الهلال يفقد خدمات مالكوم امام الخليج    الأهلي ينتصر على الفيحاء بهدف رياض محرز    «الصحة الفلسطينية» : جميع مستشفيات غزة ستتوقف عن العمل    منتدى المحتوى المحلي يختتم أعمال اليوم الثاني بتوقيع 19 اتفاقية وإطلاق 5 برامج    اعتماد معاهدة الرياض لقانون التصاميم    القبض على 4 مقيمين في جدة لترويجهم «الشبو»    المملكة توزع 530 قسيمة شرائية في عدة مناطق بجمهورية لبنان    انطلاق مهرجان الحنيذ الأول بمحايل عسير الجمعة القادم    «طرد مشبوه» يثير الفزع في أحد أكبر مطارات بريطانيا    فيتنامي أسلم «عن بُعد» وأصبح ضيفاً على المليك لأداء العمرة    شقيقة صالح كامل.. زوجة الوزير يماني في ذمة الله    هل يعاقب الكونغرس الأمريكي «الجنائية الدولية»؟    «الزكاة والضريبة والجمارك» تُحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة كبتاجون في منفذ الحديثة    باص الحرفي يحط في جازان ويشعل ليالي الشتاء    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    الرعاية الصحية السعودية.. بُعد إنساني يتخطى الحدود    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    الذهب يتجه نحو أفضل أسبوع في عام مع تصاعد الصراع الروسي الأوكراني    الملافظ سعد والسعادة كرم    استنهاض العزم والايجابية    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    حلف الأطلسي: الصاروخ الروسي الجديد لن يغيّر مسار الحرب في أوكرانيا    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    «السقوط المفاجئ»    حقن التنحيف ضارة أم نافعة.. الجواب لدى الأطباء؟    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    فعل لا رد فعل    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    ترمب المنتصر الكبير    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    فرع وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية بحائل يفعّل مبادرة "الموظف الصغير" احتفالاً بيوم الطفل العالمي    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    استضافة 25 معتمراً ماليزياً في المدينة.. وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة    «المسيار» والوجبات السريعة    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من نبوخذ نصر الى أبو عدي . جرائم شرقاً وغرباً من ضحاياها الوطني الفلسطيني سعيد حمامي 2 من 2
نشر في الحياة يوم 07 - 02 - 2004

عرض الكاتب أمس وجوهاً من تجربته مع الحضور الصدّامي لدى نخب عربية وغربية. وهنا يتابع وينهي.
آمل أن الكلّ فرح لرؤية اعتقال صدّام حسين الذي اشتهر بجرائمه. لا بدّ من أنّه في المرتبة الثانية من القتلة الجماعيين للألفية الجديدة، لكنه ما زال متخلّفاً عن البابا الذي بسبب سياساته غير المسؤولة والرعناء حول منع الحمل والايدز ستؤدي الى موت ملايين الناس في السنوات القادمة. ان جرائم صدّام بحق شعبه معروفة وموثقة في كتابي كنعان مكّية "جمهورية الخوف" و"القسوة والصمت"، اللذين ندد بهما المفكرون العرب وبعض المهاجرين في مدينة نيويورك وذلك لانهما قد يسهمان في ازدياد الاذى الغربي ضد العرب. الا انني اود اضافة التالي الى لائحة الاتهامات هذه: في السبعينات، تعرّفت الى ديبلوماسي عراقي كان ناشطاً في لندن. تسلّم منصبه هذا ليعوّضوه عن عمليّة خطف زوجته واغتصابها من قبل حرّاس صدّام. زرت بغداد مع زميلي في ربيع الثمانينات وقمت بالقاء محاضرات في الجامعة. كان صدّام آنذاك يحاول اظهار العراق كقلعة الثورة العربية وكان ينظم مؤتمراً كبيراً في بغداد. وصادف ذلك الوقت ايضاً عيد تأسيس حزب البعث، فضجّ العراق بالطقوس المأخوذة من الفاشية الاوروبية والممارسات الاحتفالية الشيوعية المرافقة للمناسبة: في احدى المناسبات، كنّا نقيم مقابلة مع أحد "منظري" الحزب، رجل متملّق، أحد المرتدّين الى العراق من حزب البعث الخصم في سورية، حين وصل اطفال ومصوّرون لاعطائه، وضمناً نحن، باقات من الورود في ذلك اليوم السعيد. حقّق صدّام ضربة موفّقة في المنافسة الداخلية في حزب البعث عبر حثّ واحد من أبرز المؤسسين التاريخيين للحزب وهو ميشال عفلق على العيش في بغداد: عفلق الذي كان سورياً مسيحياً نادى، كما فعل العديد من القوميين العرب، بأنّ للعرب صلة خاصّة مع الله وذلك من خلال الاسلام. حتّى أنّ شعار الحزب - حزب بعث واحد ذات رسالة خالدة- يستغلّ الصدى الثنائي، السياسي والديني لكلمة "رسالة" النبي محمد هو الرسول. لم يشاهد عفلق أبداً بين الجماهير وبينما كان على فراش الموت بعد سنوات عدة، سارت اشاعات أنّه وهو في ذروة حياته كزعيم حزب البعث، اعتنق الاسلام. كما أنّ عنصراً آخر أضافه البعثيون السوريون الى العراق، ملحقين المزيد من الضرر الموجود أصلاً ومغروس في الكتب المدرسية القومية لتلك المرحلة الملكية، هي العداء للفرس والنظر اليهم كعدو ابدي ولدود للعرب. انهم "صهاينة الشرق" أكثر بكثير من نظرائهم الاحدث والاقل عدداً في الغرب. ان الطرد الجماعي للافراد ذات الاصول أو الاسماء الفارسية من العراق في الثمانينات ارتكزت الى هذا التشوّش الايديولوجي العميق: وقد يبرهن ذلك الكتاب الذي كتبه احد أخوال صدّام، وأجبره في المدارس، "ثلاثة اشياء ما كان ينبغي أن يخلقها الله: الفرس، اليهود والذباب" انتبه الى التسلسل.
واستخدم حزب البعث خلال سنوات حكمه مزيجاً من التقنيّات، العناوين والتفاخر المأخوذ من الانظمة التوتاليتارية في اوروبا. في نيسان أبريل 1980، قام صدّام بعمليّة تطهير دامية للاخصام في حزبه الداخلي، وقد اختيروا وسحبوا من اجتماع الحزب وأعدموا بعد جرّ استعراضي. قتل عشرون شخصاً تقريباً منهم مسؤولون بارزون في الحزب كعبد الخلاق السماراي الذي كان مسجوناً منذ 1973 حيث خطّط، كما قيل لنا وافترض منا تصديقه، أنه كان يتآمر مع الخائن حافظ الاسد لشن انقلاب في العراق لصالح المتآمرين الامويين الجدد في دمشق. تعلّم صدّام الدرس الابرز في كل الديكتاتوريات، اولاً قتل المذنب لكن ما يفيد حقاً هو قتل البريء. اكتسب روحية المثل الروسي: "اغلب جنسك انت، فيحترمك الآخرون". قام صدّام ورفاقه بحضور عملية الاعدام وقام اعضاء من حزب البعث، بمن فيهم طلاّب في هذا البلد استدعوا الى السفارة رؤية الاعدام، كما قيل لي، وشاهدوا فيلماً في تلك المناسبة. قصدت أماكن غير جميلة في حياتي، ايران الخميني حيث شاهدت 100 الف شخص يعتصمون صارخين "الموت لليبرالية"، عبارة أُخذت من الحزب الشيوعي، وتنبّهت أنهم قصدوني أنا اضافة الى الارهاب الاحمر في اثيوبيا. لكنني لم أشعر بذلك الخوف إلا في العراق. قال لي بروفسور مرّة بطريقة استسلامية: "حين أفتح رسائلي في الصباح، لا اعلم ان كنت سأعين سفيراً أو أُعدم وفي كلتا الحالتين، لا اعرف السبب". كانت بغداد معقلاً للتنوع الاثني والثقافي: فاليهود الذين كانوا يشكّلون 10 في المئة من السكّان في التسعينات غادروا العراق في أواخر الاربعينات وكانت مغادرتهم ثمرة مزيج من الاغواء الاسرائيلي والعداء العربي القومي. كما كانت سكنت العراق مجموعة كبيرة من الافراد الذين يتكلمون الفارسية وكانت موجودة منذ أن حكمت ايران بغداد وحين كانت الثقافة الايرانية قد نفذت الى الامبراطورية العباسية، ثاني أكبر امبراطورية من الامبراطوريات الاسلامية الثلاث بعد الامويين وقبل العثمانيين.
