قبل خمسين عاماً، شهد العالم ولادة أداة لم تكن معروفة من قبل حملت اسماً رمزياً هو "الفأس". ويعرف علماء الاجتماع ان اختراع فأس الحديد، قبل خمسة آلاف سنة، غَيَّرَ وجه الارض كلها، لانه مَكَّن الانسان من الزراعة المُنَظَّمَة والتدجين. وما زالت ثورة الفأس تُدَرَّس في كليات علوم الاجتماع عالمياً، باعتبارها نموذجاً من اثر التكنولوجيا على مسار الحضارة. لم تكن "الفأس" التي ابتُكرت في اميركا، بعد الحرب العالمية الثانية بأقل شأناً. فعلى نحوٍ مُشابه، حمل أول غيتار اميركي صُنِّع في ربيع 1954 اسم "الفأس" اي "ايكس" باللغة الانكليزية. حينها، ازدراه الكثيرون. وصفوه ب"مجذاف قارب هندي مربوط بسلك كهربائي". لكنه غيَّرَ وجه الموسيقى على نحو جذري. ومع اختراعه، دخلت الموسيقى عصر الصوت الالكتروني. لم يعد النغم هو ما تصنعه يد الانسان الضاربة على الالة فقط، بل دخل بينهما "وسيط" جديد هو الالكترونيات. لم يكن غريباً ان يترافق ظهور الغيتار الكهربائي مع الافراط في استخدام مكبرات الصوت في الحفلات والمنازل على حد سواء. كان الغيتار اول صوت الكتروني. وناسب صوته النافر والقوي، ذوق الخمسينات من القرن الماضي التي كانت تختمر بالتمرد. وفي تلك الاونة، كانت اوساط الشباب الاميركي تلتقط نغماً جديداً، وتهتز معه اجسادها واهواؤها بقوة ونشوة. تلك كانت فترة صعود موسيقى "الروك". وحمل الغيتار الكهربائي عالياً ألحانها الفوارة ليهز بها الهواء الطلق في الفراغات الفسيحة التي كانت الامكنة المفضلة لحفلات الروك الصاخبة والملأى بالشهوات. اندفعت موسيقى الروك الى المتنزهات العامة والشوارع، في الوقت الذي تمترست فيه موسيقى "الجاز" في الحانات والكباريهات والملاهي الليلية وما يشابهها. بعد سنوات قليلة، رافق الغيتار الكهربائي احد اضخم موجات تمرد الشباب التي لا تنسى، اي ثورة الطلاب في ستينات القرن العشرين عبر العالم. في القلب من رموز تلك الثورة، هناك فرقة البيتلز، ومنافسها اللدود ملك الروك الفيس بريسلي. انها الموسيقى التي قدر لها ان تهز العالم، حرفياً. وفي اميركا، كان الحدث الأبرز في تمرد الستينات هو حفلة الموسيقى والجنس في متنزه "وود ستوك" عام 1969. صار "وود ستوك" ايقونة تمرد الشباب في كل العالم. وفي القلب من "وود ستوك"، ضجت موسيقى الغيتار الكهربائي بالروك. اهتزت الاجساد بالرقص، الذي مُهَّد لاهتزازها بالجنس، حتى الثمالة. من البدايات الى ال"تكنو" اذاً، ففي عام 1954، تمكن الاميركي كلارنس ليونيديس فيندر من اطلاق غيتار كهربائي حمل اسم عائلته. وبالفعل، جاء غيتاره على هيئة مجذاف هندي له اوتار وسلك كهربائي. ادى النجاح القوي لل"فيندر" الى تدفق الاموال على الاربعيني فيندر، فأسس شركة تخصصت في انتاج تلك الالة. لم يكن اول من فكَّر في انتاج الموسيقى بأصوات الكترونية. ترجع البدايات الاولى للغيتار الكهربائي الى عام 1929، حينما فكر عازف الغيتار الشهير، ومؤلف