المنح ما يُفْرِد مؤسسة سلطان العويس عن غيرها، تميزاً في النظر والمعرفة، وجرأةً في القرار. وتلك هي مناسبة للتذكير بأن الأمانة العامة لهذه المؤسسة تؤكد في سياستها الثقافية أن البيت الثقافي العربي لا يحتاج الى الأعمال التي تعيد تنظيم أو توزيع الأثاث المتراكم فيه، وإنما يحتاج، بالأحرى، الى أعمالٍ تعيد النظر في الأسس التي ينهض عليها. ولئن كان الإبداع وحدة لا تتجزأ، فلا يمكن أن ينشأ فكرٌ عظيم، إذا لم تكن الرؤية الشعرية، في أساس مُقارباته المعرفية. كذلك لا يمكن أن ينشأ شعر عظيمٌ إذا لم يكن الفكر نبضه الحيَّ. كل عملٍ فني باللغة إنما هو شريحة وجود، وشريحة حياة، وشريحة ثقافة. كل نتاج عظيم باللغة يجب أن يُقرأ بوصفه معجماً آخر للوجود. وفي هذا ما يؤكد ضرورة ثقافية مزدوجة: تتمثل الأولى في القطيعة الكاملة مع المؤسسات الثقافية السائدة، معايير وقيماً، ومع الأسس التي تصدر عنها، وتتحرك ضمن مقتضياتها السياسية والدينية والاجتماعية. فهذه المؤسسات ليست إلا تثبيتاً لما يجب أن يتحرّك، ودعماً لما يجب أن يُزْلزَل، وانتصاراً لما يجب رفضه، ودخولاً في ما يجب الخروج منه. وتتمثل الضرورة الثانية في الانتباه الشديد لنتاج الشبان العرب في مختلف الميادين، والاحتفاء به، وفي ضمّ الفن التشكيلي العربي، في مختلف تجلياته، الى العالم الأدبي - الفكري، بحيث يُصبح جزءاً لا يتجزأ من هذا العالم. خصوصاً أن هذا الفن هو، اليوم، في تقديري، الجانب الأكثر إبداعية في النتاج العربي. وليس إهماله على النحو الذي نراه في حركة الثقافة العربية إلا إهمالاً للغة نفسها. ولئن سئلت، اليوم، مثلاً، عن ذكر خمسة شعراء عرب ذوي مستوىً كوني، فإن عليّ أن أفكر طويلاً. بينما لو سئلت عن ذكر خمسة فنانين تشكيليين عرب من هذا المستوى، فإنني أسمّيهم فوراً، ودون تردد. هذه كذلك مناسبة للقول بأنه آن للمال العربي أن يوسّع دائرة تقليده للمال في البلدان الأوروبية وفي الولاياتالمتحدة. فرجال المال في هذه البلدان يضعون في رأس اهتمامهم بناء المتاحف، ومراكز البحوث الفنية والعلمية، إضافة الى دعم المبدعين ونشاطهم الإبداعي. نعم، لقد آن للمال العربي أن يخرج من "توحّشه" ومن "جهله" - في كل ما يتعلّق بالإبداع العربي، فناً وفكراً وعلماً. - 3 - "اللغة، هذه الرئة الثانية" اللغة، بالنسبة الى المبدع، الى الشاعر خصوصاً، هي رئته الثانية: إذا لم يتكلّم بحرية، ويكتب بحريّة، فكأنه لا يتنفس. كأنه يعيش مختنقاً. وكيف يقدر أن يخدم بلاده شخصٌ أو كاتب يجد نفسه أنه يعيش في حالة اختناق متواصل؟ وكيف يمكن أن يقدم لها إلا الاختناق؟ وتلك هي الحال: المؤسسات الثقافية العربية السائدة تفكر وتخطط وعل كما لو أنها تريد أن تحول الثقافة العربية الى هيكل ضخم مليءٍ بالأنصاب والأزلام، تحرسه ملائكة الرقابة: للكلام على السياسة حدود، للكلام على الدين حدود، للكلام على المرأة والعائلة. الزواج والجنس، الجسد والشهوات حدود. للكلام على الآخر المختلف حدود. لا تزول الحدود إلا في المَدْح والهجاء: مَدْح السلطة القائمة، أياً كانت، وهَجْو أعدائها أياً كانوا. بل حتى في هذا الهجاء وهذا المدح، تُمْلى غالباً مفردات وصيغ وعبارات. كيف يمكن، في مثل هذا المناخ، أن يكون إبداعٌ في أي مجال؟ وقبل ذلك، كيف لا تتراجع اللغة نفسها - وتنكمش وتموت؟ الحق أن مسألة اللغة العربية اليوم ليست في مجرد تحسين وسائل تدريسها، أو تحسين مناهج التربية، في شكل عام، كما توحي الجهود التي تقوم بها هذه المؤسسات أو بعضها أو غيرها في هذا المجال. ونعرف أن هذه جهود قديمة، لكننا نعرف كذلك أنها لم تؤدّ، بتنويعاتها كلها، إلا الى أن يزداد وضع اللغة سوءاً وتدهوراً، وإلا الى انصراف الأجيال العربية الطالعة عن لغتهم الأم، الى اللغات الأجنبية، الانكليزية أو الفرنسية أو غيرهما. ليست مشكلة اللغة العربية، في تقديري، مجرّد مشكلة في النحو والصّرف، أو الفُصحى والدارجة. أو لنقل: إن مشكلة اللغة العربية ليست لغوية، في المقام الأول، وإنما هي مشكلة عوائق دينية وسياسية تشلُّ الإبداعية العربية، وتعطِّل طاقات التجديد. فلا مجال، في المجتمع العربي، لإبداعٍ حرٍّ بلا قيود، يحرك اللغة العربية، ويصعد بها الى ذرواتٍ وآفاق معرفية جديدة: يفتّقها، ويفجّرها، بحيث تنشأ تسمياتٌ جديدة، وألفاظ جديدة، وصيغ وتراكيب جديدة، وبحيث تصبح اللغة متحركةً وحيةً كمثل الحياة وكمثل الجسد، لا مجرّد قواعد جامدة في الرأس. كلاّ، لن تتقدّم اللغة العربية، مهما جُدّدت أو يُسِّرت طرق تدريسها، ما دامت ترقد في سرير هذه المؤسسات، سرير الإيديولوجية الدينية - السياسية. بل إنها، على العكس، ستزداد انهياراً، وسيزداد العزوف عنها. هل تريدون، أيّها الحريصون على اللغة العربية، أن تظلّ هذه اللغة حيّة، ناميةً، خَلاّقة؟ إذاً، أحيوا حرية الإبداع، والكتابة، والتفكير. أحيوا الحرية. - 4 - سهام الشاعر - 1 - ابن النابلسي 363 ه. شاعرٌ كان ينتقد المُعِزّ الفاطمي. قُبِض عليه في دمشق، وأُرسل الى مصر. سُلِخ، كما تقول الرواية، وحُشي جلده تِبْناً، وصُلِب. عندما وصل الى مصر، سُئل: هل أنتَ القائل: لو أنّ معي عشرة أسهم، لرميتُ تِسعةً في المغاربة، وواحِداً في الروم؟ فأجاب: نعم. - 2 - تُرى، أين يَرمي الشاعر العربيّ، اليوم، سهامه؟