ولسخرية الاقدار انه، في خضم العبثية حول رشدي وأسلحة الدمار الشامل، قلّة لاحظت أنّ الفارسي الاول الذي اعتنق الاسلام، سلمان الفارسي، وجد مدفوناً في مدينة صغيرة خارج بغداد، على طريق مدينة "ستسيفون" القديمة المسمّاة "سلمان باك" ذلك الموقع الذي يفترض أن توجد فيه ايضاً اسلحة الدمار الشامل وأحد مواقع مدارس التدريب الاستخباراتي حيث يقال انّ عملاء أجانب لصدّام تدربوا فيه. وما زالت ذكرى العباسيين تسكن العراق: سقطت بغداد في عام 1258 حين سيطر القائد المغولي هولاكو على المدينة: استخدم صدّام عبارة "هولاكو" عندما ندّد ببوش الاب والابن. لكن في ذاك الربيع من عام 1980 كان لكل شيء نهاية. وتصاعدت حدة التوتر مع ايران ما أدى الى طرد آلاف الاشخاص على الحدود الايرانية. في هذه المعمعة، كان الشعب معنيّاً بتأثيرات الثورة الايرانية وتصاعدت النداءات الموجّهة الى العراقيين بالوقوف ضدّ يزيد صدّام حسين تيمّناً بأحد الحكام السنّة الذي قمع الشيعة.
سألت رجلاً لماذا لم يكن العراق ودوداً مع ايران فأجاب: "انني سعيد انهم اعلنوا الثورة. لكن لماذا كان عليهم أن يصرخوا كثيراً؟ كنّا شيعة قبلهم. واندلعت عندنا ثورة قبل ثورتهم. يجب أن يهدأوا". هذا الامل، المشابه لأمل المسؤولين السوفيات حول "عودة الملا الى صوابهم" في بداية أيام الثورة الاسلامية في ايران، استغرق وقتاً طويلاً للتحقق.
وفي يوم من الأيام، كان من المفترض أن نلتقي طارق عزيز، الرئيس الصوري بالنسبة إلى العالم. إلا ان أحدهم، يُقال إنه عميل إيراني، كان قد حاول اغتياله في ذلك الصباح عندما كان في زيارة إلى جامعة المستنصريّة. وفي الليلة التالية، ظهر صدام على شاشة التلفاز ليعلن عن ثأره: "سنقابل الدم بالدم." وقد نعت أعداءه "بالجبناء والأقزام" وأعلن بأسلوبٍ خاص به إن "العراقيين سيرقصون بسعادة على أجنحة الموت". وتغطي خطابة صدام على القادة العصريين الأكثر انتقائية في الكلام، إذ يمزج عشرين قرناً من الدهماوية بالحديث عن الفرسان على ظهر الخيل، وتفسير الأحلام وذكر المعارك التي حصلت في مطلع الإسلام. أما الصورة التي غالباً ما يستعملها، والتي ينقلها المترجمون الى الانكليزية خطأً، فهي تلك التي يشبه أعداءه فيها إلى "وطاويط" التي لا تعني أنه يظنهم مجانين، بل انهم مثل الوطاويط أي الوحوش الليلية التي تتفرق في بقاع الأرض كلها عندما يبزغ نور الفجر أي حزب البعث هنا.
نشبت الحرب بين إيران والعراق في أيلول سبتمبر، عندما اجتاح العراق إيران واستمرت لغاية شهر آب اغسطس من العام 1998 مخلفةً حوالى مليون ضحية. وكانت هذه الحرب الأكثر كلفة في تاريخ الشرق الأوسط الحديث الحروب العربية - الاسرائيلية الخمس والغارات على لبنان والانتفاضتان تقدر بحسب الأرقام الغربية بحوالى 100000. وقد كانت تلك الحرب ثاني أطول الحروب في القرن العشرين إذ إن الحرب بين اليابان والصين من 1937 إلى 1945 كانت أطول بشهرين فقط. لم ينخفض سقف خطابة صدام جراء هذه الحرب. وقد نقل ديبلوماسي كوبي، كان يرافق بعثة عسكرية من بلاده للقاء صدام، إنه أعلن: "سنسحقهم كالصراصير". وقد علمت في هافانا منذ بضع سنوات أن صدام حاول إغراء السلطة الكوبية بخدعه المعتادة، كما فعل مع الكثير من الدول العربية المجاورة، فأغدق على كبار الشخصيات الرسمية الهدايا من ساعات الذهب إلى السجاد. وقد حاول مصادقة جراح كوبي كان قد عالجه في بغداد، وقد أصبح هذا الأخير الرئيس غير الرسمي للوبي الذي يدعم العراق في الجزيرة الكاريبية تلك.
كانت المشكلة بالنسبة لي في بغداد انني في كل اجتماع كنت أحضره، كان الشخص الذي يستضيفني يقدم لي خطب صدام في جزءين. وكان من المخاطرة بشيء أن أفعل بها ما كان ليفعل أي شخص عاقل فألقيها في المهملات عندما أعود إلى الفندق. وفي النهاية، أصبح في حوزتي 12 كتاباً، فوضعتها في حقيبتي بغية العثور على مكان يلائمها. كان عدد من الكتاب بمن فيهم كنعان مكية وأمتزيا برام قد طبقوا فوكو واصحاب نظريات أخرى في الخطابة والقوة على الايديولوجية البعثية، ولقد إستفدنا جميعنا منهم. بعد أعوام عدة، التقيت طالباً في الألسنية يدعى عبدالله الحراسي من جامعة آستون، كان قد كتب رسالة دكتوراه رائعة بطريقة السخرية والتهكم حول خطب صدام، وعنوانها: المجاز في الترجمة من العربية إلى الإنكليزية مع اسناد خاص إلى المفاهيم والتعابير المجازية في الخطاب السياسي، وهو كتاب رائع فعلاً على رغم موضوعه المليء بالألغاز، إذ يعيب على كتاب ما بعد الحداثة السخرية والمجاز وغياب المبنى. عندما وصلت إلى مطار هيثرو في الصباح الباكر وقد أصبت بدوار طفيف من جراء الرحلة، لم استطع التقاط حقيبتي فوقعت وبقيت لمدة شهر مستلقياً. ينبغي أن تدرج هذه الحادثة بين جرائم حزب البعث. الأهم هي حادثة ما زالت حية في ذاكرة كل خبير عربي أو بريطاني في شؤون الشرق الأوسط عاش في لندن في ذلك الحين وهي اغتيال ممثل منظمة التحرير الفلسطينية سعيد حمامي في مكتبه في ماي فير في العام 1978. وكان حمامي رجلاً صالحاً بعيداً كل البعد عن الخطابة المفرطة كما هي حال معظم زملائه المناضلين، كما أنه كان أول عضو من منظمة التحرير الفلسطينية الذي اجتمع علناً بالاسرائيليين واقترح حل الدولتين. وبدافع من نائب عرفات في ذلك الحين، أبو إياد، التقى حمامي علناً بأعضاء من الكنيست وشيوعيين عرب واسرائيليين مستقلين، من بينهم يوري أفنيري والجنرال بيليغ. لذا، اغتيل وممثلون آخرون لمنظمة التحرير في أوروبا. واستغرقت منظمة التحرير عشر سنوات أخرى واغتيالات أخرى لتتوصل إلى الاستنتاج عينه. لو سمعت كلمة سعيد في ذلك الحين، لكانت المنظمة تجنبت مشاكل كثيرة. ومن العزاء أن نعلم، إثر اعترافه بذلك في ما بعد، أن قائد المجموعة التي نفذت هذه الاغتيالات هو أبو نضال وبأمر من صدام الذي قتله أخيراً في محاولة فاشلة لاسترضاء الغرب. ويتحدث باتريك سيل عن هذه الأحداث كلها في كتابه حول أبو نضال والحلف الذي أدى إلى مصرعه مع صدام.