الموسيقى الكاونتري، ليس بول في ادخال "ابرة" كهربائية الى الغيتار العادي. بعده حاول الاميركيان بول بيغيسبي وريك كينبايكر تطوير الغيتارين الهاوياني والاسباني، على التوالي، من دون نجاح كبير، ولاسباب عدة. في العام 1950، توصل فيندر الى نموذج اولي من الغيتار الكهربائي، حمل اسم "تيليتاستر". لكنه لم يكن عملياً. وكرر المحاولة مع غيتار "بريسيجين باس". وفي السنة التالية، نسَّقَ فيندر عمله مع موسيقيين، مثل بيل كارسون وريكس غاليون من اجل صنع آلة سهلة الاستعمال، وكذلك سهلة التصليح وتعطي اصواتاً موسيقية قابلة للاستخدام العام. واعطى فيندر مسألة السعر اهتماماً مناسباً. وهكذا، اطلق الغيتار الكهربائي "ستراتوكاستر" Stratocaster، الذي اشتهر باسم "الفأس" بسعر 250 دولاراً. والحال انه سعر متوسط، ذلك انه يساوي 1600 دولار اذا احتسبنا التغيير في سعر الدولار عبر نصف قرن. وناسب "ستراتوكاستر" انواع موسيقى الروك كلها" مثل "روك اند رول" و"سيرف روك" و"هارد روك" و"بسايكديليا" و"هيفي ميتال" و"غرانغ" وحتى ال"راب". ولعل اشهر "ستراتوكاستر" هو ذاك الذي استخدمه مغني الروك جيمي هندريكس في حفلة "وودستوك" الشهيرة. ففي تلك الحفلة، عزف هاندريكس لحناً يلخص مزاج الشبيبة الاميركية وتمرداتها "ستار سبارنغيلد بانر" اي "العلم المبعثر النجوم"! وكما يوحي الاسم، فقد جاء اللحن محاكاة احتجاجية، بموسيقى الروك اند رول، على النشيد الوطني الاميركي. وناسب الامر مزاج الشبيبة المحتج بقوة، حينها، على الحرب الاميركية في فيتنام. والطريف ان هذا الغيتار بيع مرات عدة في معرض "سوذثبي" الشهير للمزادات. ووصل اخيراً الى يد مهندس الكومبيوتر بول الن، الذي شارك بيل غيتس في تأسيس شركة "مايكروسوفت". وبقي المبلغ الذي دفعه الن لقاء غيتار هيندريكس سراً طي الكتمان. ولمناسبة الذكرى الخمسين، تعكف شركة "فيندر" على انتاج نسخ مماثلة طبق الاصل من الغيتارات المئة الاولى التي انتجت في عام 1954، يبلغ سعر النسخة الواحدة اكثر من خمسة ملايين دولار! ولم يكن الغيتار الكهربائي سوى المقدمة لمجموعة من الالات المشابهة. وسرعان ما صارت الموسيقى تعزف على الاورغ الالكتروني، الذي يعطي مجموعة من الاصوات. ثم جاءت آلة التوليف الشهيرة "سنيثيتايزر". والحال ان "سنيثيتايزر" احدث بدوره ثورة من الموسيقى التكنولوجية. فمن الناحية العملية، يقدر "سنيثيتايزر" على تركيب الالحان كافة، اضافة الى قدرته على تقليد الصوت البشري نفسه. واعتماداً على تلك الآلات، ظهرت انواع جديدة من الموسيقى التكنولوجية التي تمثل انغام ال"التكنو" نموذجها الاوضح. وتلاقي هذه الموسيقى الالكترونية هوى الشبيبة في العالم. ومثلاً، تخصص الشبيبة راهناً تظاهرة اساسها موسيقى "تكنو" هي "مهرجان الحب" الذي ينتظم سنوياً في كل ربيع في مدينة برلين. وتقضي الشبيبة اربعة ايام مكرسة للحب وللموسيقى التكنولوجية التي كان الغيتار الكهربائي طليعة آلاتها.