في علم الأحياء، إمرأتان تركت أعمالهما آثاراً إيجابية بدّلت في النظرة إليه. الأولى ماريا سيبيلا ميريان ولدت في ألمانيا أواسط القرن السابع عشر، ولم تكد تبلغ الثالثة من عمرها حتى توفي والدها فجأة. وتزوجت والدتها بعد سنة واحدة أستاذاً للرسم متخصصاً في الأزهار والنباتات. فكان أول من جذب ماريا نحو علم النباتات شارحاً لها منذ الصغر الحياة النباتية ولافتاً إياها إلى جمال الطبيعة ودورتها في الفصول الأربعة، كما أرشدها إلى كيفية رسم تفاصيل الأزهار والنباتات ونقلها بصدق على الورق. وبقيت ماريا مفتونة بالنباتات إلى أن تزوجت وأنجبت ابنتين بثّت فيهما حب الطبيعة منذ الصغر. ولم تكد تبلغ الخامسة والثلاثين حتى طلّقت زوجها وانطلقت للعيش بعيداً مع ابنتيها ووالدتها الأرملة، هرباً من المشكلات التي تلاحق أي مطلّقة في ذلك القرن. وبعد وفاة والدتها، عادت ماريا إلى أمستردام حيث عاشت مع ابنتيها الصبيّتين. وهناك، التقت الابنة الكبرى تاجراً من أميركا الجنوبية أُغرم بها وطلب يدها للزواج، متودداً للأم عبر وصفه لها بلهفة جمال الطبيعة الافريقية ووفرة نباتاتها وحيواناتها غير المألوفة. ففتنت بما سمعت خصوصاً أنها كانت رأت تلك الحيوانات والنباتات "مجففة" سابقاً لدى هواة الجمع الأوروبيين. وللمرة الأولى، قادها شغفها إلى أبعد مما كانت تتوقع وتحكّم بحياتها التي كانت تعتبرها رتيبة ومملّة. بقيت 24 شهراً في الغابات والأدغال، تدرس المحيط الطبيعي للنباتات والحيوانات المفترسة إلى أن أصيبت بمرض الملاريا الذي أجبرها على العودة إلى ديارها حيث أصدرت أول كتاب لها عن أبحاثها ودراساتها الميدانية العام 1705، مما أرسى شهرتها العالمية فوراً خصوصاً أن ما من رجل أو امرأة وصل إلى عمق الأبحاث النباتية والحيوانية كما فعلت هي. وبقيت ماريا تنظّم أبحاثها بهدف إصدار كتب أخرى. ولم تثنها أزمة قلبية عن نشاطها الذي تابعته طوال 6 أعوام على رغم أنه لم يدرّ عليها الأموال الوفيرة. فتوفيت العام 1717، وسجلت في سجل المدينة على لائحة الفقراء الذين لم يدفنوا في مدفن خاص، إلا أن ابنتها تدبّرت الأمر لتحصل والدتها على لوحة تذكارية فوق مكان دفنها. وعملت على نشر ثلاثة كتب لاحقة لها في السنة التي تلت موتها جامعة كل نشاطها طوال حياتها المهنية. والثانية من الصين الشيوعية، ولدت يي شينغ وونغ العام 1947 من أب رجل أعمال ووالدة غير متعلمة. هاجرت مع عائلتها في الخامسة من عمرها إلى المستعمرة البريطانية آنذاك هونغ كونغ حيث تلّقت علومها في مدرسة كاثوليكية، طلبت فيها الراهبات من الوالد تبديل اسم ابنته "الصيني" إلى آخر بريطاني أسهل على اللفظ. ولم يكن الوالد يتقن اي كلمة إنكليزية، فانتقى "فلوسي" وهو اسم إعصار قوي كان تردد اسمه في الصحف كثيراً بعدما ضرب هونغ كونغ قبل يومين. وشعرت فلوسي طويلاً بإحراج كبير من جراء اسمها الطريف الذي عرّضها لسخرية تلاميذ المدرسة، مما جعلها تنكب أكثر على الدراسة، لا سيما على مادتي العلوم والرياضيات. فلاقت الدعم التام من والديها وعائلتها التي لم تضمّ أبداً أي فرد تلقى علومه الثانوية. وكانت كلما تتعمق في دراسة العلوم، تشعر بأن هذه المادة تجذبها بشكل لافت. ولم تكد تنهي علومها الثانوية الا انها حازت في لوس أنجليس على شهادة في البيولوجيا الذريّة. ثم انتقلت إلى جامعة سان دييغو في كاليفورنيا لحيازة دكتوراه في المادة نفسها. هناك، تعرفت إلى زميل وتزوجت مضيفة اسم ستال إلى عائلتها. إلا أن الأبحاث العلمية كانت أقوى من حبها، فطلّقته محتفظة بالاسم، وانكبت وحيدة على دراساتها بعدما التحقت في أوائل سبعينات القرن الفائت بالمعهد الوطني للسرطان في ماريلاند حيث عملت مع الباحث العالمي روبرت غالو، الذي يترأس الفريق الذي ساهم في اكتشاف فيروس HIV المسؤول عن مرض فقدان المناعة المكتسبة ايدز. ولم يكد يبدأ عقد الثمانينات حتى برز انتشار وباء ال"ايدز". فانكب الباحثون لاكتشاف اسبابه وعزل الفيروس الذي يولّده، وكانت فلوسي من ضمنهم مع فريق روبرت غالو. وحصر الفيروس العام 1983. وكانت فلوسي اول من استطاع استنساخ الفيروس بعد سنتين، راسمة خريطته الجينية، ما شكل خطوة عملاقة سمحت سريعاً بوضع الاختبار الناجح لكشف الفيروس في الدم، وحال بالتالي دون انتقاله. وفي العام 1990، انتقلت فلوسي إلى جامعة كاليفورنيا في سان دييغو حيث ترأست فريق أبحاث اختصاصي، وشرعت في البحث عن لقاح للفيروس وعن علاج ناجع للمصابين بالإيدز. وهي تتعاون مع مراكز أبحاث خمسة أخرى موزعة في الولاياتالمتحدة الأميركية من أجل وضع مخطط للحؤول دون تكاثر خلايا الإيدز في داخل الجسم المريض. وهي تعمل على جبهتين: الأولى علاجية جينية عبر اكتشاف اللقاح ضده والثانية بالتعاون مع شركات الأدوية لاكتشاف دواء يبطئ تكاثر خلاياه. وقد تمكنت أخيراً من تحديد خريطة اصطناعية تسمح للخلايا البشرية بنبذ الفيروس الحقيقي.