وفيما هو يتعفن في السجن، من المجدي أن نتذكر ما قاله بعض من اجتمع بصدام. ومن بين هؤلاء، صحافي استرالي كان في بغداد وقد أوقظ في منتصف الليل ليجري مقابلة مع الرئيس. وبعدما طرح عليه جملة من الأسئلة العامة غير المحضرة والتي كانت تترجم بين العربية والانكليزية، سأل الصحافي صدام عن فيلمه المفضل. فكان الجواب بالانكليزية: العرّاب، وقد قالها من دون سخرية. فصدام الذي ولد في تكريت في شمال العراق يحاكي قاتلاً آخر ولد على بعد 450 ميلاً منه في جورجيا وهو جوزيف ستالين. وقد علمت مؤخراً من المؤرخ ايريك هوبسبوم أن صدام زار جورجيا في السبعينات ليتفقد بنفسه الأمكنة التي ترعرع فيها جوزيف فيساريونيفيس. ويتذكر يفغيني بريماكوف، الذي كان لفترة طويلة الخبير في موسكو في حل النزاعات العربية، أنه عندما التقى صدام سأله عن ستالين من دون أن يعلم أن أهله كانوا ضحية سياسة التطهير. التقيت بريماكوف بنفسي عندما كان مدير المعهد الشرقي في موسكو في العام 1982 ولاحظت على مكتبه بعض الهدايا التي تتبادلها الوفود التي تزور الكتلة الشيوعية.
كانت الهدية من الاتحاد العربي للعمال العرب وقد كتب عليها الشعار التالي: "يا عمال العالم العربي، اتحدوا". كنا نتحدث باللغة الانكليزية، إلا انني سألته بالعربية عن رأيه بالطبقة العاملة العربية، فرفع عينيه إلي وابتسم وقال: "أرجوك، لا تسألني عن هذا الموضوع الآن."
وأمام المقارنة بين ستالين وصدام، كان يجدر بي، أنا، مناصر زميلي السابق والمفكر المرحوم البطل إرنست غيلنير، أن أكتب عن علاقة الشوارب والثقافة السياسية والديكتاتورية تحت عنوان "الشوارب والنظام العالمي" حيث أضم أفكاراً لابن خلدون ودايفيد هيوم. إلا أنني لم أتمكن من تجميع افكاري للقيام بذلك. كان من الممكن أيضاً أن أتحدث عن الزعيم الكردي عبدالله أوجلان الذي ولد في القسم التركي من كردستان، وهو في منتصف المسافة بين الإثنين. بالحديث عن الصلة بالديكتاتور السوفياتي، لجأ سعيد أبو الريش إلى مراقب عربي. أتى سعيد، وهو فلسطيني عمل لدى صدام في الثمانينات فحمل له أجزاء من برنامجه النووي، ليتحدث عن كتابه الذي وصف فيه صدام يقابل زائراً وهو السياسي الكردي محمود عثمان في بيته في الصباح الباكر. فقال إن الزعيم العراقي كان جالساً في غرفة منفردة مليئة بالكتب عن ستالين صدام حسين: سياسة الانتقام. ص. 178 عندما نشر الكتاب، راجعته لجريدة بريتيش إنديبندنت وقلت إنني لم أشتر كتاب سعيد الذي يحاول بطريقة ملتوية أن يخلص مسلمات القومية العربية، إلا انني اعتقد انه تحليل بارع عن الرجل. إلا انني وُبّختُ بعد أيام لأسباب اجهلها من قبل ممثل شركة نفط بريطانية مهمة ربما يعرفونه أكثر مني! عاودت قراءة بعض الصفحات من كتاب سعيد الليلة الماضية، ووجدت ما لا يقل عن 21 اسناداً الى ستالين. فوجدت ان الطريقة المظلمة التي كان يتأرجح فيها الأمين العام عندما كان يلقي خطاباً تهديدياً أعاد استعمالها المعجب العراقي به. وقد تلعب السير الذاتية والنكت دوراً مهماً في فهم تفكير هذا الرجل الذي قلما نجد اسمه الاستفزازي بين الاسماء العربية. وأقول لتلاميذي أن لعل افضل كتاب كتب عن صدام نشر منذ 400 سنة من قبل رجل لم يذهب ابداً الى العراق الذي لم يكن موجوداً آنذاك، وهو ويليام شيكسبير في كتاب ريتشارد 3، وبخاصة الخطاب الافتتاحي الذي يقول فيه: "حان وقت شتاء غضبنا".
والتقيت أيضاً بخبير اقتصادي فلسطيني منذ سنوات عدة، المرحوم الاستاذ يوسف صايغ الذي التقى صدام في مؤتمر حول التنمية الاقتصادية في بغداد في العام 1974. ذات ليلة، وفي وقت متأخر، نقلوا في باص الى مكان مجهول. عندما وصلوا، جلسوا الى طاولة وبعدها جاء رجل شاب له شاربان ويحمل مسدساً وجلس معهم. كان يريد ان يعرف المزيد عن التنمية الاقتصادية وقد أجبر صديقي على الشرح. استهلّ الحديث لكنه سرعان ما لاحظ أنه مضيعة للوقت لأن صدام يفتقد الى الثقافة. فكان سؤاله الوحيد عن كيفية استعمال القوة الاقتصادية لتدعيم وضعه. وفي المقابل، قال لي أحد كبار الخبراء الاقتصاديين العراقيين، محمد سلام حسن، ان لا انسى ابداً ان العلاقات والاتفاقات الاقتصادية في العالم العربي لم تكن يوماُ علاقات بين الدول بل بين الأشخاص. حتى هنا، تحدث أحداث غريبة. فمنذ وقت طويل، في أواخر الخمسينات وبداية الستينات، كان صديق لي ولاحقاً زميل في الدراسة، لا ينتمي الى حزب البعث بل الى حزب الوحدة الناصري في الشرق الأوسط، يدرس في القاهرة. تلقى ذات يوم مكالمة من أحدهم يقول ان ثمة طالباً من العراق يحتاج الى مكان يأوي فيه. فاستضافه صديقي في شقته لمدة اسابيع. وبعد مرور سنوات، اكتشف ان ضيفه كان صدام حسين. وعندما تسلّم هذا الأخير مقاليد السلطة، اتصل بصديقي وشكره على استضافته له. وأضاف صدام انه يتوقع ان ينتمي الطلاب الآخرون الى حزب البعث لكنه يترك لصديقي حرية الاختيار. وقد علمت مؤخراً ان صديقي شرح الاحتلال الاميركي للعراق بحسب معتقداته الوحدوية فزعم انه الانتقام للقبض على اليهود في العام 586 ق.م. آمل ان يكون على خطأ.
الى ذلك، ثمة أمر غريب هو ان آخر الموقعين على ميثاق الأمم المتحدة في العام 1945، هو العراقي فضيل جمالي الذي أصبح في ما بعد رئيساً للوزراء ونجم محاكمة بعد ثورة 1958 حين فضح القضاة جميعاً ومتهميه فأعفي من رميه بالرصاص. التقيت به وهو يتمشى في هاي غايت برفقة ولديه وكان قد أتى من زيارة الى تونس حيث كان مستشار الرئيس بورقيبه إلى أن توفي منذ حوالى ثلاث سنوات. وكان قد كتب كتاباً مشوقاً لم ينشره عن سيرة حياته. وكنت قد قرأت الكتاب فاقترحت على الناشر ان تعاد كتابة الفقرة عن القضية الفلسطينية في الأمم المتحدة ودور العراق في ذلك لتتلاءم مع المقتضيات الحالية. وقد أعجبني بشكل خاص التقرير حول العراق الذي اعده الزميلان في مركز "غلوبل غافيرنانس". فقد تحدثا عن تزايد القبلية في العراق، فأشخاص عدة يرتدون ثياباً قبلية مقابل الأزياء الأجنبية، وقد لاحظا في فندقهم رجلاً يرتدي زياً قبلياً ملفتاً للنظر، فاقتربا منه وسألاه عن مسقط رأسه، فأجاب: ايلينغ.
اما الزعيم السياسي الوحيد الذي اعرف انه أهمل المظاهر التاريخية كلها وأكد على عصرية دولته هو رئيس اريتريا اساياس افوركي. وقد ينكر اليوم هذا الرئيس انه كان شديد التأثر بصدام وايديوليجية حزب البعث وأشكال النظام في مرحلة مبكرة من الصراع. ومنذ سنوات عدة، قال افوركي ان اريتريا لا تتطلع الى هوية تاريخية لأنها بدأت كمستعمرة ايطالية في 1890.
بالنسبة لي، حاولت ان اغرس في تلاميذي لسنوات عدة انه على رغم الفظاعات والصراعات في الشرق الأوسط، الا انه مليء بالنكات السياسية. فكنت اوصيهم قراءة كتاب العراقي خالد القشطيني تحت عنوان "السخرية السياسية عند العرب" الذي يوازي كتاب الاستاذ ستيفن لوكس حول الفكاهة السياسية الأوروبية.
وكان الطلاب العرب والأتراك والايرانيون والاسرائيليون يحبون الكتاب. اما الأوروبيون والأميركيون، كانوا يجدونه شديد الجدية. عاد خالد من بغداد حاملاً نكاتاً جديدة عن صدام الا انها، وعلى غرار العديد من القصص المشابهة في المنطقة، غير قابلة للترداد. لكنه اصدر أخيراً كتاباً للأطفال حول الارهاب البعثي تحت عنوان "غداً يوم آخر، حكاية بغداد صدام". ويروي الكتاب قصة سجين خرج من السجن ولم يكن يستطيع الحصول على عمل. فاكتشف انه اذا تزوج امرأة أصبحت أرملة في الحرب ضد إيران سيحظى بمكافأة. وفي النهاية، انتهى به الأمر بالزواج من اربع ارامل ولم يكن ذلك سوى بداية معاناته.
وأختتم هذا المقال بفكرة أخيرة تعود الى الرجل العراقي العظيم والقائد اللامع للمفكرين الشرق أوسطيين في لندن، الاستاذ سامي زبيدة من جامعة بيربيك عن الوضع الأمني في بغداد اليوم: سُئل رجل عاد لتوه من بغداد عن الوضع الأمني في العراق، فأجاب: الوضع الأمني العام رهيب. انت لن تصدق ذلك، فقد قبض على الرئيس بنفسه!
* كاتب بريطاني